الفصل 43 : حديقة الأميرة ⁴
‘أين ذهب الجميع؟’
كان ممرّ القصر هادئًا على نحوٍ غير معتاد. وكلّما اقتربتُ من الحديقة الملكيّة، كان شعورٌ مشؤوم يزحف إلى صدري.
“…أعتقد ذلك؟”
قبل أن يظهر مدخل الحديقة، سمعتُ أصواتًا قادمة من الجهة الخلفيّة للممرّ المنعطف. حاولتُ تخفيف وقع خطواتي واقتربتُ من خلف الجدار.
كان هناك امرأتان تقفان أمام باب الحديقة.
السيدة التي ترتدي فستانًا بتصميمٍ رائج وتحمل مروحة فاخرة كانت تقف وظهرها للباب، وتُعيد على الخادمة الواقفـة أمامها تعليماتها من جديد.
“تذكّري جيّدًا. زهرة القمر.”
“حاضر. لكن… هل هي فقط زهرةٌ بيضاء؟ هل لها ميزةٌ أخرى…؟”
“آه، نعم! قلتُ لك ذلك! الاسم مكتوبٌ بالكامل على اللوحة الموضوعة هناك. فقط اقتلعيها. إن فعلتِ، فسيكون هذا لكِ.”
قالت ذلك بنبرةٍ عصبيّة وهي تُخرج كيسًا أحمر من صدرها وتهزّه أمام الخادمة. كان شيءٌ ما في داخله يصطدم ليُصدر رنينًا معدنيًّا.
“في وقت العشاء سيكون الجميع مشغولين بالتحضير، لذلك سيكون ذلك الوقت مناسبًا.”
“نعم! لا تقلقي يا سيدتي.”
ارتسمت ابتسامةٌ واسعة على وجه الخادمة حين رأت الكيس في يد السيدة.
ناولتها السيدة مفتاحًا، فهرولت الخادمة مبتعدة عن الحديقة.
كانت السيدة تحدّق في ظهر الخادمة وهي تختفي عند طرف الممرّ، ثم بدأت تعبث بقفّازاتها البيضاء المزيّنة بالدانتيل وهي تتمتم:
“لا حاجة لأن أقوم أنا شخصيًا بأمرٍ كهذا، أليس كذلك؟”
وبعد أن تأكّدت من خلوّ المكان، غطّت فمها بمروحـتها وانصرفت بخطوات سريعة.
“ها…!”
لم أتنفّس الصعداء إلا بعد أن رأيتُ السيدة تختفي في الجهة المقابلة من الممرّ.
لم تكن تلك السيدة سوى الآنسة نيلي ابنة الكونت.
من المستحيل أن تُقدِم على خطوةٍ منفردة كهذه بنفسها. لا بدّ أنها تتحرّك بأمر شخصٍ آخر.
والشخص الوحيد الذي يملك مفتاحًا آخر للحديقة غير مفتاحي… هو شخصٌ واحدٌ فقط.
‘صحيح. لم يكن الهدوء طبيعيًّا أصلًا.’
حتى لو كنتُ أعرف السبب، لم أستطع منع تنهيدة تعبٍ من الإفلات. كنتُ أظنّ أنني تجنّبتُ استهلاك مشاعري بلا داعٍ، لكن… كالعادة، لم يكن الأمر بهذه السهولة.
وإن سارت الأمور كما ترغب الأميرة هذه المرّة، فستكون تبعات النتيجة كبيرة للغاية. ولا يمكنني السماح بحدوث ذلك.
‘ماذا عليّ أن أفعل؟’
وبينما كنتُ أفكّر في طريقةٍ للتصرّف، استدرتُ عائدةً نحو العربة.
حينها جذب انتباهي أحد المزهريات المزينة في الممرّ. أو بالأحرى… الزهرة الموضوعة داخلها.
وفي تلك اللحظة لمعت فكرةٌ في ذهني.
فسارعتُ بالعودة إلى حيث أتيتُ.
كنتُ بحاجة إلى شيءٍ واحد… في الحال.
***
في وقت متأخر من بعد الظهر، قبيل غروب الشمس، فُتح باب الحديقة من جديد.
دخلت امرأةٌ ترتدي زيّ الخادمات بحذر، تنظر خلفها بين الحين والآخر، ثم اتجهت مباشرةً نحو وسط الحديقة.
“أوه…؟”
ارتسمت على وجهها علاماتُ الارتباك. كان أمامها نوعان من الزهور مزروعان جنبًا إلى جنب. كلاهما أبيض اللون ومتشابهان في الشكل.
أعادت الخادمة تذكّر ما قيل لها قبل قليل.
“…الاسم مكتوب على اللوحة. فقط زهرةٌ بيضاء….”
كان صوت نيلي العصبي يتردّد في رأسها.
وبينما كانت تنظر بين الزهرتين، لمحت أخيرًا اللوحة.
[زهرة القمر]
“هذه هي!”
اقتربت الخادمة من اللوحة واقتلعت الزهرة من جذورها دون تردّد.
سرعان ما كانت جميع الزهور المزروعة خلف اللوحة في يدها… دون أن تترك واحدةً وراءها.
غادرت مسرعة بعد أن حققت هدفها، وعادت ظلال العتمة لتخيّم على الحديقة.
***
“هل أحضرتِها؟”
أخرجت الخادمة بفخرٍ الزهورَ التي أخفتها داخل مئزرها، فألقت نيلي نظرةً سريعة.
“اقتلعتيها كلها، صحيح؟”
“بالطبع. دون خطأ. انظري بنفسكِ.”
دفعت الخادمة الزهور إلى الأمام بثقة.
“حسنًا! تبدو صحيحة.”
وبنظرةٍ متضايقة، لوّحت نيلي بيدها ثم رمت الكيس الأحمر على الأرض.
أسرعت الخادمة والتقطته بحذر وهي تراقب تعبير وجه سيدتها.
“أمّـا… ماذا أفعل بهذه إذن؟”
“أحرقيها كلها.”
“نعم، سيدتي.”
أومأت الخادمة، ثم أخرجت نارًا صغيرة من الفانوس الذي تحمله، وألقت النار فوق الزهور على الأرض.
وسرعان ما تحوّلت البتلات البيضاء إلى رمادٍ أسود يتناثر مع اللهيب.
***
ما لا يكون مضمونًا، وما لا يمكن التأكّد من نتيجته… يجب أن يمرّ بيدي شخصٍ ما كي يطمئنّ.
لكن الأميرة ونيلي… تجاهلتا هذه النقطة.
‘والنتيجة كانت لصالحـي.’
خرجت الأميرة وخادماتها وجميع الموظفين من المكتب.
وبحجّة تقديم اعتذار وتعويض رسميّ عمّا حدث بسبب “خطأ” الأميرة، تُركتُ وحدي مع الإمبراطور.
“أكرر اعتذاري عن هذا الأمر. أشعر بالأسف، يا آنسة هيسيتايا.”
“لا بأس يا صاحب الجلالة.”
“حسنًا، وهل حدث أيُّ أمرٍ آخر؟”
كان ينظر إليّ بهدوء، لكن عينيه سرعان ما أصبحتا حادّتين.
“لا، لم يحدث شيءٌ جديرٌ بالذكر….”
“لا تقولي ’جديرٌ بالذكر‘. اكتفي بوصفهِ خبرًا أو مستجدات.”
“آه… نعم. لا جديد في مستجدات الأميرة.”
“حسنًا. إلى الآن….”
ابتسم الإمبراطور ابتسامةً غامضة، ثم التفت نحو النافذة، وما لبث أن محا الابتسامة تمامًا.
“سمعتُ أنكِ دُعيتِ إلى منزل كونت فيديلت. وأُرسلت دعوة إلى الدوق كايلوس أيضًا، أليس كذلك؟”
قالها كأنه يعرف ذلك مسبقًا.
وقعتُ في لحظة ذهول، ولم أستطع منع تساؤل يمرّ بخاطري:
لماذا يذكر الإمبراطور فيديلت بهذه البساطة؟
‘هل يتواصلان دوريًّا؟ لكن ألم يترك الكونت الإمبراطور؟ في ذلك اليوم…؟’
استعدتُ آخر لقاء بين أبي والكونت في المكتبة.
وكأن الإمبراطور استشعر ذلك، فأردف:
“الأسرة الوحيدة في إقليم الحدود الشماليّة هي أسرة الكونت فيديلت. قبل أن أُوكل الأمر إلى الدوق كايلوس، كنتُ أتلقّى تقاريره كتابةً.”
‘إذن كان يرسل تقارير حتى بعد مغادرته العاصمة….’
“نعم يا صاحب الجلالة. أعلم أن الدوق تلقّى دعوةً من كونت فيديلت.”
“وستذهبين معه؟”
“آه…”
تردّدتُ قليلًا.
فالإمبراطور ما زال رسميًّا يرفض تثبيت خطوبتي.
والذهاب مع كايلوس إلى الشمال… قد لا يُعجبه.
لكن لا يمكن إخفاء الأمر طويلًا. فالأفضل أن أقول الحقيقة.
“نعم، يا صاحب الجلالة. سأرافق الدوق.”
“هكذا إذن.”
كان ردّ الإمبراطور أكثر هدوءًا مِما توقعتُ. بل بدت عليه اللامبالاة، وكأنه يعرف مُسبقًا.
ثم أومأ برأسه قليلًا، وكأنه توصّل إلى قرار.
“في هذه الحالة، من الأفضل أن نرتّب الأمر. ما دمتِ ستزورين الشمال، فسأمنحكِ إذنًا رسميًّا بإيقاف حضوركِ للقصر طوال تلك المدّة. حتى تعودي. ما رأيكِ؟”
كان ذلك واضحًا أنه نوعٌ من التعويض.
ولم يكن عرضًا سيّئًا.
فالطريق إلى إقليم الحدود الشماليّة يستغرق يومًا كاملًا دون توقّف، والذهاب والعودة والإقامة… ستستغرق وقتًا طويلًا.
والأفضل ألا أضطرّ للاختلاق أو تقديم أعذار متكرّرة للأميرة.
وخصوصًا… بعد ذلك التعبير البارد الذي ارتسم على وجهها قبل قليل.
“أشكر جلالتك.”
ابتسمتُ له ابتسامةً مشرقة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 43"