الفصل 4 : طلب الزواج
بمُجرد أنْ دخلتُ مِن الباب، شعرتُ بأنَّ أنظار جميع خدم القصر قد اتجهت نحوي.
كانوا جميعًا قد توقفوا في أماكنهم، وكأنهم فوجئوا بالزائرة غير المتوقعة، ولَمْ يجرؤوا على التقدُّم بسهولة.
في تلكً اللحظة، شقّ رجلٌ ضخم المظهر صفوفهم، وتقدَّم نحوي بخطواتٍ واسعة.
نظرتُ إلى وجهه الأسمر الذي يعلوه أثر ندبة على شكلٍ خطاف، وإلى جسده الضخم البارز العضلات، فشعرتُ بأنه ليس مُجرد خادمٍ يقوم بالأعمال الشاقة في القصر.
“صاحب السمو الدوق، مًن تكون هَذهِ السيدة الجميلة؟”
“التزم بالأدب. إنها آنسةٌ مِن عائلة هيستيا.”
“ماذا؟ هيستيا… تعني عائلة الماركيز هيستيا؟ ولكن، لماذا تكون آنسةٌ من عائلة الماركيز هُنا…؟”
انحنى الرجل الذي كان يتحدث بلهجةٍ طفولية لا تناسب مظهره، حتى بلغ زاوية قائمة.
“تشرفتُ بلقائكِ يا آنسة! أنا كرونو، المسؤول عن حماية صاحب السمو الدوق. يُمكنكِ مناداتي بكرونو فقط!”
“آه، نعم.”
بما أنه حارسٌ شخصي للدوق، فلا بد أنه فارس. ومع ذَلك، مِن طريقة كلامه وتصرفاته، بدا كرونو بعيدًا عن الصورة التقليدية للفرسان.
“تفضّلي بالدخول.”
حاولتُ ألا ألتفت إلى نظرات كرونو الفضولية، الذي ظل يُحدق بي وكأنه لا يفهم سبب وجودي هُنا، ودخلتُ إلى غرفة الاستقبال.
“في العادة، يُقدّم الشاي في مثل هَذهِ المُناسبات، لكن الموقف اليوم غير مُعتاد.”
“لا بأس، لا داعي للقلق.”
“سمعتُ أنْ لديكِ ما تودين قوله لي؟”
بمُجرد أنْ جلس كايلوس، دخل في صلب الموضوع مُباشرةً. شعرتُ ببعض الارتباك، لكني تماسكتُ وحاولت ضبط صوتي.
“حسنًا…”
كانت عيناهُ الخضراوان المليئتان بالفضول تحدقان بي.
بلعتُ ريقي الجاف-
لقد وصلتُ إلى هُنا، ومع ذَلك كان التوتر يغمرني لحظة فتح الحديث.
لكن لَمْ يعد هُناك مجالٌ للتراجع.
‘نعم. ليس لدي ما أخسره بعد الآن.’
“هل لديكَ خطيبة؟ أو هل هناك آنسةٌ تحمل لها بعض المشاعر؟”
“…ما الذي تُحاولين فعله الآن؟”
تجهمت ملامح كايلوس بشدةٍ إثر سؤالي.
“تزوجني، صاحب السمو الدوق كايلوس.”
ساد صمتٌ قصير.
“…لستُ متأكدًا مِما سمعتُه الآن. هل قلتِ زواجًا؟”
“نعم.”
للحظة، ارتسمت على وجههِ نظرة ذهول، ثم أطلق تنهيدةً طويلة.
“…يا آنسة. هل تظنين أنْ هًذا وقت المزاح؟ لا يوجد أحدٌ في الإمبراطورية لا يعلم ماذا سيحدُث غدًا. غدًا هو…”
“لقد فسختُ خطبتي مِن الدوق تيسيوس. لَمْ أعد الدوقة المستقبلية تيسيوس ولا أنتمي إلى عائلتهم بعد الآن. أريدُ أنْ أنتمي إليّكَ، صاحب السمو الدوق كايلوس. أرجوكم… تزوجوني.”
“……”
لا بد أنه يعتبرني مجنونةً أو فاقدةً لعقلي الآن. على كل حال، النتيجة واحدة.
أغمضتُ عيني بقوة. فالأمر الذي أقدمتُ عليه لا رجعة فيه.
إنْ فسخ خطبتي مِن تيسيوس وحده لا يكفي لمنعه مِن اعتلاء العرش.
ولهَذا، كي أوقفهُ عن أنْ يُصبح إمبراطورًا، أحتاج إلى هَذا الرجل أمامي.
كانت مشاعرٌ متشابكة تتراقص على وجه كايلوس، وكأنه لا يعرفُ كيف يرد عليّ.
ومعذور، فَمِن هي الفتاة التي تتقدم بطلب زواجٍ إلى رجلٍ آخر في نفس يوم فسخ خطبتها؟
“حقًا… لديكِ موهبةٌ خارقة في إحراج الآخرين. تأتيين فجأةً هَكذا، ثم تطلبين الزواج بهَذهِ الطريقة. كيف عليّ أنْ أفكر بكِ؟”
“لا يهمُني كيف تفكر بي. كل ما أريدُه هو الزواج منكَ، سمو الدوق.”
“ولماذا؟”
“ماذا؟”
“أسألكِ، ما السبب الذي يدفعكِ إلى الرغبة في الزواج بي؟”
“ذَلك…”
آه. لَمْ أفكر في جواب لهَذا السؤال.
بماذا أجيب؟
لأنني إذا تزوجتُ بتيسيوس سأموت؟
لأنه في الحقيقة، في الماضي، بعدما أصبح تيسيوس إمبراطورًا، قتلني، وأنا الآن عدتُ إلى الحياة للانتقام منه ومنعهُ مِن أنْ يُصبح إمبراطورًا؟
لا يُمكنني قول هَذا. وإلا ظنني مجنونةً حقًا…
كنت على وشك إطلاق تنهيدةٍ بسبب شعوري بالاختناق مِن البداية، عندما فُتح الباب فجأةً بصوتٍ عالٍ وكاد يتحطم، واندفع كرونو إلى الداخل.
ثم صاح بأعلى صوته:
“لأنها تُحب سمو الدوق!”
“…هاه؟”
كان كرونو، الذي اقتحم غرفة الاستقبال فجأةً، يرمش بعينيهِ الطفوليتين رغم ضخامته، وينتظر تأكيدي على قوله.
“صحيح؟ لقد أحببتِ سمو الدوق منذُ زمن، أليس كذَلك؟ لدرجة أنكِ فسختِ خطبتكِ وهرعتِ لتقدمي له عرض الزواج!”
“آه… هَذا…”
لَمْ أستطع أنْ أقول (لا)، لأن عيني كرونو كانتا تتوسلان إليّ برجاء شديد.
وفوق ذَلك، لَمْ أجد وسيلةً أخرى للخروج مِن هَذا الموقف.
“نعم، صحيح. أحبُ سمو الدوق كايلوس. لقد كنتُ أكُنّ له مشاعر منذ زمنٍ بعيد.”
“كما توقعتُ!”
رفعتُ رأسي بشجاعةٍ، محاوِلة أنْ أرسم على وجهي تعبيرًا حزينًا قدر المستطاع.
ابتسم كرونو ابتسامةً مشرقة وكأنهُ كان يتوقع ذَلك، وأومأ برأسه.
وفيما بيننا، كان صاحب السمو الدوق كايلوس فقط يُحدق بنا بنظراتٍ مدهوشة، متنقلاً بيني وبين كرونو وكأنه لا يُصدق ما يحدث.
“بما أنني قد أوصلتُ مشاعري، فسأعود الآن. سأرسل طلب زواجٍ رسميًا قريبًا.”
“هل أنتِ جادةٌ، يا آنسة؟”
“نعم. أنا جادة.”
اتجهت عيناهُ المتلألئتان كالجواهر نحو وجهي.
شعرتُ بوخزٍ في ضميري مِن نظراتهِ تلكَ، لكن لَمْ يكُن بوسعي فعل شيء. كنتُ بحاجةٍ إلى كايلوس مِن أجل خطتي المستقبلية.
“دعينا نبدأ بالخطوبة أولًا.”
“الخطوبة؟”
لَمْ ألبث أنْ دهشتُ مِن كلماته الإيجابية حتى أفقتُ مذعورةً مِن كلمة “الخطوبة”.
“يبدو أنكِ قد نسيتِ، لكنكِ قد فسختِ خطوبتكِ اليوم. ثم تريدين أنْ تتزوجي مُباشرةً مِن رجل آخر؟”
“آه…”
“إنْ كنتِ ترغبين حقًا في هًذا الزواج، فنحنُ بحاجةٍ إلى وقت. وإذا لَمْ يتغيّر رأيكِ خلال فترة الخطوبة، حينها…”
نقل بقية حديثهِ بنظراته دوّن أنْ يُكمل كلامه.
“موافقه. ولكن، أود أنْ تُقام حفلة الخطوبة بشكلٍ فخم، تمامًا مثل حفل الزواج.”
“إنْ كنتِ تريدين ذَلك.”
ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ قصيرة وهو ينظر إليّ.
***
“لقد عدتُ، كايا.”
“أين كنتِ حتى الآن؟ لا تقولي لي أنكِ زرتِ بالفعل الدوق تيسيوس؟”
“سأخطب.”
“ماذا؟ ماذا تقولين؟ ألَمْ نقم بحفل الخطوبة منذُ وقتٍ طويل…؟”
“لقد قررتُ أنْ أخطب للدوق كايلوس.”
“آه… آنستي!!”
على ما يبدو، ستخرُج عينا كايا مِن مكانهما قريبًا.
عضضتُ شفتي السفلى مُحاوِلةً كتم ضحكتي التي كادت تُفلت.
أنا آسفة، كايا. ولكن لا خيار آخر أمامي. إنْ أنا تزوجتُ تيسيوس غدًا كما هو مقرر…
“آه.”
عادت إليّ ذكريات كنتُ قد نسيتها، وأثارت داخلي مشاعر قاسيةً ومؤلمة.
“آنستي…؟”
راقبتني كايا بنظرةٍ حائرة بعدما لاحظت تغيُّر ملامحي.
في الماضي، كان يوم زفافي أسعد أيام حياتي، ولكنهُ كان أيضًا أكثرها مأساوية.
في ذَلك اليوم، أصبحت عائلةً للرجل الذي كنتُ أظن أنه يُحبني، لكن في المقابل، فقدت شخصًا عزيزًا قضيت معه سنوات طويلة.
كايا، التي رافقتني لسنوات، عُثر عليها ميتة بعد أنْ سقطت مِن مكانٍ مرتفع داخل القصر.
كانت وفاتها مليئةً بالغرابة. كيف تسقط فتاةٌ نشأت طوال حياتها في هَذا القصر بسبب زلة قدم؟ إضافةً إلى ذَلك، كانت هُناك كدماتٌ متفرقة على جسدها لا تبدو ناتجةً عن السقوط وحده، بل كأنها ضُربت قبل موتها.
وعُثر بين يديها على حليّةٍ مزيفة مصنوعةٍ مِن اللؤلؤ الصناعي بدقةٍ بالغة، لَمْ أرَ مثلها مِن قبل.
كنتُ أعتقد أنْ صاحب تلكً الحليّة له علاقةٌ بموت كايا.
حتى وإنْ كانت الحليّة مصنوعة مّن اللؤلؤ الصناعي، فقد كانت متقنةً الصنع بشكلٍ لا يُمكن أنْ تشتريه خادمة براتبها المتواضع، كما أنْ الفتيات النبيلات لَمْ يكُنّ ليقتنين شيئًا مِن هَذا النوع.
إلا إذا كانت الحلية تعود لنبيلٍ فقيرٍ جدًا مِن الريف، أو لشخصٍ لَمْ يتمكن مِن التمييز بين المجوهرات الأصلية والمزيفة.
حاولتُ مرارًا العثور على الجاني، لكنني لَمْ أتوصل إلى شيء، وفي النهاية، قُيّدت وفاة كايا كحادثٍ ناتج عن السقوط.
كان عددٌ كبير مِن الناس قد حضروا حفل الزفاف في ذَلك اليوم، وإنْ كانت ظنوني صحيحة، فقد حضر بارون ديليا أيضًا.
لَمْ أدرك ذًلك وقتها، ولكن إذا كان الأمر كذَلك، فرُبما… كايا…
بمُجرد أنْ تذكرتُ تلكَ الحادثة، لًمْ أستطع النظر إلى كايا مُباشرة.
“أنا آسفة، كايا.”
“ماذا؟ ليس هُناك ما يدعو لأن تعتذري لي، آنستي. حقًا، ماذا تنوين أنْ تفعلي؟ لا أعلم ما إذا كنتِ بخيرٍ أم لا. لماذا تغيّر قلبكِ فجأةً؟”
“لا يُمكنني شرح الأمر الآن. هل يُمكنكِ فقط أنْ تثقي بي؟”
“ولكن…”
“أرجوكِ، كايا. أرجوكِ.”
أومأت كايا برأسها أخيرًا، رغم أنْ صوتها كان لا يزال مليئًا بالقلق.
“مفهوم. طالما أنكِ تُصرين على ذَلك، فلا حيلة لي. ولكن آنستي، أشعرُ بقلقٍ بالغ بشأن المستقبل. هل تعتقدين أنْ الدوق تيسيوس سيبقى ساكنًا؟”
“سأتولى الأمر بنفسي. لا تقلقي.”
احتضنتُ كايا، التي لَمْ تتوقف عن القلق مِن أجلي حتى النهاية، محاوِلة أنْ أبث الطمأنينة في قلبها.
(الفصول متقدمة في قناة التيلجرام)
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 4"