الفصل 38 : نجمة الجنيّة
تقدّم كايلوس نحوي، مرتديًا بزّته الرسميّة الأنيقة.
بينما كان يقترب شيئًا فَشيئًا، راودتني فكرة بأنَّ هذا الزيّ يليق به كثيرًا.
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“أنا أيضًا سأدخل القصر بدءًا من اليوم. سمعتُ أنكِ دخلتِ أيضًا… هل ستعملين كوصيفة؟”
“نعم. من اليوم سأكون في خدمة سموّ الأميرَة.”
عقد حاجباه الوسيمان تعبيرًا عن القلق حين سمع إجابتي.
“هل ستكونين بخير؟”
“لا بأس. سأعتاد سريعًا.”
رغم أنّني قد بدأت هذا الأمر بطريقةٍ صاخبة بعض الشيء… لكن لم يعد يهم الآن، سواء كان الأمر مريحًا أو لا.
“هل جئتَ لأنّكَ تقلق عليّ؟”
اهتزّت عيناه الخضراوان قليلًا من وقع سؤالي المفاجئ.
“حسنًا، اليوم هو أول يوم لكِ في القصر، ويبدو أنَّ وقت مغادرتنا تصادف أيضًا…”
‘لا يبدو كذلك.’
نظرتُ إلى آثار الأقدام في المكان الذي كان واقفًا فيه، والغبار الذي علق بمقدّمة حذائه، لكنّي تجاهلت الأمر.
“بما أنّنا التقينا، ما رأيكَ أن نذهب إلى قصر الدوق سويًّا؟”
“الآن؟”
بدا متردّدًا لوهلة، لكنه وافق سريعًا.
“إذن اركبي معي في عربتي.”
“معًا؟”
“هل من داعٍ لأن نركب عربتين منفصلتين؟”
“هذا صحيح، ولكن…”
كلامه لم يكن خاطئًا. لا داعي للتفريق بيننا، بل ركوب عربة واحدة يبدو أكثر منطقية.
‘لكن… هل سيكون الأمر مريحًا؟’
في الواقع، لا زلتُ أشعر بالحرج في التواجد معه بمفردنا في مساحة ضيّقة.
صحيح أننا أمضينا وقتًا معًا بعد الخطوبة، لكن تلك اللحظات كانت قصيرةً جدًا. وفوق ذلك…
‘لا أعرف حتّى ما الذي يمكنني قوله.’
أما هو، فكان ينظر إليّ وكأنَّ لا شيء يثير القلق.
لم يكن أمامي سوى أن أخبر سائق عربتي بأن يتبعنا، ثم ركبتُ عربة كايلوس.
وكما توقّعت، عمّ الصمت داخل العربة.
خلال حفلة الرقص لم يكن الوضع محرجًا بهذا الشكل. تبادلنا بعض الكلمات حينها، وانسقنا مع أجواء المناسبة.
نظرتُ إليه بطرف عيني. ملامحه كانت ثابتة، يحدّق إلى الخارج دون اهتمام.
من الصعب تصديق أنني كنت أمس فقط أتشبّث بذراعه أثناء الرقصة.
‘هل يجب أن أبدأ الحديث؟ لكن… ماذا أقول؟’
أخذتُ أعبث بطرف ثوبي بلا سبب.
“لم ترتديه اليوم.”
“هاه؟”
“أقصد الزينة في شعركِ.”
“آه…”
كانت عيناه الآن تتوجّهان إلى رأسي.
“ظننتُ أنها لا تناسب هذا اللباس، لذا لم أضعها اليوم.”
أجبتُ بينما كنت ألمس خصلة من شعري المرفوع بعناية.
“هكذا إذًا… في الحقيقة، لقد تفاجأت قليلًا. أقصد، في حفلة الرقص، فستانك…”
“هل تقصد الزينة التي على الفستان؟”
أومأ برأسه. يبدو أن الزهور المطرّزة على فستاني في ذلك اليوم تركت انطباعًا عميقًا لديه.
في الحقيقة، حين كنّا نناقش تفاصيل التصميم في محلّ باولا، لم أختر زينة فيريستا من البداية.
لكن باولا اقترحت أن نضع شيئًا مميزًا على فستانٍ بسيط التصميم. فتذكّرتُ تلك الزهور التي كانت مزروعة بكثافة في حديقته.
ولأنَّ لتلك الزهور قيمةٌ خاصّة عنده، ظننتُ أنَّ الأمر سيكون رائعًا من ناحيتين.
ثمّ تذكّرتُ شيئًا قاله للأميرَة في ذلك اليوم.
“لكن… ألا يوجد أيُّ زهرة فيريستا في القصر؟ ولا واحدة؟”
“الآن؟ لا، لا يوجد أيُّ واحدة.”
كان يبتسم بتصنّع.
‘الآن؟ هل هذا يعني أنّها كانت موجودةً سابقًا؟’
كنتُ أودّ سؤاله أكثر، لكن تعابير وجهه لم تكن في حالٍ جيّدة.
كانت عيناه غارقتين في ذكرياتٍ ثقيلة.
‘لا بأس، سأسأله لاحقًا.’
فالأمر ليس بتلك الأهميّة.
أدرتُ رأسي نحو النافذة من جديد.
بدت العربة وقد بدأت تهتزّ قليلاً أثناء عبورها طريقًا هادئًا في أطراف المدينة، ما يدلّ على أننا اقتربنا من وجهتنا.
***
كانت خطواته تقوده من تلقاء نفسها، أو ربّما بسبب ما حدث بالأمس.
أو بالأحرى، بسبب ما أظهرته له هي.
نظر كايلوس إلى إلينيا، الجالسة أمامه داخل العربة الضيّقة، وكان بينهما بالكاد شبرٌ واحد.
ولسببٍ ما، بدا له أنّه يرى ملامحها بشكلٍ أوضح ممّا رآه خلال حفلة الرقص حين كانا متشابكي الذراعين.
أول ما لفت نظره هو شعرها المرتّب بعناية على غير العادة.
العنق الرفيع الذي ظهر أسفل شعرها المرفوع بدا هشًّا للغاية.
ولمّا رأى عينيها تدوران بتوتر، فكّر أنه ربما عليه هو أن يبدأ بالكلام.
فذكر الزينة التي لم تضعها اليوم… لكنّ ردّها كان كالصاعقة.
“…لا توجد؟ ولا واحدة؟”
كانت تسأل بإخلاصٍ حقيقي.
وربّما كان من الطبيعي أن تندهش، فالجميع سمع عن وجود تلك الزهور في القصر، لا عن اختفائها.
‘لأنّها لم تعد موجودةً فعلًا.’
منذ سنوات طويلة، لم تُزهر تلكَ الزهرة في القصر إطلاقًا.
آخر مرة رآها كايلوس هناك كانت قبل أكثر من عشر سنوات.
“انظر، كايلوس. واحدة، اثنتان، ثلاث، أربع، خمس بتلات. أليست تشبه النجوم؟”
قالت امرأةٌ ذات ملامح ناعمة، تبتسم برقة.
“أتحبّينها كثيرًا، أمي؟”
سألها طفلٌ صغير كان يقف خلفها. نظراته إليها كانت دافئة.
كان ذلك الفتى هو كايلوس في سنّ الحادية عشرة، مفرط الجديّة بالنسبة لعمره، وله شعرٌ أسود كأمّه.
“بالطبع. أن أرى زهرةً كنتُ أراها فقط في موطني، هنا في القصر… ذلك يسعدني كثيرًا.”
رسمت على وجهها ابتسامةٌ خفيفة وهي تستعيد ذكرى موطنها البعيد.
رغم أنّها كانت مجرّد بضع زهراتٍ على طرف الحديقة، خارج الجناح، فقد كان وجهها مشرقًا بها.
“كايلوس، صغيري… هذه الزهرة تُزهر في موطننا طوال العام. حين تذبل إحداها، تُزهر أخرى مكانها. أليست مدهشة؟ رغم جمالها، إلّا أنَّ عطرها ليس قويًّا.”
“وما اسم هذه الزهرة؟”
“اسمها فيريستا. أليست جميلة؟”
حين نطقت باسمها، زاد وهج الابتسامة على وجهها. فانبسطت ملامح كايلوس معها.
كانت تلك الابتسامة أولى علامات الحياة على وجهٍ اعتادت عليه علامات الإرهاق.
“إذن، العام المقبل، لنزرع المزيد منها. ما يزال في الحديقة متّسع.”
لكنّه لم يُكمل جملته.
طَق، طَق، طَق—
صوت ثقيل لنعال الجنود على الأرض. وفجأة، ظهر أمامهم عددٌ من الجنود.
رفعوا رؤوسهم ونظروا إلى تلك الظلال الداكنة التي غطّت الحديقة.
تقدّم أحد الجنود، ويبدو أنّه القائد، وأدى تحيّة مقتضبة.
“ما الأمر؟”
سألت الأم، متفاجئةً من الزيارة المباغتة.
“نحن هنا بأمرٍ من جلالة الإمبراطورة، لنقوم بتنظيف هذا المكان.”
“تنظيف؟ ماذا تعني؟”
“أمرت جلالتها بإعادة زراعة جميع حدائق القصر. وستُزرع هنا أزهار غالانثيا.”
“غالانثيا؟”
كانت زهرة غالانثيا الزهرة الوطنيّة لمملكة ديوس.
لكنّها لا تُزهر إلّا في الربيع، وقد دخل الخريف للتوّ، فزراعتها الآن بلا فائدة.
كان الجنود على وشك الدخول واقتلاع كلّ شيء.
“هذه المنطقة ليست من نطاق جناح الإمبراطورة، فلماذا تشملونها أيضًا؟”
تقدّم كايلوس بغضب. فابتسم الجندي الكبير بسخرية وهو ينظر إليه.
“جلالتها هي سيدة القصر بأكمله، يحقّ لها فعل ما تشاء في جميع أرجائه.”
كان وجه الجندي مليئًا بالاستهزاء، وكأنَّ الصبي الصغير أمامه لا يساوي شيئًا.
تلك النظرة نفسها ارتسمت في وجه كايلوس، لكن مع مسحةٍ من الظلمة.
“بما أنّه أمر جلالتها العظيمة، فلا خيار لنا إذًا. افعلوا ما شئتم.”
“أمي…!”
رفعت الأم يدها وأسكته، وتراجعت إلى الوراء بصمت.
وبدون تردّد، بدأ الجنود اقتلاع الأزهار.
دُهست الأزهار تحت الأقدام، واقتُلعت بجذورها بلا رحمة.
وكلّما اقتُلعت زهرة، ازداد وجهها شحوبًا.
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لتُمحى تلك الحديقة الصغيرة بالكامل.
غادر الجنود، وتركوا خلفهم ترابًا مقلوبًا وفوضى من الطين.
“أمي…”
“لا تقلق، كايلوس… أنا بخير.”
لكن ملامحها كانت شاحبة، كزهرةٍ ذابلة.
ضغط كايلوس شفتيه بقوّة.
“العام القادم… سنزرعها في مكانٍ آخر.”
“نعم… لنفعل.”
ابتسمت بصعوبةٍ، لكن ذلك العام كان الأخير لها.
فمع تغيّر الفصل، سقطت طريحة المرض، ولم تستطع أن ترى ربيع العام التالي.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 38"