الفصل 32 : تَصَدُّع ²
لن أنسى أبدًا ملامح تيسيوس حين سمع تلك الكلمات.
كان وجهه الحجري، الذي حافظ على هدوئه طوال الوقت، يبدأ بالتشقّق وكأنّه سيتحطّم في أية لحظة. عيناه الزرقاوان الباردتان تجمّدتا في مكانهما.
لم يكن لديه ما يُمكن أن يردّ به. وشفته الملتوية بشدّة كانت خير دليل على ذلك.
بعد أن كان يحدّق بكايلوس بنظرةٍ تكاد تفتك به، حوّل عينيه الغاضبتين نحوي.
“…إلينيّا. لا أعرف ما الذي أوصلنا إلى هذا الحال.”
‘أنت من أوصلنا إلى هنا. أنتَ من طعن قلبي بالسيف.’
يا للسخرية. رغم كل شيء، أنت لا تدرك ذلك.
شعرت أن قبضتي تنغلق بقوّة من تلقاء نفسها. أظافري كانت تغوص في راحة يدي.
تساءلت للحظة: هل من الممكن أن تكون مختلفًا الآن؟ هل يُمكن ألا تكرّر الماضي؟
لكن نظرةٌ واحدة إليك الآن كانت كافيةً لأعرف. الغضب الذي تُظهره تجاهي ليس لأنكَ فقدت خطيبتك التي أحببتها، ولا لأنك حزين.
بل كما لو أنك فقدت غرضًا ثمينًا. كان كل ما في الأمر غضب من فقدان ما كان في متناول يدك، لا أكثر ولا أقل. مجرّد تملّك.
ربّما كانت تلك ضربة موجعةً لكبريائك.
لكن كبريائك الذي دُهس بالأقدام لا يهمّني.
لقد فقدتُ أشياء كثيرة، كثيرةً جدًّا، مقارنةً بك.
“أظنّ أنّه من الأفضل أن تقول أنا، وليس نحن.”
ضحكةٌ جافة تشبه خروج الهواء صدرت من فم تيسيوس الذي وقف قبالة كايلوس، الذي وقف أمامي كدرع.
“هاه… يبدو أنّنا نرى وجهًا جديدًا من دوق كايلوس اليوم.”
“سأعتبرها مجاملة.”
ردّ عليه كايلوس ببساطة، ما جعل ملامح تيسيوس تتجمّد من جديد.
لم أتحمّل رؤية ما بينهما أكثر، فتدخّلت بينهما.
“أليس من الأفضل أن تعود الآن، دوق تيسيوس؟ يبدو أنَّ الآنسة ليزي تنتظرك منذ وقتٍ طويل.”
ما إن نطقتُ اسم ليزي حتى ارتجف تيسيوس لحظة.
وراءه، كانت تقف ليزي، تتابع هذا الحوار المتوتّر دون أن تجرؤ على الاقتراب، وعلامات التوتر تملأ وجهها.
“أجل، من غير اللائق أن تترك الشريكة تنتظر طويلًا.”
أضاف كايلوس تعقيبًا على كلامي.
“لم أكن أعلم أنَّ دوق كايلوس يتمتّع بهذه الدرجة من اللّباقة ليراعي حتى شريكتي.”
سخر تيسيوس.
“اللباقة ليست من صفاتي، بل من صفات إلينيّا. أنا فقط أحترم رأي خطيبتي.”
“هاه—”
ضحكةٌ جانبية ساخرة ارتسمت على وجه تيسيوس وهو ينظر نحوي ونحو كايلوس.
“ما زال لدينا وقتٌ، على أيِّ حال.”
قالها وهو ينظر نحوي مباشرة.
“أنتِ لم تنسي، أليس كذلك؟ مدّة التأجيل هي ثلاثة أشهر. وخلال هذه الأشهر، يمكن أن يتغيّر الكثير.”
أكّد على كلمة “ثلاثة أشهر” كما لو أراد أن يزرعها في ذهني.
“حسنًا. إذًا، سأقوم بدعوتكَ بعد ثلاثة أشهر—”
دعوة؟ أيُّ دعوة؟
تيسيوس توقّف فجأةً، وكأنّه تفاجأ، وأنا أيضًا لم أفهم ما الذي يقصده كايلوس.
‘عن أيِّ دعوةٍ يتحدّث؟’
والكلمات التي قالها بعد ذلك جعلتني أظنّ أنّني سمعتُ خطأ.
“…إلى حفل زفافنا، بالطبع.”
قالها وهو يلتفت إليّ بابتسامةٍ جميلة.
تيسيوس لم ينبس ببنت شفة بعد سماع كلمات كايلوس.
لكن تعابير وجهه كانت كافيةً لتُثبت أنّه الآن أكثر غضبًا من بداية الحديث.
“سنرى ما سيحدث.”
قالها وهو لا يُوجّه كلامه لأحد على وجه التحديد، ثم استدار وغادر قاعة الحفل.
أما ليزي، التي تُركت فجأةً وحدها وسط القاعة الواسعة دون أحدٍ تعرفه، فقد التقت عينانا للحظة، ثم احمرّ وجهها وهربت من المكان وكأنّها تطاردها لعنة.
كان من الوقاحة أن تراني وتغادر دون حتى تحيّتي، لكنني قررتُ أن أكون متسامحةً لمرّة، على الأقل لما حدث اليوم.
‘لكن حقًّا… لا أستطيع فهم هذا الرجل.’
ما الذي كان يفكّر فيه حين قال ذلك الكلام؟
نظرتُ إلى كايلوس، الذي كان قد اقترب منّي.
كان وجهه هادئًا إلى درجةٍ يصعب تصديق أنّه كان منذ لحظات يخوض مشادّة مع تيسيوس.
“هل أنتِ بخير، إلينيّا؟”
كان من المفترض أن أكون أنا من يسأل هذا السؤال، لذا ضحكت حين سبقني إليه.
“هاه…”
على وجهي ابتسامة، بينما هو بدا وكأنّه حائر من ردّة فعلي.
كيف يُمكنني وصف هذا الرجل؟
لا أستطيع أن أقول إنّه لعوب… لكن لا يمكنني أيضًا أن أصفه بالبرود، ففي تصرّفاته وكلامه ما يلمس القلب بطريقةٍ ما.
يبدو غير مبالٍ أحيانًا، ثم يُفاجئني بلحظات اهتمامٍ كأنّه ليس كذلك.
لمستُ الزينة التي أهداني إياها وتساءلت.
حين أتذكّر الأمور، كان دائمًا يظهر في اللحظات التي كنتُ أحتاجه فيها أكثر من أيِّ وقت، مثلما فعل اليوم.
“هل ستبقى بجانبي دائمًا؟”
كانت كلماتٍ خرجت منّي دون قصد، لكنني في الحقيقة أردت معرفة إجابته.
عيناه اللتان نظرتا إليّ ارتجفتا قليلًا للحظة.
“إلينيّا.”
نطق اسمي بصوتٍ بدا وكأنّه مقطع من أغنية.
حين التقت عيناي بعينيه الخضراوين الداكنتين، أحسست أنَّ قلبي، الذي كان مضطربًا طوال اليوم، بدأ يهدأ.
رفع يدي بلطف، وقبّل الخاتم الذي كان في إصبعي البنصر الأيسر.
رغم أنِّ شفتيه لم تلمسا جلدي مباشرةً بسبب القفّاز الخفيف، إلا أنّني أحسست كأنّهما فعلتا.
“إن كنتِ ترغبين بذلك.”
صوته الناعم تردّد في أذني بنغمةٍ دافئة جعلتني أغرق فيها.
وفكّرتُ وقتها.
ربّما السبب الحقيقي لارتجاف قلبي منذ وصولي للقصر الإمبراطوري لم يكن بسبب التوتّر من الحفل فقط.
يدي كانت تشتعل. الحرارة التي بدأت من أطراف أصابعي انتشرت في جسدي كله.
لو أنّني شربت كأسًا من الشمبانيا على الأقل، لكان بإمكاني أن أُلقي باللوم على تأثير الكحول.
لكن الآن، لم يكن أمامي سوى أن أنزل رأسي قليلاً كي لا يرى وجهي الذي أخذ يحمرّ شيئًا فَشيئًا.
ويبدو أنّني لم أكن الوحيدة التي تأثّرت باللحظة.
من خلفي، سمعت همسات نساءٍ متحمّسات.
“هل رأيتِ ذلك؟!”
“بالطبع! رأيتُه بعيني!”
أصواتهن كانت ترتفع بحماس.
قبلة على ظاهر اليد قد تكون مجرّد تصرّفٍ عادي بين الشركاء، لكنّ المشكلة كانت في الشخصين اللذين فعلاها.
أنا وكايلوس، الذين قلبنا الحفل رأسًا على عقب، كنّا في دائرة اهتمام الجميع، وحتى أبسط تصرّفاتنا كانت كافيةً لإشعال النار بين الحضور.
“مع أنهما تلقّيا أمرًا بتأجيل الخطوبة من جلالة الإمبراطور، فهما هكذا معًا… لا بد أنهما…”
كانت الشابّات يتنفّسن بصعوبة من فرط الحماسة.
“…واقعان في الحب، بالتأكيد!”
قالتها إحدى الفتيات الصغيرات التي بدت وكأنّها أنهت للتوّ أول ظهورٍ لها في المجتمع، ووجنتاها محمرّتان.
“إذًا فالشائعات كانت صحيحة؟ قيل إنَّ الآنسة إلينيّا، خلال حفل الشاي الذي أقامته جلالة الإمبراطورة، قالت إنّها وقعت في الحب من النظرة الأولى!”
همست فتاةٌ أخرى تجلس بجوارها.
‘هل قلتُ ذلك حقًّا؟ أظنّني فقط قلتُ إنّني وجدت قدري.’
وكانت تلك الكلمة تحمل معنًى مختلفًا عن الحب من النظرة الأولى، لكنها حملت المعنى بشكلٍ ما.
الهمسات الحماسية وصلت إلى كايلوس أيضًا على ما يبدو.
“وقعتِ في الحب من النظرة الأولى، إذًا…”
همس وهو ينظر إليّ، وفي عينيه لمعةٌ من المزاح، رغم ملامحه الخالية من التعبير.
“قلتُ إنّه قدري، لا غير.”
حاولتُ التظاهر باللامبالاة، وتجنّبت التقاء أعيننا.
“وهذا لا بأس به أيضًا.”
كان على وجهه الآن ابتسامةٌ عريضة. وكان من الممتع أن أرى عينيه الخضراوين تنحنيان كالهلال.
تظاهرتُ بعدم الانتباه، وبدأت ألمس الزينة التي في شعري بلا هدف.
“زينةٌ جميلة.”
صوتٌ مفاجئ جاء من خلفنا جعلني وكايلوس نلتفت في الوقت نفسه.
وخلفنا، كانت تقف امرأةٌ ذات شعرٍ أحمر طويل كالذي لدى الإمبراطور، تبتسم وهي تنظر نحونا.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 32"