الفصل 3 : فسخ الخطوبة ²
كانت رائحة العطر النفاذة لدرجةٍ توجع الأنف تذكرني بوجه امرأةٍ ترتدي فستانًا أحمر قانيًا.
‘اليوم أيضًا مع تلكَ المرأة…’
كانت الأزرار العلوية مِن قميصه، وهو جالسٌ أمامي، قد أُغلقت بطريقةٍ خاطئة. ومِن خلال الياقة المفتوحة قليلًا، كان يظهرُ أثرٌ لأحمر شفاه.
“لقد أغلقتَ أزرار قميصكَ بطريقةٍ خاطئة.”
“آه، يبدو أنني أخطأتُ أثناء تبديل ملابسي على عجل.”
قال ذَلك وهو يُرتب هندامه بحركةٍ سريعة، ثم ابتسم.
‘كاذب.’
أخرجتُ لساني في داخلي استهزاءً مِن وقاحته.
‘إما أنهُ كان مستعجلًا للغاية لدرجة أنه لَمْ يستطع التأكد مِن ملابسه، أو… لَمْ يشعر بالحاجة إلى ذَلك أساسًا.’
في كلتا الحالتين، كان الشعور مقززًا بالقدر نفسه. لا أدري لماذا في الماضي لَمْ ألاحظ شيئًا مِن هَذا.
لقد أدركتُ مُجددًا كم تكون حاسة المرأة العاشقة بليدة.
“ما رأيكِ بطعم الشاي؟ إنهُ شاي التفاح الذي تُحبينه. اخترتُ أفضل الأنواع المزروعة في المقاطعات الجنوبية. آمل أنْ يكون قد أعجبكِ.”
“لستُ أدري. لَمْ أعد أحبُ شاي التفاح كثيرًا. في الواقع، لقد سئمتُ منه.”
بدا تيسيوس مرتبكًا مِن إجابتي غير المتوقعة.
طبيعي أنْ يكون مرتبكًا. فمنذُ أنْ اقترب موعد زفافنا، وفجأةً جئتُ إلى هُنا دوّن أيِّ ترتيب، كما أنْ تصرفاتي باتت مختلفةً تمامًا عن المعتاد.
لا بد أنه في داخله يتساءل إنْ كنتُ قد تناولتُ شيئًا غريبًا اليوم.
لكنه أخفى ارتباكه بسرعةٍ وأخذ يسألني بوجهٍ مملوء بالقلق.
“على كل حال، لماذا جئتِ فجأةً…؟ هل حدث شيءٌ ما؟”
“نعم. حدث شيءٌ مميزٌ للغاية.”
“شيءٌ مميز؟”
“لقد حصلتُ اليوم على فرصةٍ جديدة.”
قطّب تيسيوس جبينه وكأنه يُحاول فهم قصدي.
رفعتُ رأسي بثباتٍ وحدقتُ في عينيه مُباشرةً، تمامًا كما فعلتُ قبل وفاتي.
“صاحب السمو دوق تيسيوس، أنا إلينيا هيستيا أطلبُ بفسخ خطوبتي معك.”
للمرة الأولى، ظهر الانفعال على وجه تيسيوس الذي ظل مُتماسكًا طوال الوقت.
كان يُحدق بي بوجهٍ متشنج، عاجزًا عن كتم غضبه المتصاعد.
لَمْ أشح بنظري عنه. وما إنْ تفوهتُ بالكلمات، حتى شعرت وكأنَّ كل التوتر الذي كان يعتصرني قد ذاب تمامًا. بل إنْ عينيه المشتعلتين بالغضب بدت لي ممتعة.
‘لا تستعجل الغضب. فلا يزال هُناك الكثير مِما سيثيرُ غضبكَ لاحقًا.’
منذُ استيقاظي هَذا الصباح، لًمْ أشعر بمثل هَذهِ السعادة.
“…لا أعلم ما الذي سمعتُه للتو. هل تدركين ماذا سيكون يوم غدٍ؟”
على عكس البداية، أصبحت نبرتُه جامدة.
طبعًا أعلم. أعلم ذَلك أكثر مِن أيِّ شخصٍ آخر.
عندما فتحتُ عيني هًذا الصباح، شكرت الحاكم لأنني حصلتُ على فرصةٍ جديدة بعد الموت. لكن اليوم الذي عدتُ إليّه كان…
اليوم الذي يسبق زفافي بيومٍ واحد فقط.
لَمْ يكُن أمامي شهرٌ ولا أسبوع، بل يومٌ واحد فقط. كان وقتًا حرجًا يصعب فيه تدبير خطط معقدة.
ولو تزوجتُه غدًا مجددًا، فلا شيء يضمن ألا تتكرر المأساة التي عشتها في حياتي السابقة.
‘يجبُ أنْ أمنع ذًلك مهما كلف الأمر.’
حتى لو تلطخ اسم العائلة وشرفي.
“نعم. أعلم جيدًا. ولهَذا أطلب إنهاء هَذهِ الخطبة في أسرع وقتٍ مُمكن. لَن يكون هُناك زفافٌ غدًا ولا في أيِّ يومٍ قادم بيني وبين سمو الدوق.”
“إلينيا…! الزواج غدًا! كيف تقولين هَذا الهراء…!”
“ليس هراءً. لَمْ نتلقَ بعد بركة الكاهن، ولَمْ نتلو قسم الزواج أمام الناس. نحن ما زلنا مُجرد خطيبين حتى لو بقي يومٌ واحد فقط. لا يوجد ما يمنع فسخ الخطوبة الآن.”
“هَذا غيرُ منطقيٍ تمامًا. والدكِ لَن يوافق أبدًا!”
كان صوته، وقد فقد أعصابه، يدوي في قاعة الاستقبال.
“لقد حصلتُ على الموافقة بالفعل.”
“ماذا…؟”
مددت أمامه شهادةً حصلت عليها مِن والدي. كانت تحتوي على طلبٍ رسمي بفسخ الخطبة، وفي أسفلها توقيع والدي.
“هاه… ما هَذا بحق…”
يداه التي تمسكان بالورقة كانتا ترتجفان بشدة.
“أكرر مُجددًا، سمو الدوق. عائلة هيستيا تطلبُ رسميًا بفسخ الخطبة مع الدوق تيسيوس. علاقتنا تنتهي هُنا.”
عند سماعه كلمة تنتهي، بدا وجهُه مشوهًا بطريقةٍ لَمْ أرَها مِن قبل.
“أما عن المصاريف التي أُنفقت على ترتيبات الزفاف، فستتحملها عائلتنا بالكامل. وإن لزم الأمر، سنعوضكم بمنحكم ملكية منجم الأحجار الكريمة الذي تملكه عائلتنا في أطراف المنطقة الشرقية.”
“…..”
التقطت أنفاسي قليلًا. كان تيسيوس، الجالس أمامي، ما زال يُحدق بي بوجهٍ وكأنه لَمْ يستوعب بعد ما يحدث.
“لقد أرسلنا بالفعل رسائل إلى بقية العائلات والحاضرين، لذَلك لَن تحتاج إلى القيام بأيِّ ترتيباتٍ إضافية. سأغادر الآن، فلا يجبُ أنْ أشغل وقتكَ طويلًا وأنتَ مشغولٌ بأمور المقاطعة.”
“إلينيا…”
رن صوتُه المنخفض في قاعة الاستقبال، وكأنه يغلي وهو ينطق باسمي.
لكنني لَمْ أعطه أيِّ اهتمام، وغرستُ آخر مسمارٍ في نعش علاقتنا.
“آه، وبالمناسبة… مِن الآن فصاعدًا، أرجو أنْ تتجنب مناداتي باسمي. بما أننا لَمْ نعد مرتبطين بأيِّ علاقة، فأتمنى منكَ الالتزام بالاحترام الواجب.”
“…..”
ظل مطأطئ الرأس دوّن أنْ ينبس بكلمةٍ أخرى.
وبعد أنْ رأيتُ ذَلك المشهد الأخير، أدرتُ ظهري وغادرت غرفة الاستقبال.
رُبما لأنه كان قرارًا مدعومًا باسم العائلة، لَمْ يُبدِ أيِّ رد فعلٍ واضح. أو رُبما لَمْ يجد ما يقوله في تلكَ اللحظة.
على أيِّ حال، كانت النتيجة ناجحة. صحيحٌ أنني أشعرُ ببعض الأسف لتقديم منجم الأحجار الكريمة في الشرق كتعويض، لكن هَذهِ الخسارة كانت ضروريةً لضمان شرعية فسخ الخطوبة.
فدوّن ذَلك، لَمْ يكُن مِن السهل إثبات أحقيتي.
اعتبارًا مِن اليوم، سيغرقُ الإمبراطورية في سيلٍ مِن الشائعات التي يصعُب السيطرة عليها.
سيشتعل المُجتمع الراقي لفترةٍ بسبب خبر فسخ الخطوبة غير المسبوق.
“آنستي، هل نعود الآن إلى القصر؟”
سألني السائق وهو ينظر إليّ.
“لا. سنتجه إلى قصر الدوق كايلوس.”
‘طالما الحديد ساخن، يجبُ أنْ يُطرق. لا داعي للتردد، ولا يجبُ أنْ أترك مجالًا لتيسيوس كي يستوعب الأمر.’
عندما أفكر فيما ينتظرني لاحقًا، أشعر أنْ كل يومٍ مهمٌ للغاية.
“انطلق بسرعة.”
وانطلقت العربة نحو وجهتها الجديدة.
***
‘هل كان لدى دوق كايلوس حديقةٌ كهَذهِ مِن قبل…؟’
ما إنْ نزلتُ مِن العربة ورأيتُ قصر الدوق كايلوس، حتى فوجئت بالمشهد الذي لَمْ يكُن كما تخيلته.
في الأساس، لَمْ يخطر ببالي قط أنْ يكون هُناك حديقةٌ في قصره.
‘ما كل هَذهٍ الأزهار؟ لَمْ أرَ مثلها مِن قبل…’
لَمْ أكُن أتوقع وجود حديقة أزهارٍ مزروعةٍ بهَذهِ العناية.
كانت الأزهار، رغم اختلاف ألوانها الزاهية، مِن النوع نفسه.
وبتلاتها الصغيرة بدت وكأنها قُصّت ولُصقت بعنايةٍ مِن ورق ملوّن.
مهما نظرتُ إليّها، كانت هَذهِ الأزهار بعيدةً تمامًا عن الصورة التي رسمتها لدوق كايلوس.
“فيريستا.”
“…!”
“ليست زهرةً بارزة، أليس كذلك؟ سمعتُ أنْ موطن والدتي كان مليئًا بهَذهِ الأزهار طَوال العام.”
تفاجأت بصوتٍ مُفاجئ خلفي، فالتفتُّ لأرى رجلًا بشعرٍ أسود قاتم يقفُ عند مدخل القصر، يُحدق بي.
“لا أظن أنْ الآنسة ابنة الماركيز جاءت إلى هُنا لرؤية زهرةٍ متواضعةٍ كهَذهِ. ما الذي جاء بكِ إلى هُنا؟”
وعندما اقتربتُ، بدا وجهه أكثر وسامةً مِما توقعت.
كان شعرهُ الأسود كالجزع يتلألأ تحت أشعة الشمس، وتحت خصلاتهِ ظهرت عيناه الزمرديتان اللامعتان، التي تُثبت دماء العائلة الإمبراطورية، مِما زاد ملامحهُ وضوحًا وجاذبية.
رغم أنْ تيسيوس كان يُعد مِن أكثر الرجال وسامةً في الإمبراطورية، إلا أنْ دوق كايلوس كان يملك جمالًا يفوقه.
على الأرجح، ورث ملامحهُ الساحرة مِن والدتهِ التي قيل إنها كانت أجمل راقصة.
لو كان دوق كايوس يظهرُ في المجتمع الراقي بشكلٍ أكثر، لرُبما كان سيحظى بلقب أجمل رجُلٍ في الإمبراطورية.
“أتقدم بأحرّ التحايا إلى سمو الدوق كايلوس. أعلم أنْ زيارتي المُفاجئة تُعد تصرّفًا غير لائق، لكن لدي أمرٌ مهم أود التحدث بشأنه.”
“لا أعلم ما الذي تودّ الدوقة المستقبلية قوله لي.”
“في الحقيقة، الأمر الذي جئتُ لأخبركَ به يتعلق بذَلك تمامًا. أعلم أنني أتجاوزُ حدودي، لكن أتمنى منكَ أنْ تستمع لما سأقوله.”
أجابني الدوق بصمتٍ وهو يفتح باب القصر، كإشارةٍ منه لقبول الحديث.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 3"