الفصل 27 : حفلُّ يوم التأسيس ⁴
ما إن فُتِحت أبواب القاعة، حتى خيّم الصمت فجأةً بين النبلاء المتجمّعين في الداخل.
نصفهم راح يُحدّق نحونا بنظراتٍ فضوليّة، بينما البقيّة راقبونا بحذرٍ واضح وهم يمسحونني أنا وكايلوس بأعينهم من الرأس إلى القدم.
رغم أنّني شاركتُ في الكثير من الحفلات المشابهة من قبل، إلا أنِّ هذه كانت المرّة الأولى التي أتلقّى فيها مثل هذه النظرات.
نظراتٌ وكأنّهم يُشاهدون قردًا في قفص حديقة الحيوان. أحسستُ بقشعريرةٍ تسري في بدني بسبب ذلك الإحساس الغريب الذي لم أعهده من قبل.
لكن، كان هناك ما لم يتغيّر.
أنا ما زلتُ من عائلة هيسيتايا، وما زلتُ الابنة النبيلة لعائلة ماركيز يحنو الجميع لها بالرؤوس احترامًا.
وذلك واقعٌ لا يستطيع أحدٌ تغييره.
‘نعم، في مثل هذه اللحظات، يجب أن أكون أكثر قوّة.’
رفعتُ رأسي بفخر، ونظرتُ إلى النبلاء أمامي بنظرةٍ مفعمةٍ بالكبرياء.
شدّدتُ من قبضة ذراعي التي كانت متشابكة بذراع كايلوس.
ويبدو أنّه شعر بي، إذ شدّ هو الآخر من قبضته أيضًا.
بينما كنا نمشي إلى الأمام، بدأ همسٌ خافت ينتشر بين الحاضرين.
كلّما خطونا خطوة، كان الطريق أمامنا يُفتح وكأنّه ينقسم كما ينشقّ البحر.
كنتُ أتعمّد أن أُبادل كلّ من حولي النظرات وأنا أبتسم لهم بثقة.
وكلّ من التقت عيناه بعينيّ، انحنى لي بأدب، وإن بدت عليهم الحيرة أو الارتباك.
أدّوا التحية احترامًا، لكن لم يجرؤ أحد على التقرّب منا بسهولة.
“تحيّتي لدوق كايلوس الجليل، وخطيبته، الدوقة المستقبلية.”
سمعتُ صوتًا أنيقًا يصدح من مكانٍ قريب.
التفتُّ نحو الصوت، فرأيتُ امرأةً نبيلة مألوفةً ترفع أطراف فستانها بانحناءة أنيقة.
“سُعدتُ بلقائكِ، كونتيسة هيرينغس.”
إنّها الكونتيسة هيرينغس التي ساعدتُها سابقًا في حفلة شاي داخل القصر.
اقتربتْ منا بابتسامةٍ مشرقة، دون تردّد.
“سيّدة إلينيا، تبدينَ مذهلةً اليوم!”
ابتسمتْ لي بلُطف، ثمّ تحوّل نظرها إلى كايلوس.
وبعد لحظة من التحديق، بدت وكأنّها فُوجئت، وتوقّفت عن الحديث لبرهة.
“…وسموّ الدوق أيضًا…”
ابتلعت ريقها بتوتّر، ثم أكملت:
“…تبدو رائعًا للغاية.”
ارتسم احمرارٌ خفيف على وجنتيها.
وبعد أن بدت مأخوذةً بكايلوس للحظات، عادت لتنظر إليّ وغيّرت الموضوع نحو فستاني.
“فستانكِ اليوم رائعٌ حقًا. من هو مصمّم هذا الفستان، سيّدتي؟”
كانت عيناها تلمعان بالفضول وهي تُحدّق بفستاني.
“إنه من تصميم باولا.”
“آه، باولا ستايسي؟! هذا يفسّر كلّ شيء. لا غرابة، هي الأفضل في الإمبراطوريّة فعلًا. آه، صحيح، على ذكر ذلك…”
راحت الكونتيسة تُتمتم بمرح وهي تبحث بعينيها عن شيءٍ ما داخل القاعة.
وبعد لحظات، توقّف بصرها عند إحدى الزوايا.
“هاه! ها هُنّ هناك.”
في الاتجاه الذي نظرت إليه، كانت هناك مجموعةٌ من السيّدات النبيلات مجتمعات.
من بينهنّ، كانت كونتيسة تريجي وخادمتها الفيكونت توفينيا، ترتدي الأولى فستانًا أخضر داكنًا، والثانية فستانًا أخضر فاتحًا، وكانتا تراقباننا من بعيد.
بدت السيدة توفينيا وهي تُتمتم بانزعاجٍ بشيءٍ ما، بينما كانت تحيط بهما سيدات يغطين أفواههنّ بالمراوح.
أما الكونتيسة تريجي، فكانت تُخفي نصف وجهها خلف مروحتها، لكن نظراتها كانت حادّةً كالصقيع.
“ألم تطلب كلٌّ من كونتيسة تريجي والسيدة توفينيا فساتينهما من باولا أيضًا؟ من الغريب كيف أنَّ فساتينكنّ مختلفةٌ تمامًا رغم أن المصمّمة نفسها.”
قالت الكونتيسة هيرينغس ذلك وهي تُقارن بين فساتينهنّ وفستاني.
رغم أنَّ كلماتها كانت بريئة، إلّا أنِّ صوتها كان عاليًا بما يكفي ليصل إليهما.
رأيتُ وجه توفينيا يُحمَر بينما كانت تلوّح بمروحتها بسرعة.
أما تريجي، فلم تُظهر أيِّ ردّ فعل، لكن عيناها خلف المروحة كانت تقول الكثير.
عندها، أدركتُ أنَّ طلبي من باولا بتصميم فستانٍ بلونٍ مُعاكس عن فساتينهما كان قرارًا سليمًا.
فالكونتيسة تريجي وخادمتها توفينيا تُعتبران الأقرب للإمبراطورة.
لذا من الطبيعي أن يختارا فساتين تُناسب الإمبراطورة لا أن تُنافسها، فيحرصن على اختيار ألوان تُكمّلها.
وبما أن فساتينهما خضراء بدرجاتٍ مختلفة، فمن المُرجّح أن ترتدي الإمبراطورة فستانًا باللون الأحمر أو أحد تدرّجاته.
وفعليًا، أغلب السيّدات الحاضرات ارتدينَ فساتين زاهية الألوان، مزينةً بكثرة بالدانتيل والكشاكش.
أما فستاني، فكان بسيطًا، مزينًا فقط بأزهارٍ صغيرة ودانتيل خفيف.
لو رأيتِه وحده، لقلتِ عنه بسيط. لكن وسط تلك الفساتين المبالغ فيها، بدا أكثر تميّزًا وتأثيرًا.
وبفضل قماش الفستان الذي يعكس الألوان كالمرآة، انعكست عليه ألوان الفساتين الأخرى في القاعة، ما جعل الزينة الماسية تشعّ بألوان مدهشة.
لاحظتُ أن بعض السيّدات لم يستطعن صرف نظرهنّ عن فستاني.
وبينما كنّ يُراقبن من بعيد، بدأت بعضهنّ يقتربن بعد أن رأينَ الكونتيسة هيرينغس تتحدّث إليّ بلُطف.
“سيّدة إلينيا، من أيّ نوع قماشٍ صُنع هذا الفستان؟ يبدو فريدًا للغاية…”
وما إن بادرت واحدةٌ بالسؤال، حتى انهالت الأسئلة من الأخريات.
“وأنا أيضًا، أرجو أن تُخبِريني! ما نوع الزهرة المستخدمة في الزينة؟ لم أرَ مثلها من قبل!”
“سيّدتي، هل لي أن أسأل…”
وجدتُ نفسي مُحاطةً بمجموعة من السيدات، وبدأتُ أحاول الردّ عليهنّ واحدةً تلو الأخرى بلُطف.
لكن ومع توالي الأسئلة، بدأتُ أشعر بالتعب.
في تلك اللحظة، بدأ الأوركسترا الملكي عزف موسيقى مرِحة من نوع الفالس.
وسرعان ما بدأت السيّدات من حولي يتطلّعن بعيون مترقبة، وكأنهنّ ينتظرن مَن سيتقدّم لطلب الرقصة الأولى.
تقليديًا، لا يبدأ باقي النبلاء بالرقص حتى يخطو كبار الشخصيات أوّل خطواتهم.
كانت السيّدات يُخمِّنَّ مَن سيبدأ الرقص أوّلًا.
“من سيخرج أوّلًا يا ترى؟”
“ألم تكن الكونتيسة تريجي هي من افتتحت الرقص العام الماضي؟”
“لكنها أصبحت متقدّمةً في السن الآن، أليس كذلك؟ ماذا لو تسبّب الرقص في إصابة ركبتها؟”
“يا لكِ من مشاكسة، هاها.”
“أم أنَّ دوق تيسيوس سيكون أوّل من يرقص؟”
“بالمناسبة، من شريكته في الرقص هذا العام؟”
“سمعتُ أنّها الآنسة ابنة البارون ديليا.”
“مَن؟ ديليا؟ لا أعرفها.”
في خضمّ تلك الهمسات، تحوّلت أنظار الجميع إليّ.
“سيّدة إلينيا، هل تعرفين من هي الآنسة ديليا؟”
كانوا يُحدّقون بي بفضولٍ جامح.
لكنّني لم أكن مهتمّةً بإشباع فضولهم ولو قليلًا.
“إلينيا.”
سمعتُ صوتًا ناعمًا، ورأيتُ يدًا خشنة مُمتدّةً نحوي.
“هل ترقصين معي؟”
كلّ الأنظار تحوّلت نحونا أنا وكايلوس.
وحتى السيّدات اللاتي انشغلن بفستاني، الآن أصبحت عيونهنّ عليه.
“حقًا… دوق كايلوس؟”
“عيناه الزمرديّتان تمامًا كالإمبراطور…”
“لماذا لم نُلاحظ وجوده من قبل؟ كيف لم يُلفت انتباهنا؟”
سمعتُ همساتٍ مُنبهرة بين الحاضرات، وقد كان ذلك متوقّعًا. لقد أحسستُ بنفس الشيء أوّل مرّة.
والآن، كان اهتمامهنّ منصبًا على إن كنتُ سأقبل رقصة كايلوس أم لا.
“إنّه لشرفٌ لي.”
وضعتُ يدي برفق فوق يده، فقادني بحذر نحو منتصف القاعة.
وسمعتُ تنهّدات إعجابٍ غيورة من السيّدات.
‘أظنّني لم أرَ كايلوس يرقص من قبل…’
فجأةً، شعرتُ بالقلق. فلم يسبق له أن طلب من أحدٍ الرقص، ولا رأيته يخطو رقصةً في حياتي.
“كايلوس… هل تعرف كيف ترقص الفالس؟”
لكنه لم يُجب، بل اكتفى بابتسامةٍ خفيفة وهو يضع يده على خصري.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 27"