الفصل 24 : حفلُّ يوم التأسيس ¹
‘كيف عرفتْ بالأمر؟’
كنتُ منزعجًا بالفعل من تلك المصادفة حين التقيتُ بها في وسط المدينة مؤخرًا.
كانت واقفةً أمام محلّ الكعك الذي اصطحبتُها إليه ذات مرّة، رغم أنّها الآن مخطوبةٌ لرجلٍ آخر.
كنتُ واثقًا أنّها لا تزال متعلّقةً بي. لا يمكن لمشاعر الحب أن تختفي فجأةً لمجرّد الإنكار.
وقد بدت لطيفةً وهي تُنكر الأمر بينما تتهرّب من نظراتي. لذلك، اقتربتُ من أذنها وأخبرتُها أن الفرصة ما تزال قائمة.
مرّ أكثر من أسبوع على تلك الحادثة، لكن إلينيا لم تتواصل معي على الإطلاق.
حتى الشائعات التي اجتاحت العاصمة بسبب تلك الحادثة لم تُحرّكها كما توقعت.
ما وصلني بدلًا من ذلك، هو أنها كانت تتجوّل بلطفٍ مع كايلوس في نفس المكان الذي التقيتُها فيه.
منذ فسخ الخطوبة، تغيّرت كثيرًا. تُرى ما الذي جعلها تتغيّر هكذا؟
لكن قبل أن أُفكّر في ذلك، عليّ أن أتخلّص من هذه المزعجة التي تبكي وتُبلّل السجادة الثمينة أمامي.
لم أستطع تحمّل رؤية المزيد من البقع على سجادة الوبر المصنوعة من وبر الجِمال التي جلبتها مؤخرًا من مملكة الصحراء.
“تعالي، ليزي.”
تظاهرتُ بأنّني هدّأتُ غضبي، وفتحتُ ذراعيّ، فما كان منها إلا أن ارتمتْ في أحضاني وكأنّها كانت تنتظر ذلك.
كلّما التصقتْ بي، ازدادتْ قميصي الجديد غلاءً ورطوبةً.
شعرتُ برغبةٍ في دفعها أرضًا حالًا، لكنّي كتمتُ غيظي، واكتفيتُ بوضع قبلة على عنقها الأبيض.
“هاه…”
وما إن لامستْ شفتي عنقها حتى بدأت تصدر أنينًا مبتلًّا. يا لها من امرأةٍ بسيطة. وهذا ما يجعلها مريحة.
صحيح أنّني فقدتُ الأرض، لكنّي لن أتخلّى عنها تمامًا. ما زال لها بعض النفع، لذا لا بدّ من الاحتفاظ بها في الوقت الراهن.
وبينما أُقبلُ شفتيها وهي تتشبّث بي أكثر، بدأتُ بالتفكير في خططي القادمة.
***
[إقليم تيغوليت]
اسم الأرض المكتوب في الوثيقة بدا مألوفًا.
أين رأيتُه من قبل؟
‘آه، لا يُعقل.’
تذكّرتُ إحدى الذكريات القديمة التي كدتُ أنساها.
كان ذلك عندما كنتُ أُكرّس نفسي لجعله إمبراطورًا، قبل وفاتي.
وبالتحديد، في اليوم الأول بعد زواجي الرسمي، حين أصبحتُ السيدة الفعلية لقصر الدوق، وبعد سنواتٍ طويلة من الخطوبة.
أوّل ما فعلته آنذاك هو مراجعة ممتلكاتنا وإعادة تنظيمها.
كان عليّ أن أُدير الثروة التي جلبتُها من عائلتي إلى جانب ممتلكات قصر الدوق، ولهذا فحصتُ الوثائق التي تتعلّق بالأراضي والعقارات.
وبين الوثائق المتراكمة، لفتت انتباهي ورقةٌ من بينها، وتحديدًا الكلمة المكتوبة في أسفلها: ‘فولاذ سوراين’.
فولاذ سوراين يتميّز بكثافته الصلبة، ولا يتكسّر أو يتخدّش بسهولة. لذلك، كان يُستخدم بكثرة في الأسلحة الإمبراطورية وفي الجيش الإمبراطوري.
لكن بسبب ندرته الكبيرة، وصعوبة استخراج مناجمه داخل الإمبراطورية، كان يُباع بأغلى الأثمان.
بمعنى آخر، كان ذلك أشبه بامتلاك أوزّة تبيض ذهبًا. فلو وُجدت مناجمه فقط، لجنى المرء ثروةً طائلة.
وإذا بتلك الوثيقة تشير إلى ذلك الفولاذ… أرضٌ تقع في الجنوب، بمساحة 170 هكتارًا…
مددتُ يدي لأتفحّص الوثيقة عن قرب، لكنّ ذراعًا قويّة أوقفتني.
“آه، تيسيوس.”
ظهرت لي خصلاته الفضية المألوفة. شدّ وجهي ليُقبّل خدّي، ودفع الوثيقة بعيدًا بيده الأخرى. كانت تفوح من أنفاسه رائحة تفاحٍ حلوة.
“أين تقع تلك الأرض؟”
“أنا أُديرها بنفسي. لا داعي لأن تريها.”
“ألا يُمكنني أن أراها؟ تبدو مهمّةً جدًّا…”
“لاحقًا. هناك بعض المشاكل الآن.”
قاطعني بابتسامةٍ حلوة صرفتُ انتباهي، ووعدني أن يريني إيّاها لاحقًا.
أجبتُ بالموافقة وتجاهلتُ الأمر. لكن بعد ذلك، لم يذكر تلك الأرض مرّةً أخرى.
وإن كانت هذه الأرض نفسها، فلا شكّ أنّها هي.
رغم أنني لم أقرأ اسم الإقليم حينها، لكن لا يُمكن أن يمتلك أرضًا أخرى بهذه المساحة جنوبًا.
إن كانت هذه هي فعلاً، فهي مكسبٌ غير متوقّع بحق.
نظرتُ إلى وثيقة الأرض في طريق عودتي إلى المنزل، وشعرتُ أن زاوية فمي ترتفع من دون قصد.
***
“هل تحقّقت من الأمر؟”
في ليلةٍ هادئة، وبينما الجميع نائم، كان هناك ضوءٌ مضاء في إحدى غرف الطابق الثاني من قصرٍ ضخم في ضواحي المدينة.
كان كايلوس جالسًا أمام مكتبه، يحدّق في الرجل الواقف أمامه.
الرجل الأسمر الذي كان يحافظ على وقفته باحترام هو كروونو، وكان وجهه يحمل جدّيةً نادرة.
“نعم. لم تَحدث أيُّ تحرّكاتٍ منذ ذلك الحين.”
“هل أنتَ متأكد؟”
“نشرتُ بعض الرجال لمراقبة المكان، لكن لم يُعثَر على شيءٍ مريب. هناك شيء واحد فقط يُثير القلق.”
“يُثير القلق؟”
“شاهدوا رجلًا يدخل قصر عائلة الكونت تريجي، لكن لم يرَ أحدٌ خروجه.”
لمع بريق حادّ في عيني كايلوس عند سماعه ذلك.
“ابحث أكثر عن ذلك الرجل.”
“حاضر، يا سموّ الدوق.”
وقبل أن يغادر كروونو الغرفة، تذكّر شيئًا فجأةً وتوقّف.
“سيدي، هناك شيءٌ آخر ينبغي أن أُبلّغك به.”
“ما هو؟”
“وصلتنا دعوةٌ من القصر الإمبراطوري.”
دعوة من القصر؟ آه، صحيح… هذه الفترة من السنة تُقام فيها حفلة ذكرى تأسيس الإمبراطورية.
أشار كايلوس بيده علامةً على أنّه فهم، وطلب منه المغادرة.
لكن كروونو تقدّم وأخرج من جيبه الدعوة وناولها له.
“الدعوة مختلفةٌ هذه المرّة.”
مختلفة؟ لكنها دعوةٌ سنوية تُرسَل لكلّ النبلاء، ما المختلف؟
نظر إليه كايلوس بتعجّب وكأنّه يسأل “ماذا تعني؟”، فأكمل كروونو:
“جلالة الإمبراطور كتبها بخطّ يده. يجب أن تطّلع عليها.”
ألقى نظرةً خاطفة، ثم فتح كايلوس الدعوة على مضض.
وكان هناك ختم الإمبراطور الحقيقي داخل الدعوة.
وفي آخر سطر منها، كُتب بخطّ الإمبراطور:
[يُرجى الحضور مع خطيبتكَ، الآنسة إلينيا هيسيتيا.]
***
طَق طَق طَق—
راحت كايا تنظر إلى إلينيا بنظراتٍ منزعجة بسبب الصوت المنتظم.
كانت تعرف تمامًا ما يعنيه هذا الصوت.
منذ صغرها، كلّما غاصت إلينيا في التفكير، كانت تُشبّك أصابعها وتُنقّر بطرف ظفرها على الطاولة.
حاولت كايا كثيرًا منعها، خوفًا من أن يتلف ظفرها، لكن دون جدوى.
وقد مضت الآن أكثر من نصف ساعة وهي تجلس عند النافذة شاردة الذهن.
وهذا طبيعي، فذهنها كان مشغولًا حاليًّا بالأرض التي استولت عليها من ليزي، وبعائلة الكونت تريجي الغامضة.
طَق طَق طَق—
ازداد صوت النقرة حدّة، ولم تعد كايا قادرةً على التحمّل، ففتحت فمها أخيرًا.
“آنستي، كفى. كفى! قلتُ لكِ مرارًا أنَّ الظفر سيتأذّى إن واصلتِ الطرق هكذا. يا إلهي، قلتُ لكِ ذلك منذ الطفولة لكن لم تتغيّري.”
تنهدت كايا وهي تضع يدها فوق يد إلينيا لتوقِفها.
وأخيرًا، توقّف الصوت المنتظم الذي كان يملأ الغرفة الهادئة.
“كيف أغيّر عادةً التصقت بي طيلة حياتي؟ أفعلها من دون وعي.”
ابتسمت إلينيا بوجهٍ طفوليّ بريء وهي تنظر إلى كايا، والتي لم تملك سوى أن تهزّ رأسها بيأس.
“على كلّ حال، ما الذي كنتِ تُفكّرين به كلّ هذا الوقت؟”
“أوه… حفلة ذكرى التأسيس؟”
لم تكذب. كانت تفكّر قليلًا في الحفلة، ولو بمقدار بسيط.
“هل كنتِ تُفكّرين في الفستان الذي سترتدينه؟ كان يجب أن تُخبريني مُسبقًا!”
صفّقت كايا بفرح وقالت بحماس:
“حقًّا! لم يتبقَّ الكثير على موعد الحفلة! يجب أن نُسرع. سأستدعي السائق حالًا!”
وكعادتها، كانت كايا سريعة الحركة. هرعت إلى الأسفل بخفّة قبل أن تتمكّن إلينيا من إيقافها.
‘لو كنتُ أعلم أنّها ستفعل ذلك، لقلتُ إنني أفكّر في قائمة العشاء الليلة.’
تنهدت إلينيا وهي تنظر إلى الدرج الذي نزلت منه كايا.
لكن بما أنَّ الأمر حدث، قرّرت أن تنظر إليه بإيجابية.
فهي كانت تنوي أصلًا أن تشتري فستانًا جديدًا لتلك الحفلة.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 24"