الفصل 20 : الموعد الأول
كان الباب نصف المفتوح يُظهر الخادمة وهي تحمل صينية الشاي. وقد بدا عليها الارتباك الشديد حين رأتني واقفةً مع الدوق في وضعٍ غريب وملاصقٍ تمامًا، فلَمْ تتمكن حتى مِن الدخول وبقيت متسمّرةً في مكانها لا تعرف ما تفعل.
وحين تمالكتُ نفسي أخيرًا وجلستُ على الكرسي، اقتربت الخادمة ببطءٍ وهي تُراقبنا بحذر.
“هِذا الشاي مذاقُه طيبٌ جدًّا. نهايته منعشة. آمل أنْ يُعجبكِ أيضًا.”
قال الدوق، وقد جلس بهدوءٍ كما لو أنْ شيئًا لَمْ يحدث للتو، وأشار إليّ بعينيه وهو يرفع فنجان الشاي.
رفعتُ رأسي فرأيتُ الخادمة تملأ الكؤوس بينما تتابعني أنا والدوق بنظراتٍ خاطفة لا تتوقف.
أخذتُ الفنجان ورفعتُه بحذر إلى شفتيّ.
“حقًّا، إنه كذَلك. فأنا أيضًا أُفضّل الشاي الذي يُنعش الحلق بعد شربه. يبدو أنْ ذوقي وذوق سموّك متشابهان.”
حين التفتُّ نحو الدوق بابتسامة خفيفة، لاحظتُ احمرار وجنتي الخادمة التي كانت تراقبنا.
وبعد أنْ سكبت الشاي ورتّبت الأطباق، خرجت وهي تحمل الصينية بخطواتٍ خفيفة وسريعة.
وما إنْ تلاشى صوت خطواتها حتى وضعتُ فنجان الشاي على الطاولة.
“هل فعلتَ ذَلك عمدًا؟”
“لا شيء يُنهي الشائعات مثل شائعةٍ أخرى.”
قالها وهو ينظرُ نحو الباب الذي خرجت منهُ الخادمة.
ولَمْ يكُن مُخطئًا. فبنسبةٍ كبيرة، ستذهبُ تلكَ الخادمة الصغيرة إلى المطبخ وتُحدّث الجميع عمّا رأته للتو.
رُبما سيُشاع أنْ علاقة الدوق وخطيبته على أحسن ما يُرام، أو أنْ الشائعات التي انتشرت سابقًا بشأنها لَمْ تكُن سوى هراء.
“إذًا، ما جوابكِ؟”
سألني الدوق، وهو يستند بيده إلى خده.
“إنْ أجبتُ… هل ستُبقي ذَلك السيف حبيسَ الخزانة؟”
“يعتمد الأمر على ما سيكون بيننا لاحقًا.”
نظر نحو السيف الموضوع على الطاولة.
“حسنًا. فأنا أيضًا أُريدُ معرفة المزيد عن سموّك.”
ابتسم بخفةٍ حين سمع إجابتي القاطعة.
“إذًا، لنبدأ أولًا بترتيب الألقاب.”
“الألقاب…؟”
‘أشعر أنني سمعتُ هَذا الكلام مِن قبل…’
أمالتُ رأسي بتساؤل، فخطر ببالي فجأةً مشهدٌ مِن يوم الخطوبة.
“إلى متى ستُناديـني هَكذا؟”
“هل هُناك خطبٌ في هَذا اللقب؟”
“نحن خطيبان رسميًّا، وهَذا اللقب يبدو رسميًّا أكثر مِن اللازم…”
“بأيِّ شيءٍ تُفضّل أنْ أُناديك؟”
“ببساطة، نادِني باسمي.”
‘ما هَذا؟’
شعرتُ وكأنني أُساق بسلاسةٍ إلى ما يُريده، وهو ينظر إليّ بوجهٍ هادئ لا تشوبه أيُّ مشاعر خاصة.
وبينما أنا غارقةٌ في حيرتي، عبسَ قليلًا وراح يضغط عليَّ بنظراته.
“كاي…ليوس، سموّ الدوق؟”
لا أعلم لماذا كان نطقُ اسمهِ يُثير الدغدغة في شفتيّ.
“ودوّن كلمة ‘سموّ’.”
ظهرت الجدية في عينيه.
“أه… كايـلوس؟”
تردّدتُ طويلًا، ثم أغمضتُ عينيّ بإحكام ونطقتُ اسمه أخيرًا بصوتٍ واضح.
“يبدو رائعًا هَكذا، إلينيـا.”
رفعتُ رأسي على وقع صوته المليء بالدفء، فوجدته يبتسم.
أجمل ابتسامةً يُظهرها لي منذُ أنْ التقينا.
***
مِن النافذة، كان يُمكن رؤية الناس يتجوّلون في الشوارع الحيوية. وبفضل الطقس المشمس، بدت المدينة أكثر نشاطًا مِن المعتاد.
‘كيف وصلنا إلى هُنا؟’
حتى هَذا الصباح، لَمْ أكُن أتخيّل أنني سأذهب إلى وسط المدينة برفقته، بل ونركب عربةً صغيرة وجهًا لوجه.
“هل الجو حارٌ مِن الداخل؟”
“نعم، أشعرُ بشيءٍ مِن الحرارة.”
“فلنخرج إذًا ونمشي قليلًا.”
“عذرًا؟”
لَمْ أكُن أتوقّع أنْ يكون “الخارج” هو هَذا المكان بالذات.
‘منذُ أسبوعٍ فقط التقيتُ بتيسيوس هُنا وثارَت الشائعات، والآن أعود إلى نفس المكان مع كايـلوس.’
شعرتُ بشيءٍ غريبٍ في صدري.
نزل كايلوس أولًا مِن العربة، ثم مدّ يده إليّ وهو واقفٌ أمام الباب.
“شكرًا لكَ.”
“لا أعلم إلى أين يُمكن أنْ نذهب.”
كان واضحًا أنه لَمْ يُحدّد وجهةً مسبقة، تمامًا كما فعلتُ أنا.
راح يُلقي نظراتٍ سريعة على المحلات المُصطفة.
“ألديكِ شيءٌ تُحبّه بشكلٍ خاص؟”
“شيءٌ أُحبّه؟”
غرق قليلًا في التفكير وكأنَّ السؤال أربكه.
‘أيعقل أنَّ التفكير في شيءٍ يُحبّه أمرٌ صعبٌ لهَذهِ الدرجة؟’
تساءلتُ في نفسي متعجّبةً مِن ردّة فعله.
“وإلّا فيمكننا الاكتفاء بالمشي فقط. فالجوّ جميلٌ اليوم.”
“فكرةٌ جيدة. ولكن…”
نظر إلى قدميّ، ثم سكت.
“ما الأمر؟”
“أظن أنّه سيكون مِن الصعب المشي بتلكَ الهيئة.”
قال ذَلك وهو يُشير إلى حذائي ذي الكعب العالي الذي كان يطلّ مِن أسفل الفستان.
“آه…”
لَمْ يخطُر ببالي أبدًا أننا سنمشي في الخارج، لذا ارتديتُ كعادتي حذائي العالي.
ولو مشيتُ بهِ طويلًا، لتمزّقت أصابع قدميّ تمامًا كما قال.
‘يا له مِن شخصٍ دقيق الملاحظة.’
أُعجبتُ بحدّتهِ اللافتة مِن جديد.
راح كايلوس يتفحّص المحلات المُصطفّة، ثم سرعان ما قادني إلى أحد المتاجر. كانت الأحذية الجميلة الملوّنة مصطفةً داخل واجهة العرض.
وحين فتح الباب ودخلنا، تفاجأت النساء اللواتي كُنّ يُجرّبن الأحذية، وكذَلك السيدة التي بدا أنها صاحبةُ المتجر، فحدّقن فينا بدهشة.
“أهلًا وسهلًا، بماذا أُساعدكُما…؟”
تقدّمت امرأةٌ بدا أنها صاحبة المتجر. كانت ملامح الارتباك باديةً على وجهها، إذ لَمْ تكُن قد رأتني بعد، لأني كنتُ محجوبةً خلف كايـلوس.
تنحّى كايـلوس قليلًا إلى الجانب حتى أتمكن مِن التقدُّم، ثم أشار إلى قدمي وقال:
“أبحث عن حذاءٍ يُناسب قدم خطيبتي، يكون أقل عُلوًّا مِن هَذا، ومريحًا أكثر.”
حين رأتني صاحبة المتجر، أشرقت ملامحها بابتسامةٍ ترحيبية مشرقة.
“آه، بالطبع! سأجلبُ لكما شيئًا مُناسبًا حالًا. أرجو أنْ تنتظرا قليلًا فقط.”
وفيما اختفت تبحث عن الحذاء، بدأت أصداء حديث النسوة داخل المتجر تتسلل إلى أذنيّ.
“يبدو أنه جاء بنفسهِ ليشتري حذاءً لخطيبته.”
“يا إلهي…!”
“أراه لأول مرةٍ، مِن أيِّ عائلةٍ يكون؟”
“أهو مِن النبلاء الجدد؟ لا يُمكن أنْ نجهل وجهًا كهَذا….”
كانت النسوة لا يتوقفن عن التحديق بهِ مِن طرف أعينهن. ولَمْ يكُن مِن الغريب أنْ يتصرفن على هَذا النحو، فقلّما يُرافق الرجال النبلاء زوجاتهم أو خطيباتهم إلى متاجر الأحذية أو محال الفساتين.
والحديث عن وسامتهِ لَمْ يكُن أمرًا مُفاجئًا أيضًا.
وعندما نظرت إليّه مِن جانبي، لاحظتُ مُجددًا كم أنْ بشرتهُ البيضاء وأنفه المحدّد يبدوان واضحين أكثر. أما شعرُه الأسود كحجر السبج، فكان يتلألأ تحت أضواء المتجر الساطعة.
وبعد قليل، عادت صاحبة المتجر تحمل عدة أزواجٍ مِن الأحذية التي قد تُناسبني، ثم اختارت واحدةً ذات كعب منخفض وجلد ناعم الملمس، وبدأت تُلبسني إياها واحدة تلو الأخرى.
“ما رأيكِ؟”
‘إنه أريح مِن الحذاء الذي كنتُ أرتديه، لكن….’
لَمْ يكُن مِن السهل أنْ أقرر أيها الأفضل.
فأنا معتادةٌ على اختيار الأحذية بناءً على الشكل والتصميم دوّن النظر إلى الخامة أو مدى الراحة. لذا، لَمْ أكُن أعلم كيف أُحدِّد الأفضل بين هَذهِ الخيارات.
وفيما كنتُ أحدق في الأحذية وأغرق في التفكير، اقترب مني كايـلوس فجأةً وانحنى نحو الأرض.
جثا على ركبتهِ أمامي، وأخذ زوجًا مِن الأحذية المصفوفة جانبًا، ثم أدخله بيده في قدمي.
“آه، يا صاحب السمو…!”
خرجت مِن شفتي تلكَ المُخاطبة المتصلبة دوّن تفكير. رفع رأسهُ ونظر إليّ، ثم حرّك شفتيهِ بهدوء قائلاً: “الاسم.”
“آه، كايـلوس…! يُمكنني ارتداء الحذاء بنفسي.”
“أعلم، لكن يبدو أنكِ لا تستطيعين اختيار ما يُناسبكِ. هَذا الحذاء أنعمهم جلدًا، فلنأخذ هَذا.”
نظرت إلى الحذاء الذي ألبسني إياه. كان ذا لونٍ بنفسجي فاتح، يلتفُ بلطفٍ حول قدمي، ويوحي براحةٍ وخفة واضحتين.
تدخلت صاحبة المتجر التي كانت تتابع الموقف.
“صحيح، إنه مصنوعٌ مِن خامةٍ خاصة جُلبت مِن بلادٍ عبر البحر، لذا فهو خفيفٌ ومريح. كيف عرفت ذَلك؟”
أجاب وهو يُحدق في الحذاء بنظرةٍ شاردة:
“كانت والدتي تملك حذاءً مِن هَذا النوع. كانت تُحبّه كثيرًا لأنه مِن بلدها الأم.”
“أفهم… ولكن، عذرًا، هل لي أنْ أسأل؟”
نظرت صاحبة المتجر نحوي ونحو كايـلوس بتردد.
“هل أنتم… صاحب السمو الدوق كايـلوس؟”
أومأ كايـوس برأسه تأكيدًا.
“إذًا السيدة بجانبكَ هي…!”
“خطيبتي.”
قال ذَلك بنبرةٍ واضحة وهو ينظر إليّ.
“إنه لشرفٌ لنا أنْ نستضيف سموك وسمو خطيبتك!”
انحنت صاحبة المتجر بانحناءةٍ مهذبة، فرددتُ التحية بابتسامةٍ خفيفة.
“لكن… كيف انتشرت تلكَ الشائعات رغم وضوح العلاقة بينكما…؟”
“أهُناك شائعاتٌ سيئة عنّا؟”
قالها كايـلوس ببرود، مُتصنعًا الجهل.
“لا، لا، أبدًا.”
ارتبكت صاحبة المتجر وسرعان ما تهربت مِن الحديث. أما أنا، فلَمْ أستطع كتم ابتسامةٍ خرجت مني تلقائيًا أمام برودة تصرفهِ الوقح قليلًا.
وحين وصلت ضحكتي إلى أذنيه، لاحظت زاوية شفتيهِ ترتفع قليلاً.
***
بعد انكشاف هويتنا، عمّ الصخب أرجاء المتجر أكثر مِن ذي قبل. غادرنا المكان وسط همسات النساء وبتوديعٍ مُهذب مِن صاحبة المتجر.
وبِمُجرد أنْ ارتديت الحذاء الذي اختاره كايـلوس، شعرتُ حقًا أنْ المشي أصبح أسهل بكثير مِن السابق. ثم سرنا قليلًا في طريق هادئ خلف المتجر.
لكن فجأةً، لاحظتُ أنْ خطوات كايـلوس بجانبي بدأت تتباطأ بشكلٍ واضح.
وحين التفتُّ نحوه لأفهم ما الأمر، وجدتُه واقفًا في منتصف الطريق دوّن حراك.
“ما بكَ؟”
لَمْ يُجب، بل ظل يحدّق بصمتٍ نحو مكانٍ ما.
وفجأةً، اندفع راكضًا نحو زقاقٍ ضيق ومظلم بجانب الطريق.
“انتظر، كايـلوس…!”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 20"