الفصل 2 : فسخ الخطوبة ¹
“سأُعلن فسخ الخطوبة.”
“ماذا قلتِ للتوّ، إلينيا؟”
“فسخ الخطوبة، يا أبي. سأعتبرُ زواجي مِن الدوق تيسيوس كأنَّ شيئًا لَمْ يكُن.”
لَمْ يستطع الماركيز أنْ يستوعب ما سمعهُ لتوه.
ابنتُه التي مِن المفترض أنْ تتزوّج غدًا، تتفوهُ الآن بكلمةٍ الرهيبة.
“أتعرفين ما الذي تقولينه؟! غدًا هو يوم زفافكِ! ما هَذا الهراء! ما الذي يجري معكِ، إلينيا؟!”
“إنْ لَمْ تفعلها أنتَ، فسأقوم بها بنفسي.”
كان الماركيز يعرفُ جيدًا تلكَ النظرة في عيني ابنته.
فقد عاش مع هَذهِ الابنة العشرين عامًا، وكان يعرفُ عنادها الشديد الذي يجعلها لا ترضخ أبدًا لما ترفضه، لدرجة تجعلُه يكاد يفقد صوابه.
حتى البارحة فقط، كانت الفتاة مُتحمسةً تنتظر حفل زفافها، فما الذي حدث لتتغيّر هَكذا بين ليلةٍ وضحاها؟
أرسل نظرةً إلى كايا الواقفة خلفه علّه يجدُ تفسيرًا، لكنها اكتفت بهزّ رأسها نفيًا.
“إلينيا، فكري بعقلانية. هَذهِ ليست مسألةً تخصُّكِ وحدكِ، بل تمسّ أباكِ وعائلتنا بأسرها.
العروس التي تفسخ خطوبتها قبل يومٍ واحد مِن الزفاف يجبُ أنْ يكون لديها سببٌ وجيه لذَلك، أليس كذَلك؟”
حاول الماركيز أنْ يتحدث بصرامةٍ لإقناع ابنته.
ولكن، ما إنْ سمع كلماتها التالية، حتى كاد يُغمى عليه.
“أريدُ الزواج مِن رجلٍ آخر. لا يُمكنني الزواج مِن الدوق تيسيوس.”
“ماذا تقولين؟! مَن بالضبط؟!”
“دوق كايلوس. سأرتبطُ به.”
صرخ الماركيز وكايا معًا بصوت واحد.
***
بعد أنْ خرجتُ مِن غرفة والدي وكأنني قد طُردتُ منها، عُدتُ إلى غرفتي وأنا أستمع إلى كايا تصرخ بجانبي، تقارب صراخها أنْ يكون صراخ فزع، مرددة كلامًا مثل: ‘لا يُمكن أنْ يحدث هَذا’، و’يجبُ استدعاء الطبيب’، وما شابه ذَلك.
“آنستي! هل تسمعينني؟ هَذا مستحيل! مهما حصل هَذا لا يجبُ أنْ يحدث! أليس كذَلك؟! يا إلهي، دوق كايلوس؟! آنستي، هل أنتِ بخيرٍ حقًا؟! هل أستدعي الطبيب الآن؟”
“توقفي، كايا. ولا حاجة لاستدعاء الطبيب، فأنا الآن أكثر عقلًا مِن أيِّ وقتٍ مضى!”
“لا! لو كنتِ بخير، لما فعلتِ هَذا! متى التقيتِ بدوق كايلوس لتتصرفي هَكذا؟!”
صحيح، في الواقع لَمْ تتح لي فرصةٌ كبيرة للقاء الدوق كايلوس.
بل، على العكس، فقد كان أكبر أعداء تيسيوس.
كايلوس دو فرينيان. كان في الأصل أميرًا لا دوقًا. بل الابن البكر للإمبراطور.
غير أنْ أصله حال دوّن أنْ يكون أميرًا.
فوالدته كانت راقصةً في القصر الإمبراطوري، حملت بكايلوس بعد ليلةٍ مع الإمبراطور.
ورغم أنها أنجبت أول أبناء الإمبراطور قبل الإمبراطورة نفسها، فإنها لَمْ تحصل على أيِّ لقبٍ حتى وفاتها بمرضٍ عضال.
بعد وفاتها، مُنح كايلوس بالكاد لقب دو فرينيان ولقب الدوق.
لذَلك، رغم كونهِ الابن الذكر الوحيد الحيّ للإمبراطور، وصاحب المرتبة الأولى في وراثة العرش، فإنه لَمْ يُعترف بهِ كأميرٍ شرعي.
كما أنْ النبلاء لَمْ يعتبروا أحقية وراثته للعرش، بل اعتبروا أصله الوضيع مشكلةً كبرى، حتى أنْ بعضهم صرّح بأنَّ دعم دوق تيسيوس، الذي يتمتع بتاريخٍ طويل في النسب النبيل دوّن أنْ يمتزج دمه بالدم الإمبراطوري، أفضل بكثير.
وفوق ذَلك، كان دوق كايلوس يُدرك هَذهِ الحقيقة جيدًا، ولهَذا نادرًا ما كان يظهر في المجتمع.
أما أنا، فَلَمِ أرَه سوى بضع مراتٍ عن بُعد في حفلات القصر الإمبراطوري.
ولذا، لَمْ يكُن مستغربًا أنْ يثور أبي وكايا بهَذا الشكل عندما قلت إنني أريدُ الزواج منه.
وكلام والدي عن أنْ الأمر يتعلق بمصلحة العائلة لَمْ يكُن خاطئًا.
فأسرةُ الماركيز هيسيتيا، التي أنتمي إليّها، تُعد مِن أعرق الأسر في الإمبراطورية منذُ تأسيسها، وتمتلك نفوذًا لا تقل كثيرًا عن نفوذ عائل الدوق.
لذا كان يُنظر إلى زواجي مِن تيسيوس باعتباره أكثر مِن مُجرد ارتباطٍ شخصي، بل تحالفًا بين العائلتين وما قد يترتب عليه مِن نتائج.
ومع ذَلك، فإنَّ العاصفة التي سيجلبها هَذا الفسخ… لَن تكون بالأمر الهين.
ومع أنني أدرك ذَلك، إلا أنني لا أشعرُ بأيِّ ندمٍ على قراري.
‘يكفي أنْ أرتكب الخطأ مرةً واحدة.’
“عليّ أنْ أخرج. سأتوجه إلى قصر دوق تيسيوس.”
“آنستي، ما الذي تنوين فعله…؟”
تركتُ كايا تبكي بحرقةٍ خلفي، وصعدت إلى العربة التي كنت قد أمرت بتجهيزها سلفًا.
ومِن نافذة العربة، رأيتُ نافذة المكتبة في الطابق الثاني، وكان أبي واقفًا أمامها يُحدق بي بقلقٍ شديد. كان وجهُه المتغضن مغمورًا بالهموم.
“إنْ كان هَذا هو السبب، فلَن أسمح أبدًا بفسخ الخطوبة. الزفاف غدًا! توقفي عن هَذا الهراء….”
صوت انزلاق الباب –
“إلينيا! ضعي السيف حالاً! ما الذي تفعلينه؟!”
“أعتذر يا أبي. ولكن لا يوجد حلٌ آخر. إذا تم الزواج غدًا، فسوف أموت على أيِّ حال. فلو متُّ هُنا الآن، على الأقل سأستطيع أنْ أحمي أشياء أخرى.”
“ماذا تقصدين…؟”
“لذَلك اختر، يا أبي. إمّا أنْ تقتلني الآن، أو تُنقذني!”
لقد كان إذن إذنًا انتزعته انتزاعًا بالقوة. مِن ذا الذي يستطيع تخيّل شعور أبٍ يرى ابنته تشهر السيف وتهدد حياتها أمام عينيه؟
لَمْ أستطع حتى تخيُّل الأمر، ولكن في المقابل، لَمْ يكُن هُناك طريقةٌ افضل مِن هَذهِ.
فمهما كانت أهمية العائلة ومكانة الشرف، يبقى الأب أبًا قبل أنْ يكون ماركيزًا. ولا يستطيع إلا أنْ ينهار أمام ابنته.
كان سيفعل أيِّ شيءٍ ليحمي آخر أطفاله.
وأنا أيضًا لَمْ أكُن مختلفةً عنه.
‘سوف أصلح كل شيء. هَذهِ المرة، سأحمي أبي والعائلة معًا.’
***
جدران مغطاةٌ بورق حائط أخضر وطاولة مِن الماهوغني تتوسط الغرفة. مِن الكوب الخزفي الأبيض الموضوع على الطاولة كان يتصاعد بخار الشاي الساخن.
‘أشعرُ… بشعورٍ غريب.’
كل شيء بقي كما هو. كما كان حين كنتُ سيدة هَذا القصر.
باستثناء بعض القطع التزيينية، لَمْ يتغيّر شيءٌ يُذكَر في غرفة الاستقبال بدوقية تيسيوس عن الماضي.
الفرق الوحيد هو أنني لَمْ أعد سيدة هَذا المكان.
جلوسي هُنا أعاد إلى ذهني ذَلك اليوم. حين التقيتُ تيسيوس لأول مرةٍ بعد تلقي عرض الزواج منه.
كان ذَلك قبل عامين، عقب حفل بلوغي بفترةٍ قصيرة.
بعد حفل البلوغ، انهالت طلبات الزواج مِن النبلاء الذين يرغبون في توطيد العلاقات الأسرية.
وكحال معظم نبلاء الإمبراطورية، كانت عروض الزواج هَذهِ مجرد ترتيباتٍ رسمية تخلو مِن الحب.
مِن بين عشرات طلبات الزواج، كان الطلب المرسل مِن دوقية تيسيوس هو ما جذب انتباهي.
تيسيوس فون كارلويان. الفارس الأشقر ذو العينين الزرقاوين. سيّاف الإمبراطورية الأول، وحلم كل فتيات العاصمة العازبات.
كان رجلاً ارتبطت بهِ جميع الأوصاف التي يُمكن أنْ تُطلق على الرجل المثالي.
كان الناس يتعجبون مِن تأخره عن الزواج رغم بلوغهِ الخامسة والعشرين، وقد راجت شائعات بأنه كان ينتظر حتى تبلغ الأميرة سن الرشد ليطلب يدها.
ولكنه لَمْ يطلب يد الأميرة ولا بنات الأسر النبيلة الأخرى، بل أرسل لي أنا عرض الزواج.
ومنذُ أنْ أرسل عرض الزواج، لَمْ يمر يومٌ دوّن أنْ يرسل لي الورود والهدايا.
ولا أدري كيف عرف، لكن كل ما كان يرسله لي كان مِن الأشياء التي أحبها؛ شاي مِن متجري المفضل، وحلويات مِن المحلات التي أرتادها. وأحيانًا كان يرفقها ببطاقات صغيرة مكتوبة بخط يده.
كانت تصرفاته أقرب إلى تصرفات عاشقٍ حقيقي منها إلى زواجٍ مرتب بين عائلتين.
كان يعرف جيدًا كيف يكسب قلب امرأة، ومتى يبوح بمشاعره.
وبالنسبة لفتاةٍ نبيلة نشأت كزهرةٍ داخل دفيئة، كان تيسيوس إغراءً لا يُقاوم.
‘لقد كانت هُناك لحظاتٌ صدّقتُ فيها أنْ مشاعره حقيقية.’
رغم أنني لَمْ أشرب الشاي، شعرتُ بمرارةٍ في طرف لساني.
“آه، لقد تركتُكِ تنتظرين طويلاً. إلينيا، هل انتظرتِ كثيرًا؟”
ارتجف جسدي على وقع صوته المألوف. الرجل الذي طعن قلبي بسيفه كان يبتسم لي ببشاشةٍ. وكان شعره يقترب مني إلى درجة أنني تخيلتُ أنه سينزف دمًا في أية لحظة.
شدَدتُ يدي المرتجفتين فوق ركبتي حتى أخفي ارتجافي.
“نعم. كان الانتظار طويلاً.”
بدا الارتباك واضحًا على ملامح تيسيوس عند إجابتي الحادة.
“أنا آسف. كان يجبُ أنْ آتي أسرع. لكن تقارير الإقطاعية قد تكدست عليّ.”
‘تقارير الإقطاعية؟ ها. يا لكَ مِن مضحك.’
كتمتُ ضحكةً ساخرة بصعوبة. فرائحةُ العطر الفواحة مِن لحظة دخولهِ كانت تكفي لكشف كذبته.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 2"