الفصل 18 : الذكريات ³
تدريبُ كرونو دائمًا ما يكون صادقًا. فهو يُظهر القدرات الكامنة لدى الفرسان كما هي، ويُطلقها بأقصى ما يُمكن مِن قوة.
لا مكان في شخصيته للتقنيات المزيفة أو المُتباهية الخادعة.
ولأن كايلوس كان يعرفُ ذًلك جيدًا، فإنه كان لا يزال يُراقب تدريباته باستمرار، رغم معرفتهِ المُسبقة بكل شيء.
وقد همّ بالخروج مِن الغرفة اليوم أيضًا لمتابعة تدريب كرونو، حينما وقعت عيناه فجأةً على سيفٍ وُضع بعنايةٍ على أحد جوانب المكتب.
ذَلك السيف الإمبراطوري كان هدية خطوبتهِ التي تلقاها مؤخرًا مِن إلينيا، خطيبتهِ الجديدة.
كان الزمرد المُرصّع على غمد السيف يُصدر بريقًا يُظهر جليًا حضوره المميز.
‘قالت إنهُ كنز عائلة هيسيتيا.’
سيفٌ صنعه حدّادُ البلاط الإمبراطوري، وكنزٌ لعائلة الماركيز.
عند تسليمه السيف في يوم الخطوبة، قالت إلينيا إنه ‘شيء يجبُ أنْ يحصل عليه’، وكان هو قد لمح إلى معنى السيف آنذاك بشكلٍ غامض.
لكنّ تخمينُه ذاك تحوّل إلى يقينٍ قبل أيام، حين زارته في القصر وناقشته بشأن أهلية كونه أمبراطور.
قالت له إنها ستمنحُه سببًا ليُصبح إمبراطورًا، ثم غادرت القصر.
‘إنها امرأةٌ غريبةٌ بالفعل.’
كانت كذَلك منذُ لقائهما الأول. رُبما هي لا تتذكر أول لقاءٍ بينهما، لكنّه لا ينساه.
في ذَلك اليوم، أُقيم في القصر الإمبراطوري حفلٌ كبير بمناسبة يوم التأسيس، وهو حفلٌ يُعقد مرةً واحدةً في السنة.
ونظرًا لأهمية الحدث، فقد حضره جميع النبلاء البارزين.
كايـلوس، الذي لًمْ تطأ قدماه القصر بعد حفل بلوغه، لَمْ يكُن ينوي الحضور لذَلك الحفل أيضًا.
لكنّه اضطر للحضور جزئيًا بسبب إلحاح كرونو عليه بأنَّ يُظهر وجهه في المجتمع الأرستقراطي.
وهُناك، رأى إلينيا هيسيتيا للمرة الأولى.
ابنةُ الماركيز، التي أنهت لتوّها حفل بلوغها. وكانت قد أثارت اهتمام المجتمع مُسبقًا مِن خلال حفل ظهورها الأول الباهر.
ووسط سيل الاهتمام الذي انهال عليها، كانت تستمتعُ بالحفل على نحوٍ يُناقض تمامًا حال كايـلوس.
“آنسة هيسيتيـا، مِن أين حصلتِ على هَذا الفستان؟”
“إنه جميلٌ للغاية. وماذا عن هَذهِ الأحذية؟!”
“آنسة هيسيتيـا، هَذا أيضًا مِن أين…؟”
وقد كان مِن المُثير رؤيتها وهي تُغيّر ملامح وجهها باستمرار مِن شدة الإحراج أمام أسئلة الفتيات اللواتي أحطن بها.
وقد بدا له أنَّ وجنتيها المُحمرتين وشعرها الأشقر الذي يُشبه أشعة الشمس الصباحية يليقان بها كثيرًا.
لكنّها اختفت فجأةً مِن أمام عينيه.
فسحب كايـلوس نظرهُ عنها وتوجّه نحو الشرفة.
وقبل أنْ يُزيح الستار عن الشرفة، سمع صوتًا مِن خلفه.
“أوه… إنْ لَمْ يكُن في الأمر إزعاج، هل يُمكنكَ أنْ تبقى واقفًا هُنا قليلًا؟”
ومِن خلف الستار، رأى خصلات شعرٍ مألوفة كان يُشاهدها قبل قليل.
“هاه… هُناك في الداخل كثيرٌ مِن الناس، ولو استمعتُ لكل ما يقولونه، ستنصهر أذناي تمامًا!”
لًمْ يشعر بنفسهِ حينما خرجت ضحكةٌ خافتة منه.
يبدو أنَّ إلينيا قد سمعت ضحكته، إذ التزمت الصمت فجأة.
فحاول كايـلوس كتم ابتسامتهِ مِن جديد، وأسند ظهرهُ إلى الستار ليُخفيها عن الأنظار.
“شكرًا لك.”
ثم بدأت إلينيا تُمطره بالأسئلة.
“هل سبق لكَ حضور حفل يوم التأسيس؟ هَذهِ أول مرةٍ لي. لقد بلغتُ سن الرشد الأسبوع الماضي فحسب!”
“أعرف.”
“حقًا؟! آه، لكن لماذا تتحدثُ بلهجةٍ غير رسمية؟”
ردّ كايـلوس بعد أنْ كتم ضحكته على سؤالها المُغتاظ.
“على حد علمي، أنتِ أصغرُ مني.”
“هل تعرف مَن أكون؟”
“ابنة الماركيز هيسيتيـا، أليس كذلك؟”
تفاجأت إلينيا بصوته المُندهش.
“أنتً تعرفني حقًا… لا تقل إننا التقينا مِن قبل!”
“على الأرجح، لا.”
“هَذا غير عادل! أنتً تعرفني، وأنا لا أعرفُ مَن تكون!”
“لكنني أُحققُ لكِ أمنيتكِ، أليس كذلك؟”
وهَكذا، انجرف كايـلوس في حديثٍ طويل معها، دوّن أنْ يشعر بالوقت.
“أنا ممتنةٌ لذَلك. آه! حين أخرجُ مِن هُنا، سأُحقق لكَ أمنيةً أنتَ أيضًا!”
“وكيف ستعرفين ما أُريده؟”
“طالما أنّهُ ليس أمرًا صعبًا، فرُبما أستطيع تحقيقه!”
كان في نبرتها الواثقة لمسةٌ مِن ثقة النبلاء وبساطتهم.
“حين أفكر بشيء، سأخبركِ.”
“حسنًا. إذًا، ما اسمكَ أولًا-“
شعر بحركتها وهي تستدير لتخرج مِن خلف الستار.
ولو التقت عيناها به الآن، فإنها ستُفاجأ بشدةٍ. لذا، كان مِن الأفضل ألّا يحدُث ذَلك.
وفور أنْ بدأت بالتحرك، غادر كايـلوس قاعة الحفل بسرعة.
مِن خلفه، وهو يبتعد، سُمِع صوت إلينيا تناديه.
يبدو أنَّ الذكريات مع إلينيا بدأت تعود إليّه بسبب هَذا السيف الذي يُمسكه الآن.
تأمّل السيف بين يديهِ للحظة. امتدت يدهُ نحو الزمرد الذي يحمل لون عينيه نفسه.
مِن المؤكّد أنْ نصلًا حادًا مصنوعًا مِن فولاذ سراين يكمن داخل هَذا الغمد.
إلينيا، التي أصبحت الآن خطيبته، أخبرته عند منحه هَذا السيف إنه يستحقُ الحصول عليه.
‘هل حقًا أستحقه؟’
استدار عائدًا نحو القصر. وفي اللحظة التي ثبت فيها السيف عند خصره، شعر وكأنَّ لمسةً ناعمة مرت على خدهِ واختفت.
‘هل كنتُ أتوهم؟’
كان صباحًا تذكر فيه وجه أحدهم في ذاكرته.
***
مرّ أسبوع منذُ بدأت الشائعات عن وجود علاقةٍ سرية بيني وبين تيسيوس.
‘مِن المؤكّد أنَّ الشائعة قد وصلت إلى داخل القصر الإمبراطوري الآن.’
رغم أنني كنتُ أتمنى ذَلك، فإنني كنتُ متوترةً في الوقت نفسه. فالشائعات بطبيعتها ليست سوى أحاديثٍ عابرة تتناقلها الألسن.
قد تنتشر أبسط الأمور بسهولة، لكن تبعاتها لا تكون بنفس البساطة.
ولا يُمكن لأحدٍ أنْ يتوقّع كيف ستتضخّم هَذهِ الشائعة بين مَن يحبّون نقل الكلام. والأسوأ مِن ذَلك…
‘مِن المؤكّد أنْ دوق كايلوس أيضًا قد سمع بهَذهِ الشائعة.’
حتى لو لَمْ يكُن يهتم بعالم النبلاء، فَمِن المستحيل أنْ لا يكون قد سمع بها.
‘ومع ذَلك، فالصمت غريب.’
في خضمّ التخبّط المُتزايد في رأسي، لَمْ أعد أحتمل، فنهضتُ مِن مقعدي.
“سأخرج قليلًا. هل تُحضّرين لي ما يلزم؟”
“إلى أين فجأة؟”
طرفَت كايا بعينيها في دهشة مِن إعلان خروجي المُفاجئ.
“يجبُ أنْ أزور الدوق كايلوس. أخبري قصره أنني قادمة.”
“حاضر.”
لَمْ تدم دهشتها طويلًا، فبِمُجرّد سماعها باسم الوجهة، نهضت بسرعةٍ وتوجّهت إلى الطابق السفلي.
‘لقد سئمتُ مِن الكتمان والانتظار.’
إنْ كان هُناك درسٌ واحد تعلمتُه مِن حياتي السابقة مع تيسيوس، فهو أنْ الاستنتاجات وحدها لا تُجدي نفعًا.
إذا كان هُناك ما يُثير الفضول، فالسؤال المُباشر هو الحلّ.
وقد جرّبتُ مِن قبل كم أنْ الظنون لا تُفيد في شيء.
لَن أكرر نفس الخطأ مرّة أخرى.
***
لا تزال أحواض الزهور في الحديقة مملوءةً بأزهار فيرريستا المتفتّحة. ومع هَذا القدر مِن التفتّح، كان مِن المُفترض أنْ تكون الرائحة طاغيةً لدرجةٍ تُسبب الدوار، لكن الأمر لَمْ يكُن كذَلك.
اقتربتُ مِن زهرةٍ بنفسجية اللون واقتربت بأنفي منها. لكن عوضًا عن عبيرٍ زكي، انبعث منها عبقٌ خفيف يُشبه رائحة الأعشاب، تمايلت بهدوء مع نسيم الصباح.
‘زهورٌ بلا رائحة؟’
لعلّ حتى الزهور تُشبه صاحبها إلى هَذا الحدّ.
لا تزال كلماته عن عدم رغبته في اعتلاء العرش تدور في ذهني منذُ لقائنا الأخير.
“لَمْ أكُن أعلم أنكِ مهتمّةٌ بتلكَ الزهرة.”
تفاجأتُ والتفتُّ بسرعة عندما سمعتُ صوته قريبًا جدًا مني.
كان دوق كايلوس قد اقترب مني دوّن أنْ أشعر، وتعابير وجههِ كانت تنمّ عن دهشةٍ خفيفة.
“آه، لقد لفتتني لأنها بلا رائحة….”
خرجت كلماتي وكأنها تبريرٌ لا إرادي.
كان هِذا أول لقاءٍ لنا منذُ ذَلك اليوم الذي قال فيهِ إنه لا يريدُ أنْ يكون إمبراطورًا، ثم غادر.
شعرتُ وكأنني طفلٌ ارتكب خطأً وأُمسك به.
وقف يُحدّق بي للحظات، ثم خطا باتجاه الحديقة. وحين مرّ بجانبي، شعرت بنسمةٍ باردة تمرّ على أنفي.
“يبدو أنكِ لا تعرفين. زهور فيرريستا لا تفوح منها رائحة. إنها تتفتّح طوال فصول السنة بلا عبير… أمرٌ ساخر، أليس كذلك؟”
“بل يُعجبني الأمر. فالعطور القويّة تُسبب لي صداعًا.”
“إذن نحنُ نتشابه في هَذا.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على زاوية شفتيه.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 18"