الفصل 15 : إشاعات ¹
ارتعد بدني مِن القشعريرة حين سمعتُ كلماتهِ تهمس في أذني.
‘ما هَذا الهراء؟’
هل هَكذا سيكون الشعور إنْ همس الشيطان في أذنك؟ شعرتُ بعضلات وجهي تلتوي مِن الانزعاج، لعجزي عن إخفاء تعابيري في الوقت المناسب.
لكنه رفع رأسهُ وضحك، وكأنًّ الأمر لا يستحقُ كل هَذا.
ثم قال بصوتٍ منخفض:
“أنا أقول ذَلك فقط حتى تُفكري بالأمر. إلينيا، لا زالت هُناك فرصة.”
وبعد أنْ أنهى كلامه، استدار واختفى دوّن أيِّ تردّد.
وفي النهاية، عدتُ إلى القصر بمزاجٍ أسوأ حتى مِن لحظة خروجي منه.
وعندما رأت كايا وجهي الذي بدا أكثر سوءًا مِن ذي قبل، اتسعت عيناها بدهشة.
لكن لا وجه كايا، ولا أيِّ شيءٍ آخر، استطاع أنْ يجذب انتباهي الآن. لَمْ يكُن يشغل رأسي سوى كلمات تيسيوس التي ألقاها عليِّ كقنبلة قبل أنْ يغادر.
‘بأيِّ قصدٍ قال هَذا الكلام؟ هل يستخفُّ بي؟ أم أنّه…’
لا. هَذا مستحيل. هززتُ رأسي وأنا أرفض الفكرة التي لا تُصدّق.
‘لكن كلماته تلكَ، بغض النظر عن مقدار تفكيري في الأمر…’
هل فقد عقله فعلًا؟ إلى درجة أنْ يطلب مِن امرأةٍ فسخت خطوبتها منه وارتبطت بغيّرهِ أنْ تعود إليّه مُجددًا؟
لَمْ أعد واثقةً مِن أيِّ شيء. تنفستُ بعمق مِن جوفي، وأغمضتُ عينيّ وأنا أتكئ بحذرٍ على الكرسي.
رأسي كان ينبضُ بالألم. والصداع الذي بدأ منذُ الصباح لَمْ يُبدِ أيٍّ نيّةٍ للزوال.
كنتُ أفكّر في أنْ أطلب مِن كايا أنْ تجلب لي مُسكّنًا.
“آنستي. جرّبي هَذا مِن فضلكِ.”
وضعت كايا صينيةً صغيرة أمامي.
على طبق الحلوى وُضع كرامبل القرع العسلي الشهي. بدا الكرامبل المكسو بالكريمة وكأنَّ حلاوته تتسلل مِن مظهره.
‘اليوم مِن المُفترض أنْ يكون يوم إجازة طاهي الحلويات.’
حدّقتُ في كايا بعينين مُمتلئتين بالشك، فابتسمت فورًا وقد فهمت ما أفكر فيه.
“أجل، صحيح أنْ الطاهي في إجازة اليوم! لكني طلبتُ منه شخصيًا، وقد وافق على تحضيره لي.”
“وماذا وعدتهِ في المقابل؟”
جميع طهاة القصر يحصلون على يوم راحةٍ شهريًا بالتناوب.
وبحسب علمي، فإنًّ الطاهي ليس مِن النوع الذي يُفرّط في يوم راحتهِ بسهولة، ولا يملك طبعًا كريمًا يجعلُه يلبّي طلبات الآخرين بهَذهِ البساطة.
“أممم…”
“كايا؟”
وحين استعجلتُها في الرد، اعترفت بالحقيقة بنظرةٍ محرجة.
“في الواقع، الطاهي يدين لي بمعروفّ بسيط. تُعجبه فتاةٌ تُدعى جيسي، تعمل في قصر فايفون، وأنا مَن عرّفتُهما على بعض. يُمكن القول إنني كنتُ جسر الحُبّ بينهما. وفي العطلة الماضية، تصوري! أمضى الليلة كاملة برفقة جيسي، فقط هُما الاثنان….”
“آه، كفى. هَذا يكفي.”
لوّحتُ بيدي بسرعةٍ مقاطعةً حديثها. شعرتُ بأنني سمعتُ ما لا يجب أنْ يُسمع.
سواء أمضى طاهي القصر ليلته مع امرأةٍ أم لا، لا أريدُ أنْ أعرف.
والآن، وبينما أسترجع الأمر، أُدرك مُجددًا أنْ كايا تملك موهبةً غريبة منذُ زمن.
تُسمّيها هي… جسر الحُبّ، أليس كذلك؟
على أيِّ حال، كايا كانت بالفعل موهوبةً في هَذا المجال. كل الأزواج الذين جمعت بينهم كانوا يتطابقون دوّن استثناء.
وشاهدتُ بنفسي عدّة خدمٍ يأتونها طلبًا لما تُسميه ‘التوجيه’.
أما أنا، فلَمْ يكُن لديّ حتى الآن ما يستدعي الحصول على هَذا ‘التوجيه’ منها.
دفعت كايا كرامبل القرع العسلي أمامي وكأنه غنيمةٌ ثمينة حصلت عليها.
“طعمُه سيكون رائعًا! طلبت منه أنْ يصنعه بكُل حب، بقدر ما يشعر مِن امتنانٍ تجاهي!”
وبصوتها المرِح، وجدتُ نفسي أتناول لقمةً منه متظاهرةً بالاستسلام. ولمّا رأتني أضعها في فمي، تنفست كايا الصعداء وسألت:
“كيف كانت المدينة؟”
“لا بأس.”
“أشعرُ أنني لًمْ يكُن عليّ أنَّ أطلب منكِ الخروج اليوم. هُناك الكثير مِن الناس، وقد تكون الأجواء مزعجة….”
“لا بأس. كان هُناك كثير مِن الناس، صحيح، لكن….”
عندها فقط لمعت فكرةٌ في رأسي كوميض برق.
‘كان هُناك كثيرٌ مِن الناس، أكثر مِن اللازم. عيونٌ كثيرة رأتني أنا وتيسيوس معًا.’
مُجرد أنْ يلتقي رجلٌ وامرأة كانا مخطوبين وانفصلا في وسط مدينة مزدحمة، هو بحدّ ذاتهِ موضوعٌ كافٍ ليُصبح حديث الناس.
بالإضافة إلى ما فعله تيسيوس بي.
بالنسبة لأولئكَ الذين يعشقون نقل الأحاديث، لا يُمكن أنْ يكون هُناك قصةٌ أكثر جاذبيةً مِن هَذهِ. لَن يمر وقتٌ طويل حتى تبدأ الشائعات بالانتشار.
‘ليت الذين رأوا ما حدث قبل قليل لَمْ يكونوا كثيرين… أو على الأقل ألا تكون ألسنتهم خفيفة.’
وهَكذا، انضمّ همٌّ آخر إلى قائمة همومي مع نهاية هَذا اليوم.
***
لَمْ يستغرق الأمر طويلاً حتى تتحقق المخاوف التي أبقتني مستيقظةً الليلة الماضية.
كنت قد أنهيتُ للتو وجبة الغداء التي أحضرتها كايا، حين سمعتُ صوت خطواتٍ مسرعة تقتربُ مِن خلف الباب.
وبعد لحظات، فتحت كايا الباب بعنف.
“آنسة…!”
تقدّمت نحوي بوجهٍ متوتر، وكأنها تتردّد للحظة، ثم فتحت فمها وقد بدا أنها اتخذت قرارًا.
“هل التقيتِ صدفةً البارحة في المدينة بدوق تيسيوس؟”
“…كيف عرفتِ؟”
“الحقيقة، هُناك شائعات…”
“شائعات؟ أيُّ شائعات؟”
“سمعتُ مِن تيرينس، الذي جاء لتوصيل البقالة قبل قليل… هُناك شائعةٌ غريبة تنتشر حاليًا. يقولون إنكِ والدوق تيسيوس تتقابلان سرًا…”
“ماذا؟”
كان مِن الصادم ليس فقط أنْ تنتشر الشائعة، بل الكيفية التي نُسجت بها.
أيعقل أنْ يُطلق على لقاءٍ حدث صدفة في وسط شارعٍ مزدحم اسم ‘لقاءٍ سري’؟ أم أنَّ معنى هَذهِ الكلمة قد تغيّر مِن دوّن علمي؟
“لَمْ يكُن لقاءً سريًا، بل صادف أنْ التقينا في وسط الشارع، وبمحض الصدفة.”
“حقًا؟ أنا أيضًا فكّرت أنْ الأمر لا يُعقل. ذَلك الأحمق تيرينس، مِن أين جاء بمثل هَذهِ الشائعة السخيفة!”
انفجرت كايا غضبًا وكأنها على وشك الخروج فورًا والإمساك بتيرينس مِن ملابسه.
“سأخرج فورًا وأقبض على مًن نشر هَذهِ الأكاذيب!”
“دعي الأمر، لا تردّي.”
“عفوا؟ ولكن…”
نظرت إلي كايا بعدم فهم وقد غمر وجهها التساؤل.
“دعي الشائعة تنتشر.”
“هل أنتِ متأكدةٌ مِن ذَلك؟”
“سأنتظر حتى يحين الوقت المناسب.”
“لا أفهم ما الذي تعنينه، آنستي.”
إنْ كانت شائعة لا يُمكن إيقافها، فرُبما مِن الأفضل تركها وشأنها.
وإذا تمكنت مِن استغلالها لصالحِي، فذَلك أفضل.
أدرتُ رأسي نحو النافذة. رأيتُ الأغصان تهتزّ بعنف تحت عصف الريح، والأوراق تتساقط دوّن مقاومة. لكن ما إنْ هدأ الريح، حتى عاد كل شيءٍ إلى السكون.
نعم، رُبما كنتُ أسرع مِن اللازم طوال الفترة الماضية. الآن حان الوقت لتخفيف الإيقاع قليلاً. فهُناك أوقاتٌ يكون فيها التريث هو الخيار الأفضل.
في تلكَ اللحظة، تمنيتُ أنْ تحمل الرياح هَذهِ الشائعة حتى تصل إلى القصر الإمبراطوري.
***
تحطّم فنجان الشاي على الأرض بصوتٍ حادّ، وتناثرت شظاياه في كُل مكان.
فور أنْ لاحظت الكونتيسة تريجي مزاج الإمبراطورة المُتعكر، أعطت إشارةً سريعة للخدم، فبادروا بجمع الشظايا وغادروا المكان.
ولتهدئة الإمبراطورة، فتحت الكونتيسة تريجي الحديث بصوتٍ رقيق:
“جلالتُكِ، ليست سوى شائعة.”
“تلكَ الشائعة هي المشكلة. ‘لقاءٌ سري’، يقولون! إنْ بدأنا في التحدث عن الزواج في ظل هَذهِ الفضائح، ستُصبح العائلة الإمبراطورية أضحوكة.”
“ألا ترين أنْ ننتظر قليلاً قبل اتخاذ قرار؟”
“إلى متى؟ كيف كانت ردة فعل عائلة هيسيتيا؟”
“حتى الآن، لَمْ يصدُر عنهم شيء.”
“هاه…! هل انتهت العلاقة بينهما فعلاً؟”
“إنْ لَمْ تكُن قد انتهت، فلِمَ خُطبت للدوق كايلوس؟”
“لا يُمكن الاستمرار هَكذا.”
عضّت الإمبراطورة ليتيا شفتها بتوتر، ثم استدارت إلى الكونتيسة تريجي وقد بدت كأنها اتخذت قرارًا حاسمًا.
“يجبُ أنْ نضع مَن يراقبها.”
“مَن يراقبها؟”
“نعم. ضعي مراقبًا على هيسيتيا. علينا أنْ نتأكد مِما إذا كانت تلكَ الشائعة مُجرد شائعةٍ فحسب.”
“مفهوم.”
بعد أنْ تلقّت التعليمات، انسحبت الكونتيسة تريجي بهدوء.
وبعد أنْ غادر الجميع، تقدّمت الإمبراطورة ليتيا وحدها إلى الخزانة بجانب السرير. فتحت الدرج، وأخرجت منه صندوق مجوهراتٍ صغير.
التقطت منهُ خاتم ياقوتٍ صغير، محفورٍ عليه نقشٌ زهري دقيق.
تلألأ الخاتم تحت الضوء بلونهِ الأحمر اللامع، ولكن الإمبراطورة رمقته بنظرةٍ طويلة قبل أنْ تقذفه بعصبية، ثم أغلقت الصندوق وأعادته إلى عمق الدرج.
” أكثر ما يزعجني هَذهِ الأيام… كان يجبُ أنْ أتخلّص مِن ذَلك الوغد في تلكَ اللحظة أيضًا …”
هَمْس الإمبراطورة الخافت تردد في الغرفة الخالية.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 15"