الفصل 12 : حفلة شاي في القصر الإمبراطوري ¹
‘متى كانت آخر مرةٍ حضرتُ فيها حفلة شاي؟’
رُبما كان ذَلك عندما كان موعد زفافي مع تيسيوس قد اقترب. حفلة الشاي تلكَ أُقيمت تحت عنوان التجمّع الاجتماعي لسيدات العائلات النبيلة ذات المكانة الرفيعة.
كان جميع الحاضرين يبذلون قصارى جهدهم لينالوا رضا الإمبراطورة المستقبلية، التي كان الجميع يعتبرها أمرًا محسومًا.
كنتُ أرى منظرهم وهم يتصنّعون الابتسامات ويحاولون لفت الأنظار مِن خلال كلماتٍ منمقة معسولة أمرًا في غاية الطرافة.
‘كيف سيكون الأمر اليوم يا ترى؟’
كنتُ أشعر بالفضول لمعرفة كيف ستكون ردة فعلهم تجاهي، وقد خُطبتُ لدوق كايلوس.
هيييهيييينغ–
وسط صهيل الخيول المرتفع، وصلت العربة معلنة وصولي. فأقبل أحد الخدم لاستقبالي وقادني إلى داخل القصر.
بعد أنْ مررنا بممرٍ فاخر مزخرف، توقفنا أمام بابٍ ضخم مزيّنٍ برسوم الأزهار والفراشات.
فوق النقوش المنحوتة بدقة، كانت هناك لافتةٌ كتب عليها ‘قاعة العبير’، مزينةٌ بجواهر صغيرة.
أمسك الجندي الواقف أمام الباب بالمقبض وسحبه، فانفتح الباب على صوتٍ مكتوم اهتز قليلًا.
كيييييك—
ما إنْ فُتح الباب، حتى انبعث عبير الأزهار بقوة، مِما أوحى وكأنني قد دخلت حديقة زهور.
كان هُناك طاولةٌ ضخمة تحتل وسط القاعة، وقد جلست حولها سيداتٌ نبيلات وفتيات مِن العائلات الرفيعة وصلنَ قبلي، إلا أنْ سيدةً واحدة لفتت نظري أكثر مِن غيرها، إذ كانت تجلس في المقعد الأعلى مكانة.
كانت قد جمعت شعرها الكستنائي الداكن إلى أعلى، وزيّنته باللآلئ، وكان مظهرها الفاخر يكشف بوضوحٍ عن مكانتها الاجتماعية.
ارتدت فستانًا أرجوانيًا ذا لونٍ قوي، مُطرّزًا بالجواهر على كل حافة دانتيل فيه، وكانت الحُلي التي تتزين بها لا تقل فخامةً عن فستانها.
“مرحبًا بكِ، يا آنسة. هل لي أنْ أناديكِ إلينيا؟”
“أحيّي جلالتكِ صاحبة الجلالة الإمبراطورة. نادِني كما ترغبين.”
وضعت الإمبراطورة يدها على ذقنها وهي تنظرُ إليّ، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ غامضة.
“سمعتُ أنكِ أتممتِ حفلة خطوبتكِ الثانية مؤخرًا.”
أعطت الإمبراطورة نبرةً خاصة لكلمة الثانية، وما إنْ أنهت كلامها حتى انطلقت ضحكاتٌ خفيفة مِن بعض السيدات الجالسات قربها.
“نعم. بفضل جلالتكِ، تمكنتُ مِن إنهائه بسلام.”
“وأيُّ فضلٍ لي في ذَلك؟”
“لقد تم كل شيء ببركة دعائكِ لنا يا صاحبة الجلالة. لا يسعني إلا أنْ أعبّر عن امتناني لرعايتكِ الدائمة للدوق كايلوس.”
أجبتُها بابتسامةٍ خفيفة، فتجعدت زوايا عيني الإمبراطورة قليلًا، ثم سرعان ما اختفت.
“…إنه أمرٌ يستحق التهنئة فعلًا.”
قالت ذَلك بتبرّمٍ وهي تحتسي الشاي.
“كما هو متوقع مِن صاحبة الجلالة الإمبراطورة.”
“ما أعظم رحمتكِ، فهي واسعةٌ كالبحر!”
ما إنْ قالت إحدى السيدات ذَلك، حتى تبعتها الأخريات يتسابقنَ في مدح الإمبراطورة.
كنتُ أراقب ذَلك المشهد دوّن أدنى تأثر. شعرتُ وكأنني أرى تكرارًا لمشهدٍ قديم، رغم أنْ الظروف الآن كانت مختلفةً بعض الشيء.
بدا أنْ الإمبراطورة قد تحسّن مزاجها قليلًا إثر كلمات التملق تلك.
طرقت بطرف إصبعها على فنجان الشاي، ثم فجأةً توجهت إليّ بالكلام.
“لكن، هُناك أمرٌ أود أنْ أسألكِ عنه، آنسة.”
“نعم، صاحبة الجلالة.”
“هل انتهى كُل شيء بينكِ وبين دوق تيسيوس تمامًا؟”
ما إنْ أنهت الإمبراطورة كلامها، حتى تحولت عشرات العيون الفضولية إليّ دفعةً واحدة. كانوا جميعًا يترقبون ما سأقوله.
“لقد أصبحتُ الآن مِن نصيب الدوق كايلوس. ولا بد لي أنْ أتعامل مع الدوق تيسيوس بما يليق من احترامٍ ورسمية.”
“هَكذا إذًا. لقد سألتُكِ بدافع القلق، خشية أنْ تتسبب هَذهِ المسألة في نزاعٍ بين العائلتين، فلا تأخذي الأمر على محمل شخصي، يا آنسة.”
رغم كلماتها البريئة، إلا أنْ ابتسامتها المُشرقة كانت تكشف عن نواياها السوداء.
لَمْ يكُن مِن قبيل الصدفة أنْ تفتح مُجددًا موضوع فسخ الخطوبة الذي بالكاد هدأت أصداؤه.
لَمْ أكُن غافلةً عن احتمال حدوث شيء كهَذا… لكن، لماذا؟
ترددت الأسئلة في ذهني دوّن أنْ أجد لها إجابة. لا شك أنْ الإمبراطورة لَمْ تكُن راضية عن خطبتي للدوق كايوس.
‘لكن، هل كان الأمر يستحق أنْ تُثيره بهَذهِ العلنية في هَذا المكان؟’
على كل حال، لَمْ يكُن لدى الإمبراطورة ابنٌ يتولى العرش مِن بعدها. سواء اعتلى كايلوس العرش أم تيسيوس، فلَن يعود عليها ذَلك بأيِّ فائدةٍ مُباشرة.
صحيح أنْ ارتباط الدوق كايلوس بي قد يجعله أقرب إلى وراثة العرش، مِما قد يثير استياءها، لكن…
هل كان الأمر يستحق منها عناء استدعائي لهَذا الغرض تحديدًا؟
لا بد أنْ هُناك أمرًا يُدبَّر في الخفاء، لكنني حتى الآن لَمْ أتمكن مِن تخمين ما هو.
“بالمناسبة، لماذا فسختِ خطوبتكِ مع الدوق تيسيوس؟”
سألت إحدى السيدات فجأة.
كانت السيدة العجوز ذات الشعر الأشيب، الجالسة أقرب إلى الإمبراطورة، امرأةً سبق لي أنْ رأيتُها عدة مراتٍ مِن قبل، إذ إنْ زوجها كان قد حضر حفل خطوبتي قبل فترةٍ قصيرة.
“يا إلهي، أليس مِن قلة الذوق طرح مثل هَذا السؤال، كونتيسة تريجي؟”
قالت الإمبراطورة ذَلك، لكنها لَمْ تسعَ لمنع السؤال، بل اكتفت بتوجيه ابتسامةٍ ودودة نحو الكونتيسة تريجي.
‘إذًا نيتهم إهانتي علنًا.’
مِن حيث كانت تجلس السيدات الأقرب إلى الإمبراطورة، بدأ يتناهى إلى السمع تعليقات شكلية مثل:
“يا للأسف.”
“لابد أنْ الآنسة تشعر بالحرج.”
“أليس هَذا سؤالاً لئيمًا بعض الشيء؟”
كان مِن الواضح، حتى بنظرةٍ سريعة، أنهنَ جميعًا متحدات، وكأنهنَ عازماتٌ على جعلي أضحوكة.
‘تحاولنَ أنْ تجربنَ حظكنَ إذن.’
اعتدلتُ في جلستي بفخرٍ وابتسمتُ ابتسامةً مشرقة.
“لقد وجدتُ قدري.”
“آه، قدركِ؟”
رفعت الكونتيسة تريجي إحدى حاجبيها بدهشة.
“أخبرني جدي الراحل إنْ الإيمان هو أساس وجود القناعة، وأنه عندما يملأني اليقين، لا ينبغي لي أنْ أشكك في إيماني.”
ساد شيءٌ مِن الارتباك على أعينهنَ للحظة إثر كلماتي.
“في الحقيقة، حتى بعد وفاة جدي، لَمْ أفهم تمامًا ما كان يقصده… ولكن، عندما رأيتُ الدوق كايلوس، أدركتُ المعنى. أنا أؤمن إيمانًا راسخًا بأنَّ سموه هو قدري، وقدر إمبراطورية فرينيان.”
‘رغم أنْ الشخص الذي كان يقصدُه جدي بذَلك الإيمان لَمْ يكُن الدوق كايلوس على الأرجح.’
كتمت الكلمات التي لَمْ أستطع التلفظ بها في داخلي.
“حقًا… هَذا رومانسيٌ للغاية.”
تبادلت السيدات النبيلات النظرات وارتفعت أكتافهنَ بخفة.
بدا أنهن تفاجأن مِن ردي، وأخذن يتبادلن النظرات في حيرةٍ دوّن أنْ يعرفن ماذا يقلن بعد ذَلك. ساد صمتٌ مُحرج للحظات.
“لكن، هَذا يبدو خطيرًا نوعًا ما… قدر الإمبراطورية؟”
كسرت الإمبراطورة الصمت وتحدثت، وكان وجهها أكثر هدوءًا مِما توقعت.
ولكن الكلمات التالية التي تفوهت بها حملت بوضوحٍ نبرة تحذير.
“مِن المبالغة أنْ يحمَّل الدوق كايلوس مسؤولية قدر هَذهِ البلاد.”
“أتفق مع هَذا الرأي.”
“أصله…”
بمُجرد أنْ أنهت الإمبراطورة حديثها، تبعتها السيدات النبيلات بكلماتهن واحدةً تلو الأخرى. وعلى شفتي الإمبراطورة ارتسمت ابتسامةٌ صغيرة خفية، فيما أومأت الأخريات برؤوسهن موافقات.
أما القليلات اللواتي لَمْ ينضممن إلى هَذا الانسجام فقد كن يكتفين بشرب الشاي بصمت ومراقبة الأجواء بحذر دوّن أنْ ينبسن ببنت شفة.
‘الآن وأنا أتأمل…’
جميع مَن كُن يجلسن بالقرب مِن الإمبراطورة حاليًا كُن إما وصيفاتٍ خدمْنها سابقًا أو ما زلن يخدمنها.
باستثناء الخادمات اللواتي جلبتهن الإمبراطورة معها مِن مملكة ديروس، كان جميعهن مرافقات لها منذُ تتويجها.
وكانت الكونتيسة تريجي، الجالسة مباشرةً إلى يمين الإمبراطورة، مِن أقدم وصيفاتها.
‘كنتُ قد سمعت أنها بسبب كبر سنها لَمْ تعد تزور القصر كثيرًا.’
وجودها هُنا الآن يعني أنها لعبت دورًا في ترتيب هَذا اللقاء.
ومع ذَلك، بقيت هُناك نقطةٌ غامضة لَمْ تُحل بعد.
وهي موقف الكونتيسة تريجي تحديدًا؛ إذ كان مِن المفترض أنْ تكون واحدةً مِن أكثر الحاضرين حذرًا الآن.
فزوجها، الكونت تريجي، كان مِن أبرز أعضاء حزب النبلاء، بل ومِن المُعتدلين، المعروفين بتقديم مصلحة عائلاتهم على الولاء للأسرة الإمبراطورية.
ولذَلك، في حياتي السابقة، عندما لاحظ الكونت تريجي أنْ تيسيوس كان يسعى للقضاء على معارضيه، أسرع بالانضمام إلى صفه.
وفي هَذهِ الحياة أيضًا، كان حتمًا سيختار الطرف الذي يكفل له أكبر فائدة، ولَن يتحرك بتهورٍ قبل أنْ تتضح الأمور.
لكن الآن، ترى الكونتيسة تريجي جالسةً بجانب الإمبراطورة وتظهر العداء تجاهي دوّن تحفظ، وهو ما لا ينسجم مع سلوك زوجها المُعتاد.
أما نوايا الإمبراطورة ليتيا، فما زالت حتى الآن غامضة.
الشيء الوحيد المؤكد هو أنْ هناك أمرًا ما يحدث خلف الكواليس دوّن أنْ أكون على علمٍ به.
‘ما الذي يجري بحق السماء؟’
ارتشفتُ مِن فنجان الشاي أمامي. كان الشاي قد برد تمامًا، وكأنَّ برودته انتقلت إلى رأسي أيضًا.
وفي اللحظة التي بدأ فيها الصمت يُصبح محرجًا مُجددًا، سُمِع صوت طرقٍ خفيف على الباب، تلاه صوت الجندي المرافق بصوت عالٍ.
“جاءت الأميرة الأولى!”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 12"