الفصل 1 : المقدمة
“تيسيوس… كيف يُمكنك أنْ تفعل هَذا بي…؟”
“لَن أقول إنني آسف. إلينيا، على أيِّ حال، ستموتين.”
“ماذا عن كل ما فعلتُه مِن أجلكَ…!”
اندفعت كتلةٌ مِن الدم إلى حلقي، مِما أعاقني عن مواصلة الحديث. فقد جسدي قوته وبدأ يميل نحو الأرض.
مِن خلال وعيي المتلاشي تدريجيًا، رأيتُه وهو يمسح السيف الملطخ بدمائي بعباءته دوّن أدنى اكتراث.
تسلل ضوء القمر عبر النافذة المفتوحة، وأضاء وجهه بوضوح.
كان شعره الفضي، الذي طالما اعتبرتُه جميلاً، مصبوغًا بالكامل باللون الأحمر.
تناثرت بقع الدم على زيهِ الأبيض النقي، الذي كان يرتديه، كما غمرت الدماء الأرض تحت قدميه.
“تسك-”
نقر بلسانه بانزعاج وهو ينفض قطرات الدم عن يدهِ كما لو كانت حشرات مقززة.
لكن ما جعلني أشعرُ باليأس أكثر مِن الدماء التي غمرت جسده، كانت عيناه الباردتان، اللتان نظرتا إليّ بلا أيِّ مشاعر، وكأنَّ شيئًا لَمْ يحدث.
شعرتُ أنْ آخر خيطٍ مِن الأمل الذي كنتُ متمسكةً به قد انقطع تمامًا أمام تلكَ النظرة الخالية مِن أدنى ذرة ندم.
هل هَذا الرجل هو حقًا الرجل الذي أحببتُه؟
تيسيوس فون كارلويان، الثاني في ترتيب وراثة العرش. دوق الإمبراطورية، الرجل الذي ارتقى حتى عرش الإمبراطور. وكذَلك… زوجي، الذي أحببتُه.
كان مِن المفترض أنْ يكون الغد هو يوم تتويجه المُنتظر، وفي الوقت نفسه، يوم تتويجي كإمبراطورة.
حتى قبل بضعة أيام فقط، قبل أنْ يقتحم جنود الحرس الملكي المكان فجأةً ويسحبوني إلى هُنا دوّن سابق إنذار.
في البداية، اعتقدتُ أنْ هُناك خطأ ما. لَمْ يكُن ما يحدث منطقيًا بأيِّ حال.
هل يمكن أنْ تكون قد اندلعت فجأةً اضطرابات؟ هل بقيت جماعات نبيلة تعارض اعتلاءه العرش؟ ولكن حتى لو كان ذَلك صحيحًا، لِمَ الآن؟
رغم تلكَ الأفكار المقلقة، كنتُ أقل قلقًا على نفسي وأكثر قلقًا عليه.
“هل تيسيوس بخير؟ هل حدث له مكروه…؟”
ولكن لَمْ يطل الأمر حتى أدركتُ أنْ كل ذَلك كان وهمًا مِن صُنع خيالي.
وها أنا الآن، في هَذا المكان، في هَذا الوضع البائس.
وسط كل تلكَ الأفكار التي اجتاحت رأسي، لَمْ أستطع أنْ أنطق إلا بجملةٍ واحدة:
“لماذا…؟”
“مؤسف أنْ الأمور سارت على هَذا النحو. ليس لدي مشاعرٌ سيئة تجاهكِ. ولكن…”
“ولكن؟”
التقت عينانا لوهلة، ثم ابتسم تيسيوس ابتسامةً ساخرة بطرف فمه.
“…هَذا هو قدرُكِ.”
قدري؟ أهَذا قدري؟
أنْ أُصبح بهَذا الحال؟ أنْ يُتهم أفراد عائلتي، والفرسان، والخدم، زورًا بالخيانة ويُقتلون جميعًا في لمح البصر؟
وكل ذَلك باسم القدر الذي تتحدثُ عنه؟
اشتعل صدري غضبًا. لو كنتُ قادرة، لبصقتُ على وجهه الوقح.
هل فعلتُ كل ذَلك فقط لأجل أنْ أجعل هَذا الحقير إمبراطورًا؟
لو أنْ ما يحدُث مُجرد حلم، ليتَ أحدًا ما يوقظني الآن. ولكن رغم رجائي العميق، لَمْ يزدني إحساسي بالدم الساخن المُنساب مِن بطني إلا تأكيدًا على أنْ هَذا هو الواقع.
“آه، يا للأسى. يا لها مِن هيئة… مع أنكِ كنتِ الإمبراطورة المُنتظرة. بمعنى آخر، صاحبة السمو الدوقة. ‘منتظرة’ تعني أنكِ لا تملكين أيِّ سلطةٍ حقيقية. الانتظار لا يصنعُ واقعًا. شاهدي بنفسكِ، مَن ستُصبح الإمبراطورة الحقيقية لهَذا البلد. أما أنتِ، فراقبي مِن السماء فحسب، هاهاها.”
سمعتُ ضحكة امرأةٍ مشؤومة.
وظهرت بجانب النافذة امرأة ذاتُ شعرٍ بني فاخر. رغم أنْ فستانها الأحمر الساطع كان فاخرًا للغاية، إلا أنه زاد مِن إبراز فتنتها الجريئة.
صدرها الممتلئ المحاط بالدانتيل المزخرف وخصرها النحيل جعلها تبدو كزهرةٍ نمت ليلاً.
“كيف تجرؤين…!”
“آه، لا تزالين قادرةً على الكلام؟”
اتسعت عيناها بتظاهر بالبراءة، لكنها سرعان ما ابتسمت بخفةٍ وأغمضت عينيها بلطف.
رايسي داليريا. حتى وقتٍ قريب، كانت مجرد ابنة بارون في أطراف العاصمة. لكنها، بدعمٍ مِن تيسيوس، حصلت على لقبٍ النبيلة ودخلت القصر.
والآن، كانت تستعدُ لاعتلاء مكان الإمبراطورة بدلاً مني.
“…منذُ متى وأنتما معًا؟”
“لماذا تسألين ذَلك الآن؟ ولكن إنْ كنتِ تودين المعرفة، فاعلمي أننا معًا منذُ زمنٍ بعيد. حتى قبل زواجكِ به، هاهاها.”
قالت ذَلك وهي تضع يدًا وهمية فوق رأسها وكأنها ترتدي تاجًا، بينما وطأت بقدمها السجادة الملطخة بدمائي.
“كفى، تعالي إلى هُنا، رايسي. لا أريدُ أنْ يتلطخ فستانكِ بالدم.”
“لا تقلق، تيسيوس. لا يُمكنني أنْ أدع هَذهِ القذارة تلوث الفستان الذي أهديتني إياه.”
ردّت بصوتٍ مفعمٍ بالدلال.
رفعت رايسي طرف فستانها الأحمر القاني، المماثل للون شفتيها، وبدأت تتلوى بدلال.
“على أيِّ حال، حان الوقت لإنهاء كُل شيء. شكرًا لكِ لأنكٍ جعلتني إمبراطورًا. إلينيا، لقد انتهى دوركِ هُنا.”
اقترب تيسيوس منّي وسط صدى خطواتهِ فوق الأرضية الملطخة بالدماء، وانحنى ليحدق في عينيّ.
تمسكتُ بما تبقى لي مِن وعيّ، واستجمعت آخر ذرةٍ مِن قوتي المُتلاشية.
“هاه… تيسيوس… لماذا تفعل هَذا؟ لقد أعطيتُكً كل ما أردت. أنا وعائلتي أوصلناكً إلى هَذا العرش، فلماذا…!”
“يا إلهي، هل بدأتِ ترددين هَذا الكلام مُجددًا؟ ما الجدوى مِن معرفة ذَلك الآن؟ فقط تقبّلي الواقع. إلينيا، لقد كان قدركِ منذُ البداية أنْ تصلي إلى هَذهِ النهاية.”
رفع تيسيوس زاوية فمهِ بسخريةٍ مائلة.
وعلى وجه الرجل الذي يُعدّ أجمل رجال الإمبراطورية، ارتسمت ابتسامةٌ دنيئة.
‘لا، لَمْ أرد مثل هَذا القدر قط. أنا مَن وضعكَ على ذَلك العرش، رغم أنكً لا تحمل في عروقك قطرةً واحدة مِن دم العائلة الإمبراطورية. لولا قوتي، لولا قوة عائلتي، هل كنتَ ستصل إلى مكانكَ هَذا بهَذهِ السهولة؟’
ترددت الكلمات التي لَمْ أستطع التفوه بها مِن الضعف داخل رأسي، فاشتدّ بي الغثيان حتى شعرت بألمٍ ينبض داخلي.
مِن أين بدأت الأخطاء يا ترى؟ لَمْ يكُن هَذا هو الختام الذي حلمتُ به.
“بالمُناسبة، انقلي تحياتي إلى والدكِ. لا بد أنهُ ينتظركِ هُناك.”
“كحّ، أيُها الوغد…!”
طعنة!
مع اختراق نصل بارد لقلبي، اجتاحتني آلامٌ تمزق رئتيّ كأنَّ جسدي كله يتفتت ويحترق.
وفي خضم هَذا الألم، قبضتُ على أسناني بقوة، وأغمضتُ عينيّ أُحدّق بثباتٍ في عينيه الزرقاوين الباردتين، مرددةً في داخلي:
‘لو أنني أُمنح فرصةً أخرى… لما جعلتكَ إمبراطورًا أبدًا. سأدمّر كل شيء تملكُه، تيسيوس…!’
بدأت الرؤية أمامي تظلم شيئًا فَشيئًا، بسائل لا أعرف أهو دمٌ أم دموع.
وأخيرًا، غرقت عيناي في الظلام الكامل.
لقد كان شتاءً قاسيًا بحق.
***
“آنستي! آنسة إلينيا، استيقظي الآن! يا إلهي، أسرعي!”
‘هَذا الصوت…’
كايا؟ لكنها ماتت…
آه، أهَذا هو العالم الآخر إذن؟ لكن هل توجد أشياءٌ كهَذهِ حتى في العالم الآخر؟
رائحة الأعشاب العطرة، ورائحة الخبز المخبوز حديثًا، وصابون الثياب النظيفة… الإحساس الدافئ الذي يلفّ جسدي — هَذا شعور لا يُمكن أنْ يوجد إلا بين أقمشة النوم الفاخرة.
ما الذي يحدُث هُنا؟
“..…!”
تسارعت أنفاسي وفتحتُ عينيّ فجأة.
“أخيرًا استيقظتِ! ما الذي جعلكِ تنامين طويلًا هَكذا اليوم؟ هَذا لا يُشبهكِ، آنستي.”
كانت الخادمة ترتدي زيًا نظيفًا مكويًا إلى عنقها، ووقفت تنظر إليّ برأسٍ مائل، بينما تفوح مِن الكأس التي تحملها رائحة إكليل الجبل الزكية.
“كايا…؟ أنتِ هُنا؟ كيف؟ لقد متِ…”
لَمْ أكُن أفهم شيئًا، وظللت أفرك عينيّ في عدم تصديق. كانت كايا، التي ماتت منذُ زمن، واقفةً أمامي حية تُرزق.
“ماذا؟ ما الذي تقولينه، آنستي؟”
وضعت كايا الصينية جانبًا على عجل، واقتربت مني أكثر.
وضعت يدها على جبيني بوجه قلق.
“لا يوجد حُمّى…”
مِن المسافةٍ القصيرة، رأيتُ أنفها المتورد، والنمش الذي تناثر فوقه كأنما نُثرت بذور السمسم.
‘إنها كايا بلا شك.’
وأخيرًا استوعبتُ ما حولي. كانت الغرفة مألوفة — غرفتي في القصر الذي نشأتُ فيه حتى قبل زواجي.
تحسستُ جسدي تحت قميص النوم الأبيض الناعم. لَمْ يكُن هناك أثرٌ لطعنة، جلدي كان ناعمًا وخاليًا مِن أيِّ جرح.
وثوبي الأبيض لَمْ تُلطّخه قطرة دمٍ واحدة، ورائحة شعري الأشقر المنسدل فوق كتفيّ كانت تفوح بالعطر الحلو، لا رائحة الدم.
على الطاولة بجانب السرير، كانت تتلألأ تاج صغير مرصعٌ بالياقوت الأزرق، إرثُ أمي الراحلة الذي أهدانيه والدي كهدية زفاف.
“يا للسماء، أعتقد أنْ آنستي حلمت بكابوسٍ مِن فرط التوتر. عليكِ أنْ تكوني مُتيقظة! ألا تعلمين ماذا غدًا؟”
“ماذا يحدُث غدًا؟”
اتسعت عينا كايا حتى بدتا وكأنهما ستنفجران.
“غدًا هو يوم زفافكِ! ستُصبحين أخيرًا زوجة الدوق تيسيوس!”
“ماذا؟!”
مستحيل… إذا كنتُ ما زلت لم اتزوج مِن تيسيوس…
“كايا، في أيِّ عامٍ نحن؟”
أصبح وجه كايا شاحبًا حتى كاد يغلبه البكاء.
“إنه العام 874 وفقًا للتقويم الإمبراطوري. آنستي… هل أنادي الطبيب؟”
‘874…؟ إذن…’
لقد قُتلتُ على يد تيسيوس في العام 876.
إنْ كانت كايا صادقة، فهَذا يعني أنني عدتُ إلى الماضي قبل عامين.
‘مستحيل… هل عدتُ حقًا؟ إلى الماضي؟’
كان مِن الصعب التصديق، لكن كل شيءٍ كان نابضًا بالحياة أكثر مِن أنْ يكون مُجرد حلم.
‘لقد استجاب الحاكم لدعائي.’
تحقق دعائي الذي صرختُ به مِن أعماق الموت. وخفقان قلبي الذي كان يضجّ طوال الوقت، هدأ فجأةً وكأنَّ شعورًا باليقين اجتاحني.
‘…سأعيدُ تصحيح كل شيء.’
لقد مُنحتُ فرصةً جديدة.
ولَن أدعها تُفلت مِن يدي.
ومثلما أقسمتُ حينها — سأنتزعُ كل شيء مِن زوجي.
سأبدأ …
بهَذا الزواج.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 1"