مرّت أربعة أيام منذ نُقلت الإمبراطورة إلى السجن ..
وبعد نقاشات مضنية بين الأمير راينهارت والنبلاء القدماء ، عُقد الاجتماع الكبير ..
كان الاجتماع ضخمًا إلى درجة أنه لا يُعتبر مبالغة القول إن جميع النبلاء قد استُدعوا ، وكانت الأجواء مشحونة بالصخب والقلق ..
“ما الذي يحدث بحق السماء؟”
“بعد الإمبراطورة ، يتبين أن الإمبراطور الراحل أيضًا كان على صلة بساحر الظلام؟”
كانت أخبارًا يعرفها فقط من هم في الدوائر العليا …
ثم ظهر ولي العهد راينهارت ، وتركزت عليه كل الأنظار ..
وجهه الوسيم الذي أشرقت عليه أشعة الشمس من النوافذ، بدا كلوحة فنية ..
لكنه كان يبدو كالميت في المرة الماضية…
بدت عليهم الحيرة ، فقد كان تغيّره الملحوظ يثير الفضول ، ولكن لا أحد كان يجرؤ على سؤاله مباشرة: “مولاي ، لما تحسنت هيئتكم فجأة؟”
جلس راينهارت على المقعد الأعلى بطبيعته ، وفتح شفتيه اللامعتين وقال:
“يؤسفني أن أنقل إليكم نبأً حزينًا مرة أخرى.”
رغم ما مرّ به ، كانت بشرته مشرقة بل وتلمع بوضوح ..
أصيب النبلاء بالذهول من مظهره ، قبل أن يفاجئهم بكلامه التالي:
“وبحسب الأدلة التي لدينا، فقد ثبت أن وفاة الإمبراطور كانت بفعل أحد أتباع الظلام.”
“كيف يمكن لأحد أتباع الظلام أن يصل إلى غرفة نوم الإمبراطور…؟”
تمتم أحد النبلاء ، وكان من أنصار الإمبراطورة سابقًا ..
“يصعب عليّ قول هذا بنفسي، ولكن…”
تدخلت الدوقة بيتزيل وقالت:
“كان هناك تسهيل من طرف الإمبراطورة ، ويمكنني أن أُثبت ذلك …”
نظر راينهارت إليها بدهشة ..
“ظننتُ أن سمو ولي العهد مصدوم ، لذا توليتُ الحديث بدلاً عنه ، هل هناك مشكلة؟”
قالتها بابتسامة باردة، كأنها لا تهتم بشيء.
تنهّد راينهارت وهو يُخفي ما يرغب في قوله ، ثم نطق:
“…شكرًا لكِ.”
“أعرف ، لدي قلب رحيم.”
لم يوافقها أيّ من النبلاء في هذه الجملة ..
ألقى راينهارت نظرة باردة نحوها وقال:
“لكن يجب أن يُحاسَب كل من سكت عن العلاقة بين الإمبراطورة ، والإمبراطور الراحل ، وعبدة الشيطان.”
أومأت الدوقة برأسها دون أن تظهر عليها علامات الاضطراب ..
فقد كانت قد استعدت بالفعل لتقبل مصيرها، مهما كان ..
فهو أهون من الموت ..
عندما اقتربت منها رئيسة الخادمات بنية القتل ، شعرت بالرعب ، لم تكن تريد أن تموت ،
عندها ، ظهرت كلوي ليكاون كمُنقذة من السماء ..
“نعم ، هذا خطئي.”
بهذه السرعة؟ أقرّت بالأمر؟!
ارتبك النبلاء وتبادلوا النظرات فيما بينهم
وليّ العهد سيعتلي العرش على أية حال ، هذه حقيقة لا جدال فيها ..
هذا ما فكّرت فيه الدوقة بيتزيل ، رأت أن قبولها بالحكم بحكمة ، سيكون في صالح تعزيز سلطة وليّ العهد المستقبلي …
وهذا يعني… يمكنني أن أطمح بفرصة للعودة من جديد ..
راحت تُفكر بسرعة ، الحياة طويلة ، والسقوط المؤقت لا يعني النهاية ، كانت تؤمن بقدرتها على النهوض مجددًا ..
“لذا ، سيتم تخفيض رتبة عائلة بيتزيل إلى لقب كونت …”
قال راينهارت بصوت هادئ.
“هل هناك من يعترض؟”
لم يرفع أحدٌ يده ، فبما أن الدوقة نفسها كانت تبدو متقبّلة للأمر ، لم يكن هناك مبرر للاعتراض …
إذاً القوى الحقيقية في البلاط الآن هما ولي العهد ودوق ليكاون…
جلس دوق ليكاون بصمت طوال الاجتماع ، وكل الحاضرين كانوا يراقبون تعبيرات وجهيهما فقط ..
“أعترض.”
فجأة، رُفعت يد واحدة بكل شجاعة.
“المعذرة؟”
إنها إيرين ، نظر الجميع نحوها بدهشة ، بينما فتحت شفتيها ببرودٍ وثبات ..
“لو أن الدوقة بيتزيل حاولت الكشف عن الحقيقة ، لما تركها الإمبراطور أو الإمبراطورة وشأنها ، كان من الصعب قول الحقيقة في ظل غياب أي ضمانات لحمايتها.”
لم تكن إيرين مستعدة لغضّ النظر عن هذه المسألة ، فقد كانت أكثر من لمس وحشية سحرة الظلام عن قرب ..
“لقد كانت ستُقتل على يد رئيسة الخادمات مؤخرًا ، أعتقد أنه يجب أخذ ذلك بعين الاعتبار ، وأن لا نُحمّل الدوقة ذنب السكوت حين لم يكن لديها خيار.”
صمت راينهارت ، وكأنه لم يفكر بذلك من قبل.
“كلام إيرين فيه وجاهة.”
لأول مرة ، تكلّم دوق ليكاون ، وبدأ الحاضرون يهمسون فيما بينهم ..
أما الدوقة بيتزيل ، فحدّقت في إيرين بنظرة مليئة بالدهشة والاضطراب ..
لماذا… تدافع عني؟
لم تكن تتوقع منها ذلك أبدًا ، فهي كانت أنانية، سعت إلى حماية نفسها، وسكتت عن سرٍّ ربما كان سببًا في دمار الإمبراطورية ..
تصرفٌ يستحق كل الإدانة ..
ومع ذلك…
لم تهاجمها إيرين، بل دافعت عنها ، لم تُلقِ عليها اللوم، بل اعتبرت موقفها إنسانيًا ..
شعرت بدموع تتصاعد إلى عينيها، لكنها قاومتها بشدة ..
تماسكي ، ديبورا بيتزيل!
لن تكون المرأة التي تبكي أمام الملأ ، وإن بكت ، فستكون دموعها فقط أمام إيرين ليكاون… فقط أمامها ..
لو أنها انفجرت بالبكاء الآن ، لكان ذلك عارًا لا يُمحى ..
لطالما أرادت أن تبقى امرأة شامخة ، تُهاب من الجميع ..
من يجرؤ على السخرية مني… سأجعله يندم على ولادته.
نظرت الدوقة بيتزيل بعينيها الحادتين إلى عيون النبلاء ، متحدية ، وما إن التقت نظراتهم بنظرتها حتى سارعوا بصرف أبصارهم عنها ، وكأنهم التقطوا التهديد الكامن خلف تلك النظرات …
ساد الصمت القاعة ..
وكان راينهارت شاردًا، تغمره نظرة تأمل عميق ، عيناه الخضراوان كغابة كثيفة تلاقتا مع العينين الحمراوين لإيرين ..
في تلك النظرة المتبادلة للحظة ، عبرت مشاعر كثيرة بلا كلمات ..
وفي النهاية ، لم يتمكن راينهارت من تجاهل نظراتها الصادقة ففتح شفتيه قائلًا .
“فلنؤجل القرار بشأن الدوقة بيتزيل إلى الاجتماع القادم ، بعد أخذ رأي السيدة إيرين ليكاون بالحسبان …”
أن يُغيّر رأيه بهذه السرعة؟
عجّت رؤوس النبلاء بعلامات استفهام
كل شيء كان مربكًا ، خارج التوقع ..
“والآن ، لننتقل إلى مناقشة مصير الإمبراطورة وابنها الثاني.”
قال راينهارت ببرود ، وكأنه لم يلحظ التوتر في القاعة، مغيرًا محور النقاش ..
—
في تلك الأثناء ، كانت الإمبراطورة ميليسا جالسة في زنزانتها ..
عليّ أن أجد مخرجًا من هذا المأزق…
لكن لم يكن هناك مخرج واضح ..
كانت تعلم ، في أعماقها ، أنها وقعت في فخ ولي العهد راينهارت ، وأنه لم يبقَ لها متسع للمناورة ..
آه…
راودها خاطر مفجع: أن الموت أهون من الإهانة والذلّ الذي ينتظرها ..
وفجأة—
طَق… طَق…
وقع خطوات بكعبٍ عالٍ اخترق سكون الزنزانة ..
لم يكن صوتًا يخصّ الجنود ، بل خطوات غريبة تنمّ عن شيء غير طبيعي …
أرهفت الإمبراطورة سمعها ..
“ها أنتِ هنا.”
صوتٌ مألوف جعل ملامح ميليسا تشرق
“رئيسة الخادمات! أتيتِ لإنقاذي ، أليس كذلك؟”
لكن شعرها البنيّ كان منسدلًا بحرية ،
وعيناها في ضوء المصباح الخافت كانتا مظلمتين ، سوداويّتين على نحو غير مألوف.
شعرت الإمبراطورة ببرودة في صدرها ،
شيء ما… ليس على ما يُرام.
لون عيني الخادمة لم يكن كما اعتادت ..
هل من الممكن أن تكون رئيسة الخادمات … قد باعت روحها بالكامل للشيطان؟
إن كان الأمر كذلك ، فإن الكائن الذي يقف أمام الإمبراطورة الآن لم يعد بشريًا
بل الأقرب لوصفه بـ “شيطان”.
“مولاتي ، هل كنتِ بخير طوال هذا الوقت؟”
قالتها الخادمة بنبرة هادئة.
“…….”
لم تُجب الإمبراطورة ، لكنها شعرت بوضوح بالنية القاتلة التي تنبعث من تلك المرأة ..
لقد أتت لا لإنقاذها، بل لقتلها ..
“إذا كنتِ ستقتلينني ، فافعليها بسرعة.”
قالتها الإمبراطورة بحزم دون أدنى تردد ..
“مولاتي ذكية كما توقعت ، لا تستعطف للحياة.”
ابتسمت رئيسة الخادمات ابتسامة باردة.
“أتظنين أنني لا أعرف أساليبكم؟”
تابعت الإمبراطورة ، وقد عرفت طريقتهم على مدى عقود ..
لطالما أدركت أنهم ، عاجلًا أم آجلًا ، سيأتون لقتلها حتى يكمّوا فمها ..
نعم ، هذا المصير كنتُ أتوقعه منذ زمن ..
أغمضت عينيها في انتظار النهاية بهدوء ..
لكن فجأة ، صدح صوت أنثوي من مكانٍ ما ..
تجمّدت ملامح الوصيفة ليليس
“كما توقعت ، أتيتِ.”
وما إن التفتت ليليس ، حتى تمايلت خصلة شعر سوداء طويلة أمام وجهها …
عينان حمراوان كانتا تراقبانها بثبات …
كانت هي… إيرين ..
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 111"