لم يتوقع راينهارت أن تأتيه كلماتها المباشرة كالسهم ، فتجمد تفكيره للحظة ..
لكنه كان يعلم أن هذا الحديث لا مفر منه ، عاجلاً أم آجلاً ..
ومع ذلك ..
لم يكن مستعدًا بعد ..
هل هذا مجرد عذر؟
ابتسم بمرارة.
ربما في أعماقه ، كان يأمل أن تتجاهل الأمر ، أن لا تسأل ، أن لا تبحث ..
لأنه إن باح بالحقيقة ، فسيضطر للكشف عن كل ما فعله والده ، وكل ما عاناه هو نفسه …
وهو لا يريد لها أن تعرف ..
لا أريد أن أشاركها هذا الألم ..
كان يريد أن يتحمل كل شيء وحده ..
كان يتمنى فقط أن تبقى سعيدة ، بلا علم بكل تلك الظلال. .
حتى لو أخبرتها بالحقيقة…
هل يمكن أن تسامحه على قتل الإمبراطور؟
ما كان يخشاه أكثر من أي شيء، هو ألا يغفر له قلبها ..
كان يخشى ألم أن تنظر إليه باحتقار ..
ذلك النوع من الألم ، هو الذي يلاحقه في كوابيسه مرارًا ، حيث يغمر وجهه بالدموع ..
“جلالتك ، ألسنا صريحين مع بعضنا البعض؟”
سألت إيرين بنبرة فيها حزن وعتب ..
“هل كنت واهمة فقط؟”
لم تستطع أن تصبر ..
طريقة دفاعه عن نفسه ، وتردده في الكلام ، جعلاها تتيقن أن هناك شيئًا كبيرًا يخفيه ..
كان يشبهها في الماضي ، حين كانت تخشى قول الحقيقة ، خوفًا من أن تُكره أو تُرفض ..
لكن تلك الذكريات ، بدلًا من أن تجعلها تتفهم ، دفعتها للحزم ..
“أرجوك ، تحلَّ بالشجاعة.”
اقتربت منه بخطوة ، فصارت المسافة بينهما قصيرة جدًا ..
“يا سيدتي …”
قرأ راينهارت ما في قلبها ، كانت تنوي أن تتقبله ، مهما كانت الحقيقة ..
وشعر بدفء عاطفتها ، فتساءل كيف يمكن أن تكون بهذا الكمال ..
“…سأتحدث ، فقط…”
احمرّ خده بخفة ..
“فقط… ابتعدي قليلًا ، رجاءً؟”
لاحظت إيرين ارتجاف رموشه ..
لقد أدركت الآن كم يخجل عندما يقترب منها أكثر من اللازم ، فتراجعت قليلاً بلطف ..
هل قتل الإمبراطور حقًا؟
بدأت تشك ..
هل كانت تتهمه ظلمًا؟
كيف يمكن لشخص مثله…؟
“نعم ، أنا من قتل جلالته.”
قالها أخيرًا ..
عندها ، عرفت إيرين أنها أخطأت في ظنها ،
فهذا الرجل الذي رأته بعينيها ، لم يفعل ذلك من أجل السلطة أو الطمع ..
بل لا بد أنه كان هناك سبب أعمق… وأشد ألمًا ..
ما السبب يا ترى؟
كانت تعرف جيدًا كم هو مؤلم وثقيل أن يحمل الإنسان سرًا في قلبه ، وخاصة إن كان سرًا لا يمكن البوح به لأحد ..
“بإمكانك أن تفضي بما في صدرك …”
قالت إيرين بجدية ، وقد امتلأ صوتها بالصدق
لم تكن تريد له أن يتحمل هذا العبء وحده ،
حتى لو كان فتح قلبه يمثل له عبئًا جديدًا ،
كانت تتمنى أن تخفف عنه ، أن تزيل شيئًا من ذلك الثقل ..
“……”
قرأ راينهارت في عينيها نظرة دافئة ،
فشعر بغصة تختنق في صدره ، وارتجاف غريب في قلبه ..
فتح شفتيه ..
وبدأ يروي لها ما مر به ..
كلما زادت كلماته ، ازدادت ملامحها تصلبًا ..
“هل… كل هذا حقيقي؟”
كانت قد استعدت نفسيًا
لكنها لم تتخيل أنه عانى إلى هذا الحد ،
ورغم أن ملامحه كانت هادئة ، إلا أن آثار الجراح التي لم تلتئم بعد ، كانت واضحة في عينيه ..
نظرت في عينيه ، فشعرت بوجع يتسلل إلى قلبها ، وقبضت شفتيها بألم ..
“لن أغتسل من ذنب قتل والدي …”
قالها بصوت خافت ..
“وهل كنتَ ستعيش طوال حياتك مختبئًا في ظل جلالته؟”
سألت إيرين بغضب ..
كان ذلك غير معقول ..
راينهارت… هذا الرجل كان طيبًا لدرجة مؤلمة
وأدركت فجأة كم هو مثقل بالشعور بالذنب ..
“لو كنتُ مكانك ، لقتلته منذ زمن بعيد …”
توسعت عينا راينهارت
فقد تزلزلت نظراته عند سماع تلك الكلمات ..
ولم تترك له الفرصة للالتباس ، بل نطقت بوضوح ، لتصل كلمتها إلى قلبه دون شك ..
“كيف يمكنني أن أدعو شخصًا أبًا وهو من سمح لأمي أن تموت؟”
“…ربما ، لكن…”
“جلالتك لم تقتل الإمبراطور ، بل انتقمت لوالدتك ممن قتلها.”
قالت كلماتها بثبات ، ولمعت الدموع في عينيه مرة أخرى ، ثم عض على شفتيه محاولًا كبت مشاعره ..
“ألستِ تكرهينني؟”
سال الدمع من عينيه ، عينيه الخضراوين كالغابة ، التي لم تعد قادرة على إخفاء الألم ..
“مستحيل.”
قالتها بصوت ناعم ..
وقد أدركت أخيرًا ما كان يخشاه طوال هذا الوقت ..
اقتربت منه مرة أخرى ..
وقالت، “عذرًا للحظة.”
وضعت يدها على وجهه ، ومسحت دموعه التي انحدرت على خده ..
لكن دموعه لم تتوقف ، بل ازدادت ..
“آه…”
ارتبك ، واحمرّ وجهه بشدة من قربها وحنانها.
“إذن ، كيف ترينني ، يا سيدتي؟”
سأل وقد ملأه شعور إنساني صادق ، مزيج من رجاء وخجل ..
“لا أعلم …”
ردّت عليه بهدوء ، وقد شعرت بشيء في قلبها… لكنها لم تستطع تسميته بعد ..
تحدثت إيرين بصراحة ..
وشعرت بخيبة أمل ترتسم على وجه راينهارت.
المهمة ..
ما هذه المهمة؟ ولمَ تمنعني حتى من الشعور بالعاطفة؟
ضاق صدرها ، وأحست بغضب تجاه المهمة لأول مرة ..
“جلالتك ، لقد خسرت نصف روحي بسبب تلك المهمة.”
“ماذا… ماذا تعنين؟”
تجمد راينهارت عند سماعه ما لم يتخيله قط
خسارة نصف الروح؟
لم يكن وقعه جيدًا على الإطلاق ..
“قالوا إنها ثمَن للعودة عبر الزمن.”
“وما الذي يحدث إن فُقد نصف الروح؟”
سادت لحظة صمت ، وبينما انتظر راينهارت ردها، اجتاحته الهواجس والمخاوف ..
هل ستموت؟
هل ستفارق الحياة بهذه البساطة؟
تسارعت أفكاره نحو الأسوأ ..
الشعور بالقلق ، والرعب ، ملأ قلبه ..
ارتجفت يداه ..
جسده أصبح باردًا ، وأحس كأن روحه تتمزق ببطء ..
لماذا لا تجيب؟
كان ينتظر جوابها بقلق ، حتى شعر أنه على وشك فقدان عقله ..
“…ذلك الشعور الذي تكنّه لي ، جلالتك ، أنا لا أستطيع أن أشعر به.”
قالتها بهدوء ، دون أن تعلم ما يعصف بقلبه ..
“لا تجاهك ، ولا تجاه أي أحد …”
أكدت كلامها بوضوح ..
فتجمد راينهارت في مكانه ، عاجزًا عن وصف ما يشعر به ..
لكنه شعر ، في المقابل ، أن دقات قلبه التي كانت تتسارع قد هدأت فجأة ..
على الأقل… لن تموت ..
تنفس الصعداء ..
لكن الحقيقة الأخرى ، أنها لا تشعر نحوه بشيء ، كانت بمثابة مأساة قلبية ..
“…فهمت.”
قالها بهدوء
وأدرك فجأة ما الذي كان يخيفه أكثر من أي شيء ..
إنه موتها ..
مهما كان ما تشعر به تجاهه ، أو لا تشعر به ،
المهم أنها على قيد الحياة ..
“ومع ذلك ، هل تقبل بي؟ حتى لو كنتُ هكذا؟”
سألت إيرين بتردد ، ربما لن تشعر أبدًا بالعاطفة كما يتمنى ، وإن كان الأمر كذلك ، فقد يكون من الأفضل له أن يتخلى عن مشاعره ..
رغم أنها لم تحبه ، لم تكن ترغب في أن يشعر راينهارت بنفس المشاعر التي أحست بها حين خُدعت من قِبل ذلك الرجل ..
كانت تلك طريقتها في مراعاة مشاعره ..
“طالما أنكِ على قيد الحياة ، إيرين…”
أدرك راينهارت المغزى الحقيقي من كلماتها.
“فلن أطلب شيئًا آخر.”
في الحقيقة ، كان يرغب في أكثر من ذلك بكثير ..
كان يتمنى ألا يكون بجانبها أحد ،
لا آرثر ، ولا أنتون ، ولا حتى عائلتها ..
لكن كان يعلم أن هذه الأمنية ما هي إلا رغبة أنانية ومظلمة في داخله ..
“لذا… لا تموتي ، إيرين …”
كانت نظراته الخضراء ملؤها الرجاء ،
وحين همّت أن ترد ، لتخبره بأنها ستبذل جهدها لتبقى ، شعرت فجأة بقشعريرة في نظرته ..
“لأنني… سأموت إن متِ …”
تجمدت ملامحها من وقع كلماته المفاجئة ،
لم تستطع الرد ..
احتاجت للحظة حتى تستوعب ما سمعته ..
“ماذا؟”
“إن متِِّ… سألحق بكِ …”
ازدادت حيرتها وارتباكها ..
اقترب راينهارت منها بخطوات ثابتة ..
رغم قصر المسافة بينهما ، لم يظهر عليه أي خجل كما كان يفعل سابقًا ..
“سأموت… حقًا.”
قالها بهمس خافت ، لكن إيرين كانت تدرك أنه لا يقول شيئًا عبثًا ..
كانت تعلم أنه يعني كل كلمة ..
فتحدثت بسرعة ، محاولة تهدئته ..
“جلالتك ، أرجو أن تسيطر على مشاعرك قليلاً…”
“أنا هادئ تمامًا.”
ابتسم راينهارت بهدوء ..
لكنها رأت بوضوح…
تلك الابتسامة الهادئة لم تكن سوى قناع هش يُخفي خلفه انهيارًا وشيكًا ..
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 108"