كان دار الأيتام الذي تديره المعابد من أكثر الأماكن شهرةً في المملكة، خصوصًا بين النبلاء الذين يحبون التفاخر بأخلاقهم الرفيعة.
لكن معظمهم لم يكلّف نفسه حتى عناء الزيارة، واكتفى بإرسال التبرعات عبر وكلاءٍ ليُحسب عمله الخيري منجزًا.
وبعض من جاء فعلًا، لم يرَ الأطفال حتى، بل أخذ شهادة التقدير وغادر فورًا.
“هل يُعقل أن أختلط بأطفالٍ قد تكون دماؤهم دنيئة؟ وإن أصبتُ بعدوى، من سيتحمل المسؤولية؟”
كلّما سمع الكهنة مثل تلك الأحكام المريضة، احترقت صدورهم غيظًا. لكن لم يكن في يدهم حيلة، فبدون تلك التبرعات النبيلة لم يكن بمقدورهم تشغيل الدار أصلًا.
“أرغب في التطوع بالخدمة.”
“أوه، نعم، في حال رغبتِ في شهادة المشاركة، يمكنكِ الحصول عليها بمجرد التبرع بمبلغٍ كافٍ.”
لذلك حين جاءت ليرييل أول مرة، ناولها الكاهن الأوراق دون أن يرفع بصره. فقد لمح من خلف المنضدة فستانًا فخمًا، وظنها كغيرها من النبلاء الذين يسعون لإرضاء غرورهم الأخلاقي.
“لا، لقد أتممتُ التبرع بالفعل. ما أقصده أني أريد التطوع أيضًا.”
لكن هذه المرة كانت مختلفة. فهي لم تكن تطمح لرفع شأن أسرتها، بل لإغراقه في الوحل.
“……عذرًا؟”
نَبيلةٌ تطلب التطوع؟ حقًا؟
كان أمرًا نادرًا للغاية. فلم يستطع الكاهن كبح فضوله، و أمال رأسه قليلًا ليلقي نظرةً خلف المنضدة.
وهناك، كان يقف وجهٌ لا يمتّ لكلمة “خَير” أو “رحمة” بأدنى صلة، وجهٌ شيطاني جامد الملامح.
‘ليرييل تينيبريس؟!’
صرخ الكاهن في داخله ذهولًا، لكن ليرييل لم تُعره اهتمامًا.
حتى وهو يقبل طلبها مُكرَهًا، افترض أنها لن تأتي أصلًا، أو أنها ستتظاهر ببعض العمل وتغادر.
فالناس قد يتقبلون أن يفعل الطيبون الشر، لكنهم لا يصدقون أبدًا أن الشرير يمكن أن يفعل الخير.
“أتريدون مني أن أوزّع مثل هذا الخبز على الأطفال؟”
“ن، نعم، هذا صحيح يا آنسة…….”
وكما كان متوقعًا، حتى عندما كُلِّفت بأبسط المهام، نظرت ليرييل إلى الخبز بازدراء، فعكست عيناها الخضراوان الاشمئزاز الصافي.
فتمتم الكاهن في داخله بلعناتٍ مكتومة.
‘كنت أعلم! لو أنها اكتفت بالتبرع وغادرت، لكان أنفع! لماذا تصر على التظاهر بفعل الخير؟!’
وقبل أن تُسحب منها صينية الخبز، تحدّثت بنبرةٍ باردة،
“تخلّصوا من كل هذا.”
ألقت الصينية بعنف على الطاولة، فارتدّت الأرغفة الصلبة لتسقط على الأرض بصوتٍ مكتوم.
فاحتقن وجه الكاهن غضبًا. صحيحٌ أن الخبز بسيط، مصنوعٌ من دقيقٍ وملحٍ فقط، لكنه في هذا المكان يُعدّ نعمةً لا تُقدَّر بثمن.
أن ترميه أرضًا؟ إنها حقًا تستحق لقب “الشريرة”.
لكن كلماتها التالية كانت كفيلةً بتغيير كل شيء.
“ثم اتصِلوا بمخبز ريمينغتون. اشتروا كل الخبز المتبقي لديهم، وأرسلوه إلى هنا. احسبوا التكاليف على حساب عائلة تينيبريس.”
“…….”
ريمينغتون؟ أذلك المخبز الفاخر في وسط المدينة؟
توقف الكاهن مندهشاً، ناظرًا إليها بعينين متسعتين، وعيناه لا تصدقان ما سمعه.
خبز ذاك المكان لا يأكله إلا الأثرياء من النبلاء. فدقيقهم، وزبدهم، وملحهم، وسكرهم، وحليبهم—
كلها من أجود أنواع المواد الفاخرة في المملكة، وهو ما جعل المخبز مميزًا دون سواه.
أتقول أنها ستشتري كل تلك الأرغفة الباهظة لتوزعها هنا؟ على الأيتام؟
‘مستحيل……..هذا غير معقول.’
وقف الكاهن مذهولًا محدقًا بها، فما كان من ليرييل إلا أن أطلقت من عينيها بريقًا صارمًا يليق بلقب “الشريرة”.
كان يبدو وكأنها جاءت لمعاقبة أحد، لا لمساعدته.
“ألم يكت كلامي واضحًا؟”
“لـ، لا! حالًا، يا آنسة! سأنفذ فورًا!”
وما إن أطلقت ذلك الوعيد الخافت حتى اندفع الكاهن راكضًا نحو الممرّ وهو يلهث.
وحين خفت وقع أقدامه، زفرت ليرييل تنهيدةً طويلة، ثم انحنت تلتقط الخبز الذي سقط. وقد كان قاسيًا إلى درجةٍ يمكن أن يُستخدم كحجر.
‘أهذا ما يُعطى للأطفال؟ هل يسمونه طعامًا؟’
كم هو مؤلمٌ ألّا يجد المرء ما يسدّ به جوعه.
لم تستطع ليرييل قبول ذلك. صحيحٌ أنها جاءت هنا لتثير سخط أسرتها وتُطرد من بيتها، لكنها على الأقل أرادت أن تفعل هذا العمل بإخلاصٍ ما دامت بدأت به.
قعضّت على شفتيها وهي تتذكر أيامها في حياتها السابقة. أيام الجامعة، عندما كانت تعمل لتسديد نفقات المعيشة، وكانت أحيانًا تتضور جوعًا أو تقتات على طعامٍ رخيصٍ لا يُؤكل.
ما زالت تذكر كم كانت تلك الوجبات حزينةً ومهينة. و لم تكن لتسمح لأطفالٍ في طور النمو أن يشعروا بالشيء ذاته.
‘ليكن ولو ليومٍ واحد فقط، أريد أن أملأ بطونهم بطعامٍ لذيذ.’
وما إن التقطت آخر قطعةٍ من الخبز، حتى دوّى خلفها صوتٌ مألوفٌ وبارد،
“ها نحن نلتقي مجددًا.”
كانت هناك يدٌ التقطت الخبز الذي تدحرج بعيدًا وقدّمته لها.
كان ذلك فِعلَ فيريك تريان.
تأملها مليًا بنظرةٍ متفاجئة و بنبرة غامضة. و كانت ليرييل تستعد لتجيبه بابتسامةٍ واثقة.
‘ألم أقل لكَ؟ كل ما أريده هو أن أصبح إنسانةً طيبة حقًا!’
لكن كلمات فيريك التالية أغلقت شفتيها بامتعاض.
“هاه، لم أكن أعلم أن هناك طريقةً لفعل الخير بالمال فقط. بهذه الطريقة يمكنكِ أن تُظهري نفسكِ بمظهر الفاضل دون أن تتعبِ نفسكِ بالعمل، أليس كذلك؟”
“……ماذا قلتَ؟”
“هل أخطأت؟ في النهاية أنتِ فقط تريدين أن تشعري بأنكِ قمتِ بعملٍ خيري دون أن تبذلي جهدًا حقيقيًا. لا تدّعي أنكِ أتيتِ إلى هنا بدافع نيةٍ صافية لمساعدة الأطفال.”
لقد تجاوز حدّه فعلًا. صحيحٌ أن اختيارها للقيام بالأعمال التطوعية كان له دافعٌ شخصي وليس نيةً خالصة، لكنها لم تكن تنوي إنكار ذلك.
“……طالما جئتُ إلى هنا، فلن أكتفي بالتظاهر ثم أعود أدراجي.”
لكن إن كان قد رأى الأطفال المتجمعين قرب المطبخ ينتظرون قطعة خبز كهذه، لما كان ليتفوه بمثل هذا الكلام.
“سواءً كان تنظيفًا أو اللعب أو أي عملٍ شاق، سأقوم به كله بصدقٍ كامل.”
قالت ليرييل ذلك بوجه حازم لا يشبهها عادةً.
“وأنتَ كذلك، سواء كنتَ وليّ العهد أو من النبلاء. إن جئتَ لتتطوّع، فكفّ عن الكلام الفارغ وساعد بدلًا من ذلك. لا تُضيّع وقتكَ في الحكم على نوايا الآخرين.”
وقبل أن يتمكن فيريك من الرد، كانت قد جمعت كل الخبز فوق الصينية وغادرت المكان.
فرفع حاجبه ونظر إلى ظهرها المتلاشي بشعورٍ غامض لم يفهمه.
‘……هل هذه فعلًا ليرييل تينيبريس التي أعرفها؟’
لقد تعمد استفزازها بنبرةٍ حادة ليختبرها، معتقدًا أنها ستفقد أعصابها وتكشف عن وجهها الحقيقي، كما كانت دائمًا.
لكن ليرييل التي رآها اليوم في المعبد كانت مختلفةً تمامًا. لم يكن ما أظهرته تمثيلًا، بل كان صادقًا، واضحًا، ومؤلمًا.
‘……هذا مستحيل.’
شعر فيريك بالارتباك. فقط قبل شهرٍ واحد، في حفل الخطوبة، كانت ليرييل امرأةً لا ترى أحدًا غير نفسها، أنانية، و متغطرسة، وجشعة حتى النخاع—شريرة بطبيعتها.
لكن الفتاة الواقفة أمامه الآن……
‘لا، لا يجب أن أنخدع.’
أغلق فمه الذي كان مفتوحًا بدهشة بإحكام.
لقد كاد أن ينفعل. رفض تصديق رغبته في الإيمان بأنها تغيّرت، واستعاد في ذهنه صورة ليرييل الشريرة التي يعرفها، فتمكن أخيرًا من استعادة رباطة جأشه.
مع ذلك، ظل قلبه ينبض بسرعة، لكنه أقنع نفسه أن ذلك بسبب الغضب فقط.
ثم نظرت عيناه القرمزيتان الباردتان نحو الممر الذي خرجت منه، وانعكست فيهما نيةٌ حذرة.
على أي حال، كان متأكدًا من أمرٍ واحد—عليه أن يراقبها باستمرار. و ما دام قد تبعها إلى هنا، فعليه المضيّ قدمًا حتى النهاية.
تنهد ثم خرج ليبحث عن الكاهن، فركض نحوه بوجهٍ منفرج،
“آه، ها أنتَ هنا يا صاحب السمو! الكاهن الأعظم والسيدة القديسة أنهيا الاستعدادات. نعتذر عن التأخير في استقبالكَ، تفضل من هنا..…”
“كفى. أعطني عملًا يمكنني القيام به فورًا.”
“……عفوًا؟”
“لم آتِ لأقابل الكاهن الأعظم. لو كان ذلك هدفي، لقلتُه منذ البداية.”
‘جئتَ لتتطوع، أليس كذلك؟ إذًا كفّ عن الكلام وساعد فقط.’
ضحك فيريك ضحكةً قصيرة مليئةً بالسخرية، وكأنه لا يصدق ما يسمعه.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"