كانت ليرييل تعتزم أن تصبح أقرب إلى يوليان ابتداءً من حفل يوم ميلادها. نعم، إلى حدٍّ يُمكنها معه أن تبوح له بسر صغير. علاقةٌ وثيقة إلى هذا الحد.
لكن على خلاف رغبتها، خانها يوليان وتشبث بأنِيلا.
“الاستعدادات مثالية.”
راجع يوليان موعد الحفل الذي لم يتبقَ عليه سوى أيام قليلة، ثم أومأ برأسه. و أخرج من جيبه قنينةً صغيرة فيها شيء ما، وأراها لأنِيلا.
تأكدت أنِيلا من محتوى القنينة وارتسمت على شفتيها ابتسامة رضا.
انعكس وجهها على سطح الزجاج بابتسامةٍ بدت نقيةً لكنها تثير قشعريرة غريبة. و تمتمت بصوتٍ يفيض حماسة حتى أنه بدا مخيفاً،
“جيد. جيدٌ جداً.”
بهذا وحده يمكن جعل ليرييل أسوأ شريرةٍ في هذا العالم.
في يوم ميلادها……ذلك اليوم المميز الذي يخلّد قدومها إلى الدنيا. سيصل التغيير الذي طرأ على حياتها إلى نهايته.
وكانت أنِيلا على يقين من ذلك.
تَمَوَّج داخل القنينة سائلٌ أسود يلمع كضوء الشفق، في تموجاتٍ طفيفة تبعث على الشر.
وهكذا تلقّى معظم من لهم علاقة بعائلة تينبريس دعوة لحضور الحفل.
ومع كثرة المدعوين، شاع أن الحفل سيكون أفخم وأكبر من أي وقت مضى.
لكن وسط كل هؤلاء، كان هناك شخصٌ واحد فقط لم يتلقَ الدعوة حتى يوم الحفل السابق.
“ألم تصل اليوم أيضاً؟”
“نعم…….”
“مستحيل. هل تأكدتَ جيداً؟”
وكان ذلك الشخص—بشكلَ مدهش—خطيب صاحبة الحفل نفسه، وولي عهد مملكة تريان، فِيريك تريان.
“اسأل ساعي البريد مجدداً. لا بد أنها ضاعت في مكانَ ما.”
ولم يستطع فِيريك إخفاء توتره وهو يوبّخ معاونه المسكين، فبدأ معاونه يشرح بوجهٍ يكاد يبكي،
“لقد سألتُ مسبقاً.”
“……وقال أنها غير موجودةٍ أيضاً؟”
“نعم. قال أن لا رسائل مفقودة، وقد تأكدت من الأماكن التي يترك الرسائل فيها ثلاث مرات، وسألت عامل النظافة عشرات المرات عمّا إذا كان قد عبث بمكتبكَ مؤخراً!”
ناشد المعاون سيده وقد ضاق ذرعاً بهذا الهوس المفرط،
“لماذا لا تسألها مباشرة يا سموك؟ الحفل غداً.”
“تقصد ليرييل تينبريس؟”
ضحك فِيريك ضاحكاً بسخريةٍ وضرب الطاولة بقوة.
“لدي كرامة، كيف أسألها عن هذا؟”
“ربما….مجرد ربما…..كانت تنوي إرسالها لكنها نسيت.”
“هذا أسوأ!”
كان الآن يمسك رأسه بكلتا يديه، في شبه استسلام.
الأسئلة التي لا يجد لها جواباً سببت له صداعاً متواصلاً أفقده راحة حياته. وأصبحت قدرته على التركيز في العمل في أدنى مستوياتها.
وبينما كان غارقاً في كومة من الأوراق المتراكمة، لم يكن يدور في ذهن فِيريك سوى سؤالٍ واحد: “لماذا؟”
لماذا لا ترسل إليّ دعوة؟ أنا بالذات؟
لو كانت ليرييل أمامه الآن لتمسّك بها ويطرح عليها السؤال فوراً.
إن كانت قد تعمدت عدم إرسالها، فذلك يثير غضبه. وإن كانت قد نسيت، فذلك يجرحه. لكن الذهاب إليها وسؤالها مباشرةً أمرٌ محرج للغاية.
لم يسبق لفِيريك ولو مرةً أن سألها عن يوم ميلادها. وقد عرفه بالطبع خلال جمعه معلوماتٍ شخصية عنها.
فلو ذهب وسألها فجأة: “لماذا لم ترسلي لي دعوة؟” فقد تجيبه هكذا:
“كيف عرفتَ تاريخ ميلادي؟ هل……كنتَ تحقق في أمري؟”
‘تباً!’
مجرد تخيل سماع ذلك منهياً الحديث يجعله يحترق خجلاً.
ركله الغيظُ فأطاح بقدم الطاولة.
“آه.”
وانهارت دفعةٌ واحدة الأبراج الورقية التي كانت بالكاد متماسكة.
حدق فِيريك في المشهد، ثم وقف ببطء وبدأ يجمع الأوراق مع معاونه.
و حتى هذا بدا مُذلاً.
طَق-
وبينما يفعلان ذلك، طرق أحدهم باب المكتب. فاعتدل المعاون بصعوبة من الانحناء وذهب ليرى الزائر.
وما إن رآه حتى اتسعت عيناه وهو ينادي فِيريك بفزع،
“سموك، هناك زائر…….”
“لا أذكر أن لدي موعداً مع أحد اليوم.”
“نعم. يبدو أنه جاء بلا سابق إخطار.”
تنهد فِيريك بصوتٍ مسموع وهز رأسه. ورد ببرود دون أن يرفع عينيه عن الأوراق،
“لستُ في مزاج لاستقبال أحدٍ الآن. اطلب منه العودة لاحقاً.”
“ولكن…….”
“ألا ترى أنني مشغول؟”
لم يكن فِيريك بحاجةَ إلى مزيدٍ ليزداد توتراً، فقد كانت أعصابه مشدودةً أصلاً.
و لم يكن لديه أدنى رغبةَ في الحديث مع شخص لا يلتزم حتى بأبسط قواعد الزيارة وتحديد موعد مسبق.
فلوّح بالأوراق التي في يده بعصبية، وكأنه يقول له بوضوح: “اخرج فوراً.”
حاول المعاون قول شيءٍ آخر لكنه استسلم في النهاية وهز رأسه متوجهاً مجدداً نحو الباب.
“نعتذر، سموه لا يستطيع مقابلتكِ الآن. هل يمكنكِ تحديد موعد والعودة لاحقاً؟”
جاء الرد سريعاً، فخفض الزائر رأسه بخيبةٍ واستدار مبتعداً.
“حسناً. سأعود في المرة القادمة.”
كان في صوتها أثرٌ خفيف من الخذلان، وخطواتها التي ابتعدت كان فيها شيءٌ مألوف. فرفع فِيريك رأسه مستغرباً، لكن المعاون كان قد أغلق الباب بالفعل.
ثم عاد وانحنى ليلتقط الأوراق، فسأله فِيريك،
“من كان يا ميلر؟”
و أجاب المعاون وهو يلتقط ورقةً داستها الأقدام بعينٍ متحسرة،
“كانت الآنسة تينِبريس.”
“…….”
توقفت كل حركة في جسد فِيريك. و طارت من يده الورقة التي كان يمسكها وسقطت بين الأوراق الأخرى.
فوبّخه المعاون بخفةَ سائلاً ما الذي يفعله سيده، بينما عاد لجمع الأوراق.
لكن ذلك كان بالضبط ما أراد فِيريك قوله له.
“هل جننتَ؟ كان عليكَ أن تقول أنها ليرييل!”
“ماذا؟! لك—لكنكَ قلتٍ لي أن أصمت! قلتَ أنكَ مشغول!”
احتج المعاون بمرارة، لكن فِيريك لم يكن لديه وقتٌ ليسمع شكواه.
“تباً لكَ يا ميلر!”
تفلتت منه شتائم لا تليق بولي عهد، ثم نهض مندفعاً. و لم يعد يرى الأوراق ولا أي شيء آخر.
وفي لحظة، فتح الباب وانطلق يعدو عبر الممر الطويل في القصر الملكي.
‘ليرييل. خطيبتي جاءت لتبحث عني.’
لطالما كان فِيريك هو الذي يبحث عنها، أما أن تأتي هي بنفسها إلى القصر؟ لم يحدث قط.
ولم يخطر بباله أبداً أنها قد تكون جاءت خصيصاً للقائه. فهو حتى لم يحصل على الدعوة التي حصل عليها الجميع. فكيف يجرؤ حتى أن يحلم بما هو أكثر؟
لكن ذلك حدث بالفعل. ولم يكن ليسمح لنفسه بأن يضيع هذه المعجزة.
ركض بلا توقف، غير مبالٍ بشعره الذهبي الباهت الذي اعتاد ترتيبه بعناية وقد تشتت بفعل اندفاعه.
وبعد لحظات، ظهر في آخر الممر ظل صغير. ورغم أنه بالكاد يرى ظهرها، إلا أنه عرف فوراً من تكون. فقد شعر بها.
وخوفاً من أن تدور عند المنعطف وتختفي، صرخ منادياً اسمها.
“ليرييل!”
ارتد صوته العميق في الممر مراتٍ عديدة. فتوقفت المرأة ذات الشعر الأحمر التي كانت تمشي بعيداً، والتفتت بدهشة.
عيناها الخضراوان اللتان اشتاق لرؤيتهما تألقتا تحت ظلال الممر. فابتسم فِيريك ابتسامةً صغيرة، ناسياً حتى أن يلتقط أنفاسه.
نعم……إنها هي.
“سموك؟”
حالما رأت ليرييل فِيريك، عادت مسرعةً إليه بخطواتٍ قصيرة. و قد بدا عليها الارتباك من صرخته المفاجئة، واتسعت عيناها—الكبيرتان أصلاً—أكثر.
كانت ترتدي لباساً مختلفاً عن المعتاد؛ ليس فستانها الأسود المعتاد المزين بالدانتيل الفاخر، بل ثوباً بسيطاً بلون فاتح، أنيقاً وهادئاً.
وكان لهذا وحده أثرٌ كبير على مظهرها العام.
حتى فِيريك نسي للحظة كل ضيقه لعدم حصوله على الدعوة، وبقي يحدّق بها مذهولاً.
في السابق، خلال حفل الخطوبة، كانت تفوح منها دوماً روائح عطور حادة وقوية إلى حد مؤذٍ. لكن منذ فترة، صارت تفوح منها رائحة أزهارٍ طبيعية، مما جعل لقاءها أقل ثِقلاً عليه……بل لطيفاً.
التعليقات لهذا الفصل " 74"