عندما تسترجع الأمر الآن، كانت تلك النظرة مفعمةً بغضبٍ واضح لا يمكن تفسيره بمجرد انزعاجها من أنها سلبت منهم الطفلة التي اختاروها.
وكأنها شخصٌ يعرف تماماً ما سيكون عليه مستقبل هذه الطفلة.
“لا……لا يمكن.”
ما إن وصل تفكيرها إلى هذا الحد، حتى أطلقت سيندي ضحكةً قصيرة خافتة وهزّت رأسها نفياً.
لم يكن هناك أحدٌ حتى الآن قد أدرك ما يختبئ خلف أجنحة البياض.
كان يوليان شخصاً شديد الدقة إلى درجة مخيفة في مثل هذه الأمور، وسيندي أيضاً قررت الانضمام لأنها اعترفت بمهارته الخالية من الثغرات.
لكن……ماذا لو، ولو كان احتمالاً ضئيلاً؟ إن كانت قد اكتشفت الحقيقة؟
“…….”
ساد الصمت على شفتي سيندي اللتين تجمدتا بصرامة.
كان احتمالاً ضعيفاً جداً، لكنه فرضيةٌ مخيفة لا يمكن تجاهلها.
وأخيراً توقفت سيندي عن محاولة ضرب بوريس، وسرعان ما عدّلت نظارتها.
“من الأفضل أن أبلّغ يوليان……تحسّباً.”
وبعد أن اتخذت قرارها، أسرعت في خطواتها مجدداً.
أما بوريس المسكين، فلم يفعل شيئاً سوى مراقبة ملامح سيندي المشحونة بالجدية، ثم تبعها بوجهٍ منطفئ.
وكانت وجهتهما هي قبو مقرّ أجنحة البياض، ذلك المكان الخفي المغطّى بالظلام.
وعند نزولهما السلالم الطويلة، ثم ضبط الرقم الصحيح على اللوحة الخاصة بالباب، و انفتح الباب الحديدي محدثاً صريراً صدئاً.
“لقد عدت، يوليان.”
وبمجرد دخولها الغرفة السرية، بدأت سيندي تبحث عن يوليان قبل أي أحد آخر. فهي قد فشلت في مهمتها وستُوبَّخ كثيراً، لكن ذلك لم يكن هو المهم الآن.
‘أظن أنها تنبّهت للأمر.’
لم يكن يشغل سيندي في تلك اللحظة سوى ضرورة نقل ذلك الإحساس الغريب الذي اجتاحها.
وبينما كانت تتفقد القبو بعَجلة، شعرت فجأة بأن المكان أكثر إشراقاً من المعتاد.
“ها……؟”
وبالتدقيق، لم يكن المكان مجرد “مضيء”، بل كان مشرقاً بحدة تؤلم العين. وهذا أمر مستحيل. فهذا القبو بلا نافذة واحدة تسمح بدخول ضوء الشمس.
وفوق ذلك، كان يوليان بخيلاً لدرجة أنه يرفض شراء زيتٍ للمصابيح، بحيث لا يضيء المكان سوى شمعةٍ يتيمة فوق المكتب.
لكن الآن، كان الضوء ينتشر في كل مكان كما لو أن الفجر قد بزغ. وكلما تقدمت نحو المركز، ازداد ذلك الوهج شدة.
ولم تعد قادرةً على فتح عينيها بالكامل، فاكتفت بنصف إغماضة، حين وصلها صوت صافٍ من وسط تلك الهالة.
“لقد جئتما؟”
“!”
عرفا سيندي وبوريس فوراً صاحبة الصوت. فهي كانت صاحبة أقوى قوة بين جميع المنتمين إلى أجنحة البياض.
وأن تكون هي من يملأ القبو كله بهذا الضوء……فهذا يدل على وقوع خطبٍ جلل.
فسال العرق البارد على صدغ سيندي.
“القديسة أنيلا……”
كان تهديد الحياة الذي صدر عنها مختلفاً تماماً عن ذلك الذي شعرت به من ليرييل.
“لقد كنتما رائعين اليوم، سيندي……بوريس.”
“أ……الأمر هو……سيدتي القديسة، لقد بذلنا جهدنا لكن……”
لم يستمر العذر الذي خرج من فمها عفوياً سوى ثوانٍ. فقد وصلت أنيلا إليهما دون أن يشعرا، وأمسكت ياقة بوريس ورفعته.
“ك……كهه.…!”
“بوريس!”
لا—في الحقيقة، لم تكن هي من رفعته. فالقوة المقدسة التي تملكها هي التي قبضت على عنقه ورفعته في الهواء.
والمشهد الذي بدا فيه ذلك الضخم، الذي يفوق أنيلا حجماً بثلاث مرات، معلَّقاً في الهواء بقوة غير مرئية……كان مرعباً.
حدّقت عينان زرقاوان متقدتان بالغضب في المذنبين بنظرةٍ قاتلة.
“أليس يوليان من قال لي أن أبقى هادئةً وسيتم حل الأمر؟”
تطاير شعرها الأبيض الرفيع في الهواء كأفاعٍ رشيقة.
أما بوريس، فقد بدأ يرغي محاولاً يائساً أن يجد الأرض بقدميه.
“وسمحتَ لتلك العائلة النجسة أن تقتحم معقلي وتتجول كما يشاء، وطلبتَ مني فقط أن أراقب بصمت!!!”
دوّى صوتٌ يشبه شيّ اللحم المحترق. كانت حرارة قوّتها المقدسة قد بدأت تحرق جلد بوريس حول رقبته.
“ثم يفشل هذان الأحمقان؟!”
لم يعد هذا المكان مجرد قبو……بل صار محراباً وجحيماً.
فارتجفت سيندي وانهارت راكعةً.
“أ……أرجوكِ….ارحميني.…”
حتى كلمات الاستغاثة لم تستطع إخراجها. فالهواء اللازم للنطق كان يجف ويختفي تحت ذلك الوهج الحارق.
“أنيلا!”
دخل يوليان القبو متأخراً، وتجمّد وجهه عند رؤية المشهد.
تقدم خطوةً لإيقافها، لكنه تراجع ثلاثاً فوراً—فالحرارة الهائلة المنبعثة منها كانت لا تطاق. وكأن الشمس نفسها اشتعلت أمامه.
“يوليان.”
وما إن رأتْه حتى زاد اضطراب الهواء حولها.
رمَت بوريس أرضاً واقتربت منه بخطواتٍ ثقيلة. فابتلع ريقه وهو ينظر إلى بوريس الملقى وإلى سيندي التي اختلطت دموعها بتعبها.
لقد فهم الوضع فوراً.
تباً……لا بد أنهما فشلا في المهمة.
“اهدئي أولاً و-”
حاول تهدئتها، لكن ذلك كان مستحيلاً.
“أهدأ؟”
لم يكن لدى القديسة أي نيةٍ لأن تهدأ.
ولهذا، بمجرد أن تأكدت أن سيندي وبوريس قد انهزما أمام ليرييل، أسرعت إلى هنا فوراً. لتجعلهم يدفعون الثمن.
اندفعت الحرارة لتملأ القبو الضيق بالكامل.
“تلك المرأة كانت تضحك هههاها مع عائلتها أمامي، تستمتع بالعمل التطوعي معهم. فكيف تريدني أن أهدأ؟ هل قديسة رحيمة؟ هل تريد أن أغمر أعدائي بالرحمة والشفقة؟”
كانت الكلمات التي تتفجر من فمها كلها أشياء لا يليق بقديسةٍ قولها.
والمضحك أن حولها كان يتصاعد أقوى إشعاع مقدس لا يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منه. يمكنها حرق الناس حتى الموت، أو إنقاذهم كما تشاء.
ويوليان لم يرد أبداً أن يكون في الفئة الأولى.
“صحيح……لا بد أنه من الصعب عليكِ أن تهدئي. لقد تحدثتُ دون تفكير.”
لذلك اختار كلماته بأكبر قدر من الذل حتى لا يستفزها وهو يراقب الوضع.
“سأعدّ الخطة القادمة بأسرع ما يمكن لتعويض ما حصل-”
“لا حاجة.”
“ماذا؟”
لكن الأمر لم يكن سهلاً. فأنِيلا التي فقدت عقلها لم تعد تسمع لأي منطق.
“سأتولى الأمر بنفسي. لقد فشلتم مرة، فكيف أتوقع أن تنجحوا إن منحتكم فرصةً أخرى؟”
تركت بوريس الذي كان يتلوّى من ألم الحروق واتجهت نحو الباب.
“سأذهب لأحرق ليرييل تينيبريس بقوتي المقدسة. وإن لم يبقِ حوله امرأةً أخرى تخطف الأنظار، فسيعيد الأمير النظر فيّ بالتأكيد.”
“هذا غير معقول!”
شهق يوليان.
قديسة تحرق الناس حتى الموت؟ لم يحدث هذا قط، ولا يجوز أن يوجد مثل هذا الوحش أصلاً.
وإن تُركت تفعل ما تشاء، فسيسقط اسم أجنحة البياض—المتصل بها ارتباطاً وثيقاً—إلى الحضيض بلا شك.
لم يكن بإمكانه السماح بذلك أبداً.
‘كيف أوقفها؟’
كانت المشكلة أن هذه القديسة المنفلتة لم يعد يجدي معها لا قوة ولا حديث.
ومع ذلك عليه أن يجد طريقةً لإقناعها خلال ثلاث ثوانٍ فقط. فكل ما بناه حتى الآن، ومستقبله كله، يعتمد على هذه اللحظة.
لم يسبق له أن شعر بهذا القدر من اليأس في حياته.
ثانية… ثانيتان… ثلاث.
ومضى الوقت كما ينزلق الماء.
وفي اللحظة التي وضعت فيها أنِيلا يدها على مقبض الباب لتفتحه—
“نعم، لو قتلتِ ليرييل بهذه الطريقة، فبالتأكيد سيراكِ الأمير.”
“…….”
“سيراكِ تماماً كما نراكِ نحن الآن……بعيون ممتلئة بالذعر.”
اختار يوليان المواجهة المباشرة. خطوةٌ في غاية الخطورة، قد تحرقه هو الآخر.
لكن بقدر خطورتها……فقد كانت الطريقة الوحيدة التي ستصل إلى أذنها.
وكما توقع. استدارت أنِيلا بسرعة حادة ونظرت إليه بعينين حادتين عند نبرة التحدي في صوته.
“هاه؟ ماذا قلتَ للتو؟”
هذه كانت الفرصة الوحيدة.
أشار يوليان إلى بوريس الملقى أرضاً بلا حراك، ثم إلى سيندي الملتصقة بالجدار نصف واعية وترتجف بشدة.
“انظري! انظري لما فعلتِه ببوريس! وماذا عن سيندي؟”
رمقت أنِيلا الاثنين بنظرةٍ جانبية متكاسلة.
كان بوريس غائباً عن الوعي، بينما سيندي ما إن التقت عيناها بعيني أنِيلا حتى شهقت وارتجف جسدها كله.
وعندها فقط بدأت أنِيلا تدرك المشهد. الجميع—عداها—كان ينظر إليها كما لو كانت وحشاً مرعباً.
وفقط تخيّل أن الأمير قد ينظر إليها بتلك العين نفسها……كان كفيلاً بأن يجعلها تجن تماماً.
____________________________
ياعمري يا بوريس
اما انيلا مافيه الا انتظر وش نهايتها ذي البزر مب كابره
بس صدق وين اهلها؟ يعني من مدلعها لذا الدرجة عشان تصير دلوعه كذا؟
التعليقات لهذا الفصل " 72"