بينما كانت تشاهد الدوق وزوجته يركضان في هلع و الطُفل الذي وضعا عليه أعينهما يُنتزع من أمامهما بكل صراحة، كتمت سيندي ضحكةً مجنونة وهي تقول في نفسها أن هذا جزاءٌ يستحقانه تمامًا.
‘حتى عائلة تينيبريس العظيمة ليست استثناءً إذًا.’
حتى أولئك الذين كانوا يُسمَّون أصحاب النفوذ الحقيقي في المملكة كانوا بلا حول أمام خطةٍ كاملة ومُحكمة.
لا الأموال الطائلة ولا العلاقات الواسعة في مجتمع النبلاء كانت قادرة على حل هذه المشكلة.
وكان الأمر نفسه ينطبق حتى على تلك الابنة المتمردة التي ذاع صيتها بأنها ألمع شريرة في تاريخ العائلة.
وبينما كانت سيندي تستمتع بملء قلبها بتلك الملامح المملوءة باليأس على وجه الدوقين، التفتت نحو نظرة لاذعة شعرت بها من خلفها.
‘يا لهذا الرعب…..نظرة كهذه قادرة على قتل إنسان.’
كانت ليرييل تينيبريس تحدّق بها دون أن تنطق بكلمة، وعيناها الداكنتان الممتلئتان بالحنق كانتا تشبهان غابةً كثيفة لا يصلها ضوء الشمس.
لكن سيندي لم تكن تخشاها. فلو كانت ليرييل ما تزال “شريرة”، لخشيت انتقامها ولو قليلًا، لكنها الآن تحولت—كما يقولون—إلى فتاةٍ طيبة وغبية.
“لابد أنكِ عانيت كثيرًا بمفردكِ طوال هذا الوقت، أليس كذلك؟ لا تقلقي الآن. عائلتكِ الجديدة تنتظركِ.”
بالطبع، ما كان ينتظر فيوليت لم يكن سوى مستقبل بائس.
كانت سيندي تكذب دون حتى أن تبلل شفتيها. أما فيوليت، فرغم شكها بكل ما يحدث، تقدمت بخجل وحذر، ولم تستطع إلا أن تخرج إلى الأمام.
فبسبب شخصيتها المتمردة، لم تتلقَّ عرض تبنٍّ واحد طوال حياتها. حتى لو كان التبنّي في الخارج، كانت تعلم أنه عليها أن تشكر وجود من يرغب بها أصلًا.
“آه.…”
أطلقت لوفرين تنهيدةً لا إرادية وهي تشاهد فيوليت تترك يدها وتتجه مبتعدةً بعد ترددٍ طويل.
هوت يدها إلى الأسفل بعدما أخفقت أصابعها في الإمساك بالدفء المتلاشي. و انحنت لوفرين برأسه، فاحتضنها أنوين ومسح كتفها وهو يعتذر بعينيه.
لم يكن لديه ما يقدمه سوى هذا النوع المكرر من المواساة.
فامتلأ الجو كله بحزن ثقيل. وهكذا اضطر الدوقان إلى التخلي عن فيوليت.
“انتظري قليلًا.”
لكن ليرييل لم تفعل. فقد أوقفتهم فجأة بعدما كانت صامتةً طوال الوقت.
وبينما كانت لوفرين تُخرج منديلًا وتمسح دموعها بخفة، رفعت رأسها بسرعة مندهشة.
“ليرييل.…؟”
نظرت إليها بعينين تحملان بصيص أمل.
نعم…..ابنتهما الذكية، بل الماكرة، ربما تستطيع تغيير شيء.
كانت تلك النظرة محمّلةً بكل تلك الأمنية. لكن سيندي رأت فيها محاولةً بائسة للتمسك بأمل لا طائل منه.
‘هاه…..وما الذي تظنين أنكِ قادرةٌ على فعله الآن؟’
لقد ظلت ليرييل متمسكةً بكبريائها كشريرةٍ سابقة لا أكثر. وكان مجرد رؤيتها تتشبث بخسارةٍ حُسمت نتيجتها يثير في سيندي رغبةً بالضحك.
وبعد أن أعادت ضبط تعابيرها، استدارت إليها أخيرًا.
“ما الأمر، يا آنسة تينيبريس؟”
“سمعتُ أنها ستنتقل إلى الخارج بالتبنّي. هل يمكنني معرفة اسم الشخص الذي سيتكفّل بها؟”
كما توقعت تمامًا، فقد كان السؤال ضمن الاحتمالات التي تخيلتها.
ربما كانت تريد أن تجد ثغرةً عبر معرفة هوية الكفيل، لكن سيندي كانت خبيرةً في هذا المجال.
فأجابت دون أن تترك أي فجوة،
“أعتذر، لا يمكنني إطلاعكِ على معلوماتٍ شخصية كهذه. لكن بما أن الكفيل مختارٌ بعناية من قِبَل الريشة البيضاء، فيمكنكِ الاطمئنان.”
كان سؤالًا يسهل إزاحته بابتسامةٍ إدارية بسيطة.
‘هل لديكِ ما تقولينه غير هذا؟’
كانت تنظر إلى ليرييل وكأنها تتحداها. لكن فجأة تجمّد تعبير سيندي المليء بالثقة.
“…..تبتسمين؟”
لقد ابتسمت ليرييل.
ولم تكن تلك الابتسامة اللطيفة الرقيقة التي تمنحها للأطفال، بل ابتسامةً حادة، هادئة، وذات نيةٍ خبيثة—ابتسامةٌ تُذكّر باللقب الأصلي الذي حملته ذات يوم: الشريرة.
فارتجفت سيندي فجأةً من شدّة الشر الواضح في ابتسامة ليرييل.
كان من المفترض أن تكون الكفة في صالحها تمامًا. لكن هناك شعورٌ مزعج لزج، كالقار المذاب، تعلق بها بإصرار.
“هكذا؟ إذاً لا بأس…..يمكنكم تقديم الدعم على الأقل، أليس كذلك؟”
“دعم…..ماذا تقصدين؟”
وقد انكشف سبب ذلك الشعور المريب بسرعة. إذ كان السؤال الأول مجرد طُعمٍ لجرّها إلى الفخ.
وحين سألت سيندي باستغراب عمّا تعنيه، تقدمت ليرييل خطوةً للأمام وكأنها تمثل العائلة بأكملها.
“كما ترَين، عائلتنا أُعجبت بفيوليت كثيرًا. مؤسفٌ أننا لا نستطيع العيش سويًا، لكن يمكننا على الأقل دعمها وتشجيعها في مستقبلها.”
كان اقتراحًا يبدو معقولًا لأول وهلة، لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك أبدًا. فقد أدركت سيندي فورًا أن هذا العرض سيعود بخسارةٍ كبيرةٍ عليها.
“وبالطبع، لو قدمنا الدعم، فسنتلقى أخبار فيوليت بشكلٍ دوري، وهذا سيخفف عنا بعض الأسى.”
تجمدت سيندي لأول مرة وعجزت عن الرد. وكان مساعدها، بوريس، هو الآخر يتلعثم بارتباك.
فمجرد إرسال تقارير منتظمة عن فيوليت كان أمرًا مستحيلًا من الأساس. لأنها لم تكن ذاهبة إلى أسرة حنون، بل كانت ستُباع كعبدةٍ تنقب عن المعادن في أنفاقٍ ضيقة ومظلمة.
وهذا بالضبط ما كانت ليرييل تستهدفه. لقد قرأت العمل الأصلي وكانت تعرف خبايا منظمة “الريشة البيضاء” جيدًا.
‘هيا، هل تستطيعين الإجابة الآن؟’
كانوا يتحدثون عن رعاية الأطفال والتبنّي الخارجي، لكن تلك المنظمة لم تكن سوى عصابة اتجارٍ بالبشر.
ولو استطاعت لألقت بكل قذارتهم على الطاولة الآن فورًا. كي يعرف العالم كله حقيقتهم المقززة.
‘…..ليس الآن.’
لكن ليرييل—التي من المفترض ألا تعرف شيئًا—لو قالت الحقيقة مباشرةً فلن يصدقها أحد.
بل سيتهمونها بأنها تشوه سمعة منظمةٍ خيرية، وستُنبذ بوصفها الشريرة المعتادة لا أكثر. لذلك، لم يكن أمامها الآن سوى حماية الطفلة الموجودة أمامها.
ومع أنها كانت ترى الارتباك الواضح على وجه سيندي، لم تشعر بأي انتصار. فقد هبط طرف فم ليرييل ببطء.
والمرأة التي كانت تبتسم شرًّا قبل لحظات توقفت عن الابتسام، فازداد حضورها الطاغي بوصفها شريرة.
“لماذا لا تجيبين؟”
“آ-في الحقيقة..…”
وبينما كانت سيندي تجر ذيل كلامها، حاولت فتح مخرج يخلصها من الورطة.
“أظن أنه سيكون من الصعب—”
“لن ترفضي…..صحيح؟ لا تقولي هذا فقط.”
وفي لحظة، أُغلق المخرج الوحيد الذي رأته—بيد ليرييل نفسها. وكأنها قرأت أفكارها و تنتزعها من فمها انتزاعًا.
ثم تبع ذلك تعليقٌ حاد.
“عائلة تينيبريس، وهي من أغنى العائلات…..لو عرضت الدعم، فسيقبل به الجميع إلا لو كان الداعم إمبراطورًا!”
“…….”
“ومع ذلك ترفضون؟ مستحيل. من هو هذا الراعي العظيم الذي يجرؤ على رفض التعاون مع عائلة تينيبريس؟”
كان كلامها منطقيًا تمامًا. فاستعادت لوفرين ثقتها فجأة وقفزت مبتعدةً عن ذراع زوجها لتقف بجانب ابنتها.
“صحيح! جرّبي الرفض فقط!”
ولوّحت بالمنديل الذي كانت تمسح دموعها به، وهي تزأر بحدّة.
“سأُرسل رجالي حتى آخر حدود الجحيم لأعرف من هذا الراعي الذي سبقنا وخطف فيوليت من بين أيدينا!”
لم يكن هذا مجرد هستيريا من امرأةٍ في منتصف العمر. فلوفرين كانت ملكة مجتمع النبلاء. امرأةٌ بارعة في استخراج الفضائح كما لو كانت مهنةً لها.
وقد استطاعت سيندي بسهولة تخيل ما سيحدث لو ركزت اهتمامها لكشف قذارة الريشة البيضاء.
‘تبًا…..لا.’
كلمة “الدمار” ظلت تلوح أمام عينيها. وبتوترٍ شديد، أفلتت سيندي يد فيوليت دون قصد.
لم يكن الأمر يستحق المجازفة بانهيار منظمة الريشة البيضاء مقابل بيع طفلة واحدة.
كان الأفضل ترك الأمور تمضي كما تريد عائلة تينيبريس. مع أنه خسارة، لكنها تظل أفضل بمئات المرات من أن تُفضح المنظمة أمام الشعب بأكمله.
وفي النهاية، استسلمت سيندي وقررت التراجع لحماية نفسها.
فأمسكت بالأوراق التي كانت تحملها، وأخذت تقلّبها بسرعة وهي تتصنع الارتباك.
“آه…..يبدو أن الطفلة المسجّل للتبنّي لم تكن فيوليت بل طفلةً أخرى؟ يا للمصيبة. يا بوريس! ألم تتأكد من الأوراق جيدًا؟!”
التعليقات لهذا الفصل " 69"