اتسعت عينا الفتاة المبللتين بالدموع. وما إن رفعت رأسها بسرعة حتى رأت هناك ليرييل تينيبريس تحدق بها من الأعلى بهالة مخيفة.
ورأت خلف ليرييل زوجَي الدوق وهما يرمقانها بعيونٍ متقدة كالنمر الأسود الغاضب.
ولكن لماذا يا تُرى؟ لم يعودوا يخيفونها كما في السابق. فقد باتت الفتاة تنظر إلى عائلة تينيبريس بنظرة مفعمة بالإعجاب.
“قلتِ كلامًا جميلًا يا ليرييل.”
وكأن أنوين قد لمح نظرة الفتاة، فتابع مباشرة.
ثم فجأة، نقر بعصاه التي كان يحملها بعنفٍ على ساق الكاهن.
“آخ!”
لم يستطع الكاهن، الذي كانت ليرييل تمسك بمعصمه، إلا أن يصرخ من الألم ويتراجع إلى الخلف.
وما إن ابتعد الكاهن عن الفتاة حتى أشارت لها لوفرين بيدها تطلب منها المجيء. فأسرعت الفتاة وركضت نحوهما واحتمت خلفهما.
كان الدوق وزوجته، اللذان لم يكتفيا برؤيتها تعبث بل أبديا اهتمامًا بها، يشعرانها بأمانٍ أكبر من المعبد الذي لم يفعل سوى إيوائها وإهمالها.
“في كل مكانٍ يوجد شخصٌ من هذا النوع دائمًا. شخصٌ بائس لا يعرف إلا الاعتذار أولًا مهما كان الأمر.”
قال أنوين ذلك ساخرًا وهو ينظر إلى الكاهن الذي ما زال يرمش بعينيه متحيرًا غير مدركٍ ما الذي أخطأ فيه.
لكن سخرية أنوين لم تدم طويلًا. فقد اختفت ابتسامته فجأة، وظهر بدلًا منها احتقارٌ جاف.
“لماذا علينا أن نقبل اعتذارًا من شخص لا يعرف حتى إن كانت المشكلة منه في الأساس؟”
طَرق عصاه على الأرض بقوة.
“منذ متى أصبح بيت تينيبريس سهل الاستخفاف به هكذا؟”
وبسبب الضربة تكونت حفرةٌ عميقة ودائرية في الأرض. فتلعثم الكاهن وابتلع ريقه وهو ينظر إليها.
كان يريد فقط إلصاق التهمة بالطفلة ليُنهي الموقف، لكن الأمور لم تسر كما أراد بل ازداد الوضع سوءًا.
“أنتِ، ما اسمكِ؟”
وفي حين كان أنوين يوجه تهديدًا مقنّعًا للكاهن، كانت لوفرين تهدئ الفتاة المذعورة.
ورغم نبرة صوتها الجافة، إلا أن يدها التي تربت على كتفها كانت لطيفة. فتمكنت الفتاة أخيرًا من التوقف عن الارتجاف وقالت اسمها بتلعثم.
“فـ، فيوليت.”
“حسنًا يا فيوليت. أردتُ أن أعلّمكِ أمورًا كثيرة، لكن احفظي واحدةً فقط الآن.”
رفعت لوفرين رأسها بابتسامةٍ واثقة لا تجيدها سوى دوقةٍ حقيقية.
“لا تعتذري بسهولةٍ يا صغيرتي. لا تقولي كلمة آسفة بعد الآن. هكذا فقط لن يجرؤ الناس على الاستخفاف بكِ.”
كانت تلك نصيحةً لم تسمع مثلها من قبل، وكانت أيضًا نوعًا من المواساة.
فامتلأت عينا فيوليت بالدموع مجددًا، لكن هذه المرة لم تكن دموع قهر.
‘لم يقل لي أحدٌ من قبل ألا أن أعتذر……’
كبرَت فيوليت يتيمة، تتنقل بين الملاجئ، وتعيش وسط بالغين فاسدين لم تسمع منهم سوى الكلام الجارح.
‘لا بد أنكِ المخطئة. واضحٌ من شكلكِ.’
نظراتهم المليئة بالأحكام المسبقة لم تساعدها يومًا، بل جعلتها أكثر التواءً.
لكن هؤلاء كانوا مختلفين. كانت نظراتهم قاسية، وكلامهم خشنًا، لكنهم كانوا يفكرون بها بصدق.
هذا اللطف الغريب الذي لم تعهده جعل الدموع تكاد تنهمر من جديد.
ثم ابتسمت فيوليت بعينين دامعتين وسألت بشقاوة،
“لكن……ماذا لو أخطأتُ فعلًا؟ ماذا أفعل حينها؟”
“هذا بديهي.”
لم تستطع لوفرين منع نفسها من الضحك عندما رأت ابتسامة الفتاة الطبيعية لأول مرة.
ثم لقّنتها العبارة التي لطالما قالتها هي نفسها.
“قولي له: لو أنكَ قمت بعملكَ جيدًا لما حدث أيٌ من هذا. هكذا تتعاملين مع الأمر.”
‘هذا لا يجوز أصلًا.’
طبعًا، ليرييل التي كانت تقف بجانبهما لم تستطع منع نفسها من قول هذا في داخلها، لكنها لم تُظهر اعتراضًا. بل اكتفت بابتسامةٍ فخورة.
‘ما هذا؟ رغم أنهما كانا يكرهان هذا النوع من المواقف، إلا أنهما جيدان حقًا.’
قد تكون طريقتهم خشنة، لكن رغبتهم في مساعدة الفتاة كانت واضحةً وصادقة.
هذه هي الطريقة التي يفعل بها الزوجان الشريران الخير. ولهذا، لم تجد ليرييل مانعًا في مد يدها للمساعدة بدورها.
لقد تأكدت أنه لا يوجد إنسان عاجز تمامًا عن فعل الخير. ومع ذلك، فقد حان الوقت لإنهاء الفوضى.
كان الكاهن يرتجف وهو يمسك مكان الألم، مما جعل ليرييل تدرك أن المشهد طال أكثر مما ينبغي. فتنحنحت قليلًا، وتقدمت بين أنوين والكاهن.
“أبي، كفى.”
“كفى؟ لكنني لم أبدأ بعد.”
وكان محقًا.
كان أنوين الذي تعرفه ليرييل قادرًا على إلقاء كلماتٍ تهين شخصية خصمه لساعاتٍ دون أن يرف له جفن.
ولديها عشرات المرات التي شهدت فيها هذا يحدث بالفعل. لكن هذه المرة وجب إيقافه هنا.
“أليس من الأفضل في هذا الوقت أخذ فيوليت إلى قصر الدوقية؟”
“…….”
“يبدو أن لديكَ الكثير مما تريد فعله معها.”
بعد هذا الإقناع الإضافي فقط أغلق أنوين فمه. وبالفعل، بدا له كل ما حدث مضيعةً للوقت.
وعندما التفت قليلًا، رأى الفتاة وقد اندست في حضن لوفرين وهي تلمحه بخجل.
بدت كأنها تثق بهم، لكن ما زالت في عينيها مسحة حذرٍ خفيف، كقط قُطِف لتوّه من الشارع.
كان أنوين دائمًا يحتقر أولئك الذين يجلبون الحيوانات الضالة ليعتنوا بها، بل يزدريهم. لكنه لأول مرة يفهم شعورهم بعمق.
‘صحيح، يجب أن أخبر كبير الطهاة أن يُعد وجبةً إضافية.’
أومأ أنوين برأسه وخفّف من حدة غضبه وسحب عصاه.
‘لو أحدث ضوضاء أكبر ربما يظهر رئيس الأساقفة أو أنيلّا.’
بالطبع كانت هناك أسباب أخرى جعلت ليرييل توقفه، لكنها لم تذكرها. واكتفت بالنظر إلى مبنى المعبد الذي بدا خلف كتف الكاهن.
عندما جاءت هنا لتؤدي عملها التطوعي، كانت مستعدةً تمامًا لاحتمال الاصطدام بأنيلّا. لكن عند وصولها لم تجد تلك القديسة الشرسة، بل وجدت فقط أطفالًا يريدون اللعب معها.
‘لا بد أنها تتقلب مع رجلٍ ما في مكان آخر.’
لكن غياب أنيلّا لم يكن مفاجئًا لها. فهي تعلم أن حقيقتها أكثر قبحًا مما يُتصوّر.
فاعتبرته أمرًا جيدًا وأكملت حديثها، ثم وجّهت للكاهن إنذارًا أخيرًا.
“على كل حال، أود أخذ هذه الطفلة إلى أراضي تينيبريس.”
“أه، ذاك، يعني….”
“ما هذا؟؟ ما الأمر؟”
لكن ليرييل لم تكن تعرف. أنّ سبب عدم ظهور أنيلّا لم يكن لأنها مشغولة باللهو مع رجل……
“عذرًا، لكن هذه الطفلة قد تحدد مصيرها بالفعل.”
بل لأنها لم تكن مضطرةً للتدخل أصلًا.
“؟”
عند سماع صوتَ غريب فجأة، التفت الجميع إلى الخلف. و كان هناك رجل وامرأة لم يرهم أحدٌ من قبل.
المرأة كانت تضع نظارات وشعرها مرفوعٌ بإحكام، وتحمل شيئًا يشبه المستندات.
والرجل الضخم الذي بدا مساعدًا لها كان يقف خلفها وهو يرمش بعينيه القاسيتين.
كان الاثنان يرتديان بدلتين بيضاوين بالكامل، وعلى صدريهما قطعةٌ غريبة. وبمجرد أن دققت ليرييل النظر فيها، عقدت حاجبيها.
كانا يرتديان بروشًا على هيئة ريشة بيضاء. وكان البياض اللامع يبعث شعورًا مشؤومًا.
“تشرفنا بلقائكم. أنا سيندي، الأخصائية الاجتماعية التابعة لمنظمة الأطفال «الريشة البيضاء».”
انحنت المرأة المهذبة بهدوءٍ وهي تقدم نفسها.
وأخرج الرجل الذي يقف خلفها منشوراتٍ دعائية من جيبه وقدّمها لزوجَي الدوق بطريقة تلقائية.
لكن لا ليرييل ولا الزوجين ولا أي شخص هناك مدّ يده لأخذها.
حتى أنوين لم يلتفت إلى المنشورات، وسأل بصوتٍ خشن،
“لديها مكان تذهب إليه؟ ما هذا الكلام الفارغ؟”
“نعتذر. يبدو أننا لم نوضح الأمر جيدًا.”
ورغم وقاحته، لم تُظهر المرأة ذرة خوف، بل ابتسمت ابتسامةً صغيرة. و كانت شفتاها منحنيتين، لكن عينيها بلا حركة.
ابتسامةٌ مزيفة ووقحة كافية لجعل أي أحد يشعر بالقرف.
حتى لوفرين التي كانت تضحك مع الفتاة اختفت ضحكتها وصارت تحدّق بهما بشراسة.
“هذه الطفلة كانت ضمن قائمة التبني الخارجي التي قدّمها المعبد. الآنسة فيوليت، صحيح؟”
________________________
يوليان؟ ماعليها المهم انت دوق تقدر تاخذها كذا ولا كذا طلع عضلاتك!
خير حسبتهم بيرجعون البيت وتقعد عندهم وتتعرف على هيفال ويسيرون اخويا ويمقلبون الخدم ويلعبون من ليرييل 😔
التعليقات لهذا الفصل " 67"