قبل يومين فقط، ظنّت ليرييل أن تجربة التطوع التي خرجت فيها مع هيفال كانت ناجحةً جدًا، فاعتقدت أن الأمور ستكون بخير. لكنها لم تكن بخيرٍ على الإطلاق.
‘اشتقت إليه اليوم وهو يلاحقني من خلفي قائلاً: “أختي، أختي.”’
لكن لم يكن بالإمكان لقاء هيفال الآن. كان اسمه حتى مكتوبًا في استمارة التطوع، لكنه تغيب عن هذا التطوع العائلي.
ففي التطوع السابق عمل بجدٍ مبالغ فيه حتى أنه أصيب بآلام عضلية شديدة وأُنهِك تمامًا.
منذ أن بدأ يقتلع الأعشاب في ثلاث حقول وحده تساءلت إن كان سيكون بخير. ولم يكن مفاجئًا أنه أفرط في الجهد.
“سأذهب معكم أنا أيضًا! أقول لكم ما زلت أستطيع التحرك……!”
حتى عندما حاول النهوض بشدة، لم تشعر حين مدّدته على السرير سوى بالفخر به.
لكن حين تفكر الآن، تشعر أنه كان يجب أن تدعه يأتي. فهذان الشريران لا يمكن التعامل معهما وحدها.
وبينما شعرت بالندم يغلي في صدرها، أوقفت ليرييل درس أنوين أولاً.
أن يراقب الأطفال رجلٌ مخيف الشكل وهو يطلق كلماتٍ شرسة لا يفهمونها……هذا بالنسبة لهم أشبه بالتعذيب. ولا يمكن حتى تسميته تطوعًا.
“أخرج أولاً! لقد أرعبتَ الأطفال!”
“لقد تحركتُ كما طلبتِ تمامًا. فما الذي يسبب لكِ كل هذا الاستياء؟”
أُخرِج أنوين من الصف وهو لا يدرك حتى فظاعة ما فعل، وبدت ملامحه متجهمةً معترضًا.
“صحيح. لقد بذلنا قصارى جهدنا.”
وكانت لوفرين التي أمسكت بها ليرييل مسبقًا كذلك. ويبدو أنها أرادت العودة إلى المنزل فورًا، إذ كانت تمسك طرف ملابسها بحدة.
“أنا بالكاد أطيق أن أعتني بطفلٍ في مثل سني هذا. كيف تفعلين بي هذا؟”
رؤيتها تحدق بعينين دامعتين كأن الدنيا كلها تؤلمها جعلت ليرييل تشعر وكأنها كلفتهما بعمل شاق لا مجرد تطوع.
مرت بها رغبةٌ في الاستسلام، لكن ليرييل قاومت بإصرارٍ مذهل وربّتت عليهما.
“لا تفعلوا ذلك، جربوا قليلًا بعد. اللعب مع الأطفال ممتعٌ جدًا، أليس كذلك؟”
وأشارت ليرييل إلى الأطفال الذين يلعبون بحريةٍ في الخارج.
كانت أشعة الشمس الدافئة تهبط بنعومةٍ على رؤوسهم بينما تتعالى ضحكاتهم البريئة. مجرد رؤية المشهد كان كافيًا ليُشعر القلب بالدفء.
فهؤلاء الأطفال بحكم ظروفهم يعيشون دائمًا داخل المعبد ولا يخرجون إلا عندما يأتي المتطوعون.
“فقط رؤية هذه الابتسامة التي تزهر على وجوههم الحزينة تشعركَ بالدفء. لا تتخيلان كم هو شعورٌ رائع.”
وانتشر على شفتيها ابتسامةٌ تلقائية وهي تنظر إليهم من خلف النافذة.
“ماذا؟”
لكن دوق تينيبريس وزوجته لم يكونا كذلك. فما إن أنهت ليرييل كلامها حتى بدت الدهشة على وجهيهما.
وبينما يتبادلان النظرات، مال أنوين برأسه وسأل ابنته التي أصبحت طيبةً فجأة،
“اللعب مع الأطفال……ممتع؟”
كان صوته مصدومًا كما في أول مرة رأى فيها عمل ليرييل الخيّر. و لوفرين التي كانت تبكي توقفت حتى عن التنهد وهزت رأسها نافيًا.
“لا تعرفين كم تشعر معدتي بالغثيان لمجرد النظر إلى أولئك الكائنات الصغيرة المزعجة.”
فانفتح فم ليرييل بصدمة.
قد لا يحب البعض الأطفال، لكن هذين الاثنين تجاوزا كل الحدود.
لم يكن الأمر محبة أو كراهيةً للأطفال. بل إنهما لم يفهما أساسًا جوهر العمل الخيري أو فائدته.
‘هل يمكن فعلًا إصلاحهما……؟’
وفي تلك اللحظة بدأت عزيمتها القوية تتزعزع كأوراق جافة تتلاعب بها رياح الشتاء.
كادت تقول: لمَ لا نترك كل شيء ونعود إلى المنزل؟
و ابتلعت ريقها وهي تتساءل هل تقول ذلك أم لا.
عندها فقط……
“أقسم بكل ما أملك.”
دوى صوت شخصٍ ما في أذنها.
صوتٌ منخفضٌ عميق الوتر يحمل يقينًا لا يقوله إلا من عاش التجربة بنفسه.
“لن يتغيروا أبدًا.”
قال فيريك ذلك وهو ينظر إلى ليرييل. وكان في عينيه خليطٌ معقد من المشاعر، كأنه يقول لها الكلمات ذاتها.
‘أنتِ أيضًا ستعودين في النهاية إلى شرورك السابقة مهما تغيرتِ قليلًا.’
‘وستخذلينني لا محالة.’
إنه ذلك النوع من النظرات التي تريد أن تأمل لكنها تخشى الألم.
ظل صدى تلك النظرة عالقًا في ذهن ليرييل يوجِع قلبها ويخدشه. ولذلك في تلك اللحظة اتخذت قرارها.
ألا تخيّب ظنه أبدًا.
‘أقسمتُ أن أُصلح هذه الدوقية اللعينة المليئة بالأشرار، وأن أنقذه من تلك القديسة المتوحشة، لأمنحه حياةً مختلفة تمامًا عن أحداث الأصل.’
لذلك لم يكن بوسعها التراجع الآن.
وبينما تنظر ليرييل إلى والديها الشريرين اللذين ما زالا يحدقان بها بريبة، شدّت عزمها من جديد.
وبعد لحظاتٍ من التفكير الهادئ في حلٍ واقعي، فتحت فمها وأعلنت،
“إذاً لنفعل هذا.”
“هم؟”
“سأريكما مثالًا، ثم قوما بالتقليد كما هو. وإذا لم تعتادا رغم ذلك……فحينها يمكن أن تعودا.”
كان يبدو وكأن نبرة يأسٍ خفيفة تتخلل كلامها، لكنها في الحقيقة لم تكن يائسةً إطلاقًا. قالت أنهما يستطيعان العودة، لكنها لم تقل ولو مرةً أنها ستتخلى عنهما.
فحتى لو لم يكن اللعب مع الأطفال مناسبًا لهما، فستجد لهما أعمال خير أخرى وتجعلهما يحاولان عشرات، بل مئات المرات.
وبينما لم يفهما ذلك الطموح الكامن، أسرع الزوجان الشريران يلوّحان برأسيهما وقد انطلت عليهما الحيلة الحلوة التي سمعاها.
“هذا الاقتراح ليس سيئًا.”
“حسن، لنفعل ذلك. أرينا أولًا.”
لم يكن يهمهما إن كانت ليرييل ستريهما مثالًا جيدًا أم لا. فهما يظنان أنه بمجرد هزّ رأسيهما نفيًا بعد التجربة، سيتمكنان من الهرب من هذا الجحيم.
ورغم أن نواياهما السيئة كانت واضحةً على وجهيهما، لم تتراجع ليرييل. و أخذتهما مباشرةً إلى خارج المعبد، نحو ساحة اللعب حيث تجمّع الأطفال.
وكان هناك وجهٌ مألوف، طفلةٌ اعتادت اللعب معها كثيرًا. فابتسمت ليرييل ابتسامةً مشرقة ونادت اسمها،
“سيمي!”
فالتفت الطفلة فوراً.
“آه! إنها الأخت الجميلة!”
كانت ضفائر شعرها البني الخشن تهتز كلما تحركت. و كانت ثيابها رديئة، و أكمامها مترهلة، وقد ازدادت اتساخًا من التراب.
وبدا من ابتسامتها أن أسنانها الأمامية قد سقطت مؤخرًا، إذ كانت المنطقة فارغةً بينما تضحك ببراءة.
قد يراه البعض مشهدًا لطيفًا، لكن بالنسبة لدوق تينيبريس وزوجته فقد بدا مجرد منظر بشع.
فهما كانا يوكلان حتى تربية ليرييل و هيفال إلى مربيات، لذا كانت مثل هذه الأشياء غريبةً تمامًا عنهما.
“ماذا كنتِ تفعلين؟”
“أبني قلعة! سأهديها للأميرة!”
وأشارت سيمي بحماسٍ إلى الرمل الذي ركضت منه.
كانت هناك كومةٌ صغيرة من الرمل على شكل مثلث. لم تكن تبدو قلعةً من أي زاوية، مجرد حفنة تراب، لكن ليرييل تعاملت معها كأنها ترى قصرًا ملكيًا حقيقيًا، واندفعت بحماس يساير خيال الطفلة.
“إنها قلعةٌ رائعة! الأميرة ستُعجب بها بالتأكيد!”
“صحيح! لكني لم أكملها بعد. كنتُ أبني السور الذي سيحميها من الوحوش.”
“يا إلهي، هل يمكنني مساعدتكِ قليلًا؟”
“حقًا؟! وااه!”
كان اقتراحها طبيعيًا كالماء الجاري. وبالطبع، فرحت سيمي وسلّمتها الحجر الذي كانت تحمله.
وحين جثت ليرييل على ركبتيها في الرمل، التصق الرمل بفستانها الحريري الفاخر. ففتح أنوين فمه من شدّة الصدمة، بينما أطلقت لوفرين صرخةً صامتة.
لكن ليرييل لم تطرف لها عين. المهم هو أن تلعب مع سيمي بالطريقة التي تريدها، ولا شيء غير ذلك.
وبعد مرور نحو عشر دقائق، بدأ شيءٌ يشبه جدارًا حجريًا يحيط بالقلعة.
وتلألأت عينا سيمي حول القلعة الصغيرة كما تتلألأ الحصى المزينة حول الرمال.
“انتهى!”
لم يكن سوى ركام رملَ مزين، لكن سيمي قفزت من فرحتها مرارًا، ضاحكةً بمرحٍ وكأنها امتلكت العالم.
وانعكست على وجه ليرييل ابتسامةٌ مشابهة، وهي تراقبها بسعادة.
__________________________
ظنكم بيتأثرون من ضحك ليرييل؟ مدري بس وين افكار ابوها الي يحسبها للحين تخطط على فيريك😭
التعليقات لهذا الفصل " 64"