“أ، أعذرني!!!”
صرخ المساعد أخيرًا بصوتٍ عالٍ وهو يندفع خارج مكتب الاستقبال ليجلب نائب الكاهن الأعلى.
كان الوضع صعبًا حتى مع شخصٍ يقظ وسريع الحركة، فكيف به الآن مضطرًا لتجاوز الأزمة مع أحمقٍ كهذا؟
زفر الكاهن المسؤول مراتٍ عديدة حتى أخذ رأسه يخفق ألمًا، لكن لم يتغير شيء. بل كان الخوف الغريزي يتضخم في داخله كل لحظة.
وفي النهاية، لم يقوَ على قمع شكوكه المتزايدة، فركع أمام التمثال القائم بجانب مكتب الاستقبال. وبصوتٍ أشدّ تضرعاً من أي وقت مضى، رفع أمنياته.
“يا لوناتريا، الرحمة….”
وكانت يداه ترتجفان، لكنه أحكم قبضتهما معًا بقوة.
“نتضرع أن نحظى بالحماية تحت المعبد.”
ابتلع ريقه قليلًا، ثم همس بالجملة الأخيرة.
“أرجوك.”
وبعدها خيّم صمتٌ ثقيل داخل مكتب الاستقبال.
فتح الكاهن عينيه بهدوءٍ ونظر نحو التمثال أمامه. و كان التمثال يبادله ابتسامةً كما يفعل دائمًا.
مجرد النظر إلى تلك الابتسامة كان يمنحه عادةً راحة كبيرة……لكن اليوم لم تهدأ نفسه بسهولة. بل زاد الانزعاج داخله حتى شعر برغبةٍ مجنونة في إمساك بالتمثال من ياقة ثيابه وسؤاله لماذا تحدث لهم مثل هذه المشكلة.
“هاه……”
لكن ذلك، بالطبع، كان مستحيلًا. فتنهد الكاهن—مرةً لا يعرف عددها—ثم وقف أخيرًا. كان عليه أن يخرج بحثًا عن مساعده الذي لم يعد منذ دقائق.
“لا بد أنه تاه مجددًا. هذا يثير الجنون حقًا. كيف يضيع كاهنٌ في المعبد؟!”
تمتم بانزعاجٍ وهو يشق طريقه نحو المبنى الرئيسي. وصوت خطواته الرنان سرعان ما تلاشى في الممر.
“…….”
وبعد لحظاتٍ قليلة، خرجت من ظلّ الزاوية القاتمة هيئةٌ كانت مختبئةً هناك.
كانت عيناها الزرقاوان الشفافتان تلمعان بضوءٍ مخيف، وفمها يرتفع بانحناءة ملتوية.
كانت القديسة……أنيلا ميديا، و ضحكت بسخرية وهي لا تكاد تصدّق ما سمعت أذناها.
“تقول أنها ستقتحم المعبد الذي أنا فيه……ومع العائلة كلها؟”
“هل جننتِ حقًا يا ليرييل؟”
تمتمت أنيلا وهي تتخيل ليرييل أمامها.
فهي تنتظر منذ حملة التطوع السابقة اللحظة التي تهينها فيها وتدعس كرامتها، فإذا بها تأتي للتطوع—ومع العائلة بأكملها—بدل أن ترتعد خوفًا؟
لا يمكن لهذا أن يحدث إلا إذا كانت تحتقر أنيلا وتستخف بها.
“ظننتُ أنكِ فهمتِ حجمك أخيرًا، وقد هدأتِ خلال الأسابيع الماضية……”
‘لكن اتضح أن العكس صحيح. لقد كانت تختفي مؤقتًا فقط لتجمع العدد الكافي لمن يساندها في إزعاجي.’
قبضت أنيلا يدها حتى غرزت أظافرها في راحة كفها، وقد اشتعلت الكرامة الجريحة في صدرها.
وكادت القوة المقدسة التي تتحرك بفعل هيجانها أن ترفع خصلات شعرها في الهواء……لكنها أخذت نفسًا عميقًا واستعادت رباطة جأشها بصعوبة.
‘اهدئي يا أنيلا. أنتِ القديسة. ولا شيء في هذا العالم يستحق أن تخافي منه.’
قديسة الضوء التي تطهّر الشر و تمحوه……تلك هي أنا، أنيلا ميديا.
حتى لو جاءت ليرييل محملةً بعربةٍ مليئة بالأشرار، فلا داعي للخوف ولو قليلًا.
‘بل هذا جيد……ممتازٌ حتى.’
واستعادت غرورها المألوف، وبدأت تفسر الموقف بما يلائم كبرياءها.
‘ليرييل الوقحة تجرؤ وتأتي إلى معقلي بنفسها؟’
جعلها هذا التفكير تشعر بتحسن واضح. فقهقهت بخفةٍ ورفعت رأسها.
كان وجهها الظاهري يبدو بريئًا، لكن تحت ذلك اللمعان اختبأت ملامح لا يمكن إنكار خبثها.
‘بما أن الوضع هكذا، سأجهّز فضيحةً مدوّية لها.’
وهكذا، خرجت أنيلا من الظل واتجهت نحو المخرج. متجهةً إلى لقاء يوليان. فهو يترصد أموال ليرييل وعائلة تينيبريس منذ مدة.
وبالتأكيد يعرف كل صغيرةٍ وكبيرة عن العائلة……وربما يعرف نقاط ضعفهم أيضًا.
‘هل أدمرهم جميعًا بكشف شرورهم؟ أو أحرّضهم ضد بعضهم لأجعل تلك الشريرة معزولةً وحدها؟ كلاهما جيد.’
وبالرغم من أن خروج أنيلا من المعبد محظورٌ تمامًا إلا في المناسبات الرسمية، إلا أن “قديستنا المشاغبة” لم تأبه بذلك أبدًا.
فمنذ سنوات، وهي تتنقّل داخل المعبد وخارجه لتعيش لقاءاتٍ سرية عديدة مع رجال كثر. فالعفة، وضبط النفس، والصبر……لا تمت بصلةٍ لأنيلا.
“آه، أنا متحمّسةٌ بالفعل.”
كان مشهد ليرييل الممدّدة عند قدميها، وولي العهد راكعًا يعتذر لها لأنه أساء معاملتها طوال الوقت، واضحًا في ذهن أنيلّا.
‘لا تقلق يا سموّك.’
قالت له بنعومةٍ في خيالها.
‘سأتجاوز عن كل إساءاتكَ السابقة……مقابل قبلةٍ على أطراف قدمي فحسب!’
***
“لا يمكن.”
“آه، لماذا!؟”
لكن خيالات أنيلّا الطفولية لم تستمر حتى ساعةً واحدة. فالسبب أن يوليان، الذي التقت به وروت له كل شيء، منعها بشدّة.
“إن دمّرتِ أسرة تينيبريس، فلن يبقى لي ما أستنزفه منهم!”
نظر إليها كما لو كانت طفلةً حمقاء، وهو يربت بقوةٍ على صدره ممتلئًا بالضيق.
“مالي! وقتي! منصبي! كلها ستتبخر!”
من طريقة كلامه فقط، بدت ممتلكات أسرة تينيبريس وكأنها ملكه حقًا.
تخيّل القصر الموحش بخزانته الفارغة وسقفه المائل وشبكات العنكبوت، فارتجف جسده وصاح يكمل،
“برأيكِ لماذا أساعدكِ أصلًا؟!”
“إذاً تريدني أن أبقى مكتوفة الأيدي وهم يقتحمون معقلي؟”
طبعًا، أنيلّا المتهوّرة لم تستمع لكلمةٍ واحدة.
كانت قد جاءت لتسمع نقطة ضعف تينيبريس، فإذا به لا يساندها ولا يقول سوى التذمّر. فاستدارت على الفور وخرجت من الغرفة دون أن تنتظر المزيد.
“كفى، سأتصرّف وحدي! لا تتدخل! بدلًا من أن تساعدني تجلس لتبكي وتشكّي!”
وبينما كانت تضحك بازدراء وتتجاوز العتبة لتغادر—
“جرّبي فقط أن تذهبي.”
—زمجر يوليان بسرعة.
كان يحتمل كبرياء هذه “القديسة” المتعجرفة عادةً، لكن هذه المرة لم يستطع. فلم يكن ليسمح لها أن تبدّد فرصة العمر بغرورها المتسرّع.
حتى هو كان يقاتل بكل ما يملك في هذه اللحظة.
“إذا خرجتِ الآن……فلن أتعاون معكِ بعد اليوم.”
تجمدت أنيلّا فورًا عند سماع هذا التهديد الصاعق. و سرت نسمةٌ باردة من العرق على ظهرها.
“مـ-من قال إني أحتاجكَ أصلاً؟”
حاولت الرد بثبات، لكنها لم تستطع إخفاء الارتجاف الخفيف في صوتها.
وعندما لاحظه يوليان، ابتسم ببطء، ثم أخذ يعدد أمامها الأسباب التي تجعلها مضطرةً للقلق،
“حقًا؟ وأين ستجدين المكان الذي تلهين فيه مع الرجال؟ والمال؟ ومن كان يمسح خلفكِ كلما كدتِ تُكشفين كقديسة……من كان ذلك يا ترى؟”
نعم، كان يوليان يتولى تنظيف فوضى أنيلّا بالكامل.
والسبب الوحيد الذي جعل فتاةً جميلة تحب اللعب مثلها تتجول داخل المعبد وخارجه كما تشاء دون أن تُفتضح، هو مهارة يوليان الفذة في التغطية عليها.
“سأجد طريقة! وهل ستنجو أنتَ بدون مساعدتي؟ أنا……قديسة!”
“وماذا في ذلك؟ هل القديسة تعطيني مالًا؟”
“أ-أنتَ!!!”
حتى أقوى سلاحٍ لدى آنيلّا—مكانتها كقديسة—لم ينفع معه.
الشيء الوحيد القادر على تحريك هذا الرجل هو المال……أو من يملك المال. احتقارٌ يفوق احتقار النقود المتسخة في قارعة الطريق—هكذا تعامل معها.
ولم تستطع أنيلّا احتمال ذلك. فانفجرت هالةٌ مشؤومة فوق رأسها.
“أتتجرأ عليّ إلى هذا الحد لأني أترككَ وشأنكَ في كل مرة؟”
كيف يجرؤ أمام قدّيسة؟!
وقد استشاطت غضبًا حتى كادت تطلق قواها المقدسة عليه. فسارع يوليان، وقد شعر بالخطر، إلى طرح حل وسط كان قد أعدّه مسبقًا لتهدئتها.
“اهدئي……هذه المرة، دعي الأمر لي.”
“ماذا؟”
________________________
ويش؟🌝 توك تقول لوء وفلوس (فلوس ليرييل) والحلال والعيال؟
المهم انيلا بزر
وشكرا
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 62"