على جوانب العربات التي توقفت في صفٍ واحد كانت جميعها تحمل شعار العائلة الملكية.
ومن العربات القتالية المربوطة بها اندفع الجنود، لينقسموا يمينًا ويسارًا ويفسحوا الطريق.
ومن بين الصفّ، تقدّم حصانٌ أسود يفوق غيره حجمًا بضعفين، يلمع وبره كأنه مُصقل. وعيناه، الحمراء كلُب الرمان الطازج، لم تحتج وقتًا طويلًا لتجد هدفها وسط الحشد وتقوده إليه.
“أه……أخيرًا.”
الهمسة المنخفضة تلك لم ينتبه إليها أحد. ولا حتى قائلها نفسه.
“كنتِ هنا إذاً.”
“سموك؟!”
والقادم على صهوة جواده لم يكن سوى فيريك تريان.
ظهوره المفاجئ أصاب الجميع بالذهول، بما فيهم ليرييل نفسها. وكان مجرد رؤية وجوههم المذعورة كافيًا ليجعل مجيئه إلى هنا يستحق العناء.
هبط فيريك من حصانه بحركةٍ سلسة، وعلى شفتيه خطٌ قاسٍ يشبه ابتسامةً مائلة.
“لم تتواصلي مطلقًا طوال الأسبوعين الماضيين……فهل كنتِ هنا تخططين لشيءٍ ما؟”
“أخطط……؟”
“لا تتصنّعي الجهل. لقد علمتُ أنكِ أرسلتِ رسالةً عاجلة للدوق تطلبين الدعم.”
هي لا تتظاهر بالجهل……هي حقًا تجهل الأمر. فشعرت ليرييل بالظلم.
لقد جاءت إلى أطراف المملكة لا لأنها تخطّط لمؤامرة، بل لأنها أرادت جرّ شقيقها الشرير إلى مستنقع الأعمال الخيرية.
لقد نبض قلبها حين سمعت أنه أتى لرؤيتها بعد أسبوعين فقط……لكنّ النبض لم يدم طويلًا.
فما إن رأته حتى انهالت عليها شكوكه بدل التحية، فعبست ونفخت وجنتيها استياءً.
“لا شك أنكِ ادّعيتِ طلب الدعم لتجمّعي الموارد والناس في مكانٍ واحد من أجل تنفيذ شيءٍ ما.”
‘كنت فقط أريد جعل شقيقي شخصًا صالحًا……’
“لكن لا فائدة. فقد جئتُ أنا بالدعم بدلًا عنهم.”
“ماذا……؟”
إلا أنّ ما فعله فيريك بعد ذلك لم يكن يشبه الاتهام بقدر ما بدا شيئًا آخر تمامًا.
بإشارته القصيرة، بدأ الجنود بتوزيع المواد الغذائية والسلع الأساسية على سكان الإقليم. وقائد الفرسان كان قد بدأ بالفعل بتقدير حجم الضرر في القرية وتوزيع الجنود على المناطق المختلفة.
وكان فيريك ينظر إلى المشهد كله برضى واضحَ قبل أن يتحدّث بنبرةٍ منتصرة وهو يحدّق في ليرييل من الأعلى.
“أظن هذا الدعم كافٍ. إن كان لديكِ ما تقولينه……فقولي.”
كانت الأمور تسير بعكس ما توقّعته ليرييل، فلم تستطع سوى أن ترمش بعينيها مرتين دون أن تنطق.
وقد حسب فيريك ارتباكها علامةً على انهيار خطتها المزعومة. لكن الحقيقة كانت أبعد مما تكون عن ذلك.
“هل……ساعدتَني؟”
“ماذا؟”
وتلعثم حين أدرك الحقيقة متأخرًا.
“لقد جئتَ بنفسكَ، حاملاً الطعام والرجال لدعمنا……”
ذهول ليرييل لم يكن لأن خطتها فشلت—بل لأنها تأثرت بكونه ساعدها فعلًا.
جمعت يديها أمام صدرها، وأملت رأسها قليلًا، وابتسمت بابتسامةً صافية جعلت عينيها الخضراوين تلينان بحنان.
“شكرًا……شكرًا جزيلًا.”
والآن……جاء دور ذهول فيريك.
رؤيتها بعد أسبوعين أمرٌ مربك بحد ذاته، فكيف إذا استقبلته بتلك الابتسامة المشرقة؟ كانت صدمة.
“لا……ليس هذا ما أعنيه……”
ابتعد بنظره وهو يتلعثم، لكن حتى هروبه ذاك لم ينقذه من تأثير ابتسامتها.
وزاد الطين بلة أن سكان القرية صاروا يحدّقون به بنظرات إعجاب، وكأنه جاء حقًا بنية مساعدة ليرييل.
كانت نتيجةً……لم يقصدها إطلاقًا.
“لا تخدعي نفسكِ! لقد أرسلت الدعم لأُفسد خطتكِ، وليس لأنوي مساعدتكِ!”
حاول فيريك بكل ما أوتي أن يكسر دفء الجو الذي صنعه دخوله……ولكن عبثًا.
فقد أُطبقت عليه جملة واحدة فقط،
“لو كنتَ تريد إرسال دعمٍ فحسب……لماذا جئتَ بنفسكَ؟”
“…….”
سؤالٌ أصاب الهدف بدقة قاتلة. فتحرّكت شفتاه صامتًا، عاجزًا عن الجواب.
لماذا جاء شخصيًا؟ لأنه……كان عليه أن يراها بعينيه، لا أكثر. تلك كانت الحقيقة. لكن لو قال ذلك بصراحةٍ فسيغرق في بئر سوء الفهم الذي يحيط به سلفًا.
أما ليرييل، فلم تعد تضغط عليه، بل اكتفت بالابتسام بصفاء……وكأنها فهمت كل شيء دون أن ينطق.
ورؤيتها هكذا جعلت قلبه يضطرب كموجٍ هائج.
“وتسمين هذا سؤالًا؟”
متسارعٌ على غير عادته، لم يتمالك فيريك نفسه ورفع صوته.
كان خطأً لم يكن ليرتكبه في الظروف العادية. لكن كلما ازداد تورطه مع ليرييل، ازداد تهاونه وانفلت زمام عقله، وراح يبحث عن أي ذريعة.
ليرييل جعلت فيريك شخصًا آخر……ولم يعد قادرًا على إنكار ذلك.
“أنتِ قلتِ لي أنكِ ستُطردين من العائلة خلال شهر، ثم تختفين أسبوعين كاملَين بلا أي رسالة…!”
وهنا— اختنق صوته فجأة. فقد كانت ليرييل قد رفعت يدها على عجل لتمنعه من إكمال كلامه.
وكانت يداها ما تزالان تعبقان برائحة الأعشاب الطازجة……لأنها كانت تقتلع الأعشاب حتى لحظات قليلة مضت.
“هل يمكن أن نتحدث قليلًا، يا صاحب السمو؟ على انفراد.”
كانت ما تزال تبتسم، غير أن ابتسامتها هذه كانت مختلفةً تمامًا عن التي ظهرت قبل لحظات.
فانحناءة شفتيها لم تعد تنضح بالعذوبة، بل ببرودٍ حادّ……ابتسامةٌ يمكنها أن تقتل رجلًا وهي لا تزال مبتسمة.
فابتلع فيريك ريقه لا إراديًا. لقد لمح فجأةً تلك “الشريرة” التي رآها في حفل الخطوبة.
“حـ……حسنًا….”
وما إن أومأ مستسلمًا لسطوتها، حتى سحبته ليرييل معها إلى أحد الأزقة الجانبية.
كانت خطواتها حاسمةً إلى حد الجرأة، فبدأ أهل القرية يتهامسون بصدمة. و راحوا ينظرون إلى بعضهم بعضًا، يروون ما شاهدوه وكأنهم رأوا شيئًا مستحيلًا.
“هل رأيتم؟ لقد وضعت يدها على فم ولي العهد ثم سحبته مباشرةً إلى الزقاق!”
“يا للرهبة……تخضعه كما تشاء فقط لأنه خطوبةٌ قسرية!”
“ظننتها تغيّرت حين جاءت لتساعدنا بنفسها……يبدو أنني كنت مخطئًا.”
وبين خيبة الأمل والدهشة التي تسري بينهم……كان هيفال وحده واقفًا مذهولًا كمن صُعق.
فهو وحده كان قريبًا بما يكفي ليسمع الحوار كاملًا. و لم يستطع انتزاع نظراته من الزقاق الذي اختفى فيه الاثنان.
‘الطرد……؟ ماذا يعني بذلك يا أختي؟!’
منذ ظهور فيريك المفاجئ، شعر هيفال بأن شقيقته تتصرف بغرابة.
ففي اللحظة التي رأته فيها……حدّقت به كأنها تنظر إلى شيءٍ مهيب، بل واحمرّت وجنتاها كفتاة خجلى يعتريها الوجل.
وكان هذا غريبًا للغاية. فهيفال يعلم أن خطبتها لم تكن بدافع الحب مطلقًا، بل كانت صفقةً قائمة على المصلحة وحدها.
كان فيريك بالنسبة لها مجرد قطعة شطرنج مفيدة……لا أكثر. ولكن ما رآه الآن يخالف كل ما عرفه عنها. وكأنها……حقًا تكن له شيئًا.
‘مستحيل. حتى لو تغيّرت أختي……فالحب؟ هذا غير ممكن!’
هز رأسه بعنف، مرتعبًا من مجرد الفكرة. و كانت عيناه ترتجفان من القلق.
كان يتمنى شيئًا واحدًا فقط: إن كانت شقيقته ستصبح طيبة……فلا بأس. ولكن أن تقع في حب فيريك؟ لا!
ابن العائلة الملكية، وغريمهم الأبدي……أسوأ شريكٍ يمكن تخيله. رجاءً، أي شيء إلا هذا!
‘أختي!!!’
وبينما كان ينوح في داخله دون أن يسمعه أحد……كانت ليرييل، التي سحبت فيريك معها، تضغط عليه بإلحاح لا يقل عن يأس هيفال.
***
“كيف تجرؤ على ذكر ذلك الوعد أمام الناس؟!”
دون أن تدرك أنها حاصرته حرفيًا بين جدارَي الزقاق، راحت تعترض عليه بصوتٍ ممتلئ بالتوبيخ.
“كان اتفاقًا بيننا فقط! لو سمع أحدهم بهذا فسنكون في ورطة كبرى!”
لم يستطع فيريك الرد……و لم يستطع حتى التفكير في رد.
فالمشكلة لم تكن في الكلمات— بل في المسافة. فالعجلة التي ساقتهما إلى هذا الزقاق جعلت المكان ضيقًا للغاية، لا يتسع حتى لوقوفهما جنبًا إلى جنب.
ولهذا كانت ليرييل تقف أمامه مباشرة……على بُعد شبرٍ واحد لا أكثر، تصب كلامها عليه دفعةً واحدة.
وفي كل مرة تتحرك فيها، كانت أطراف خصلات شعرها الطويل تلامس صدره ثم تنسدل……ولقاءٌ كهذا بعد أسبوعين؟ كان تطورًا سريعًا أكثر مما يتحمله قلبه.
_____________________________
زين انه يتحمل اصلاً ذاه قدهو معطيها قلبه وهو مايدري 😂
والحين هيفال بيسوي دراما وابوها للحين عايش في احلامه. فيريك استعجل وواقع بقوه وهي ماتدري من تلحق عليه😭
ايه صح وامها للحين مصدومه ماعاد تدري من الي حولينها😭
اهخ يابطني عشان كذا التصنيف سوء فهم كل واحد يفهم الي وده
شفتوا ذي فايدة انكم تشرحون كلش ولا تسكتون🙂↕️
بس تدرون وش؟ لو ليرييل تقول اني حسيت القديسة خطر فسويت خطة عشان اقلعها بعد كذا سوو الي تبون✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 58"