غضب هيفال بلغ قمته، فتقدم نحو الفتاة بخطواتٍ غاضبة. وكان أول ما يفكر به هو رمي قبضة الأعشاب التي بيده في وجهها، ثم يخبرها بنبرة مهيبة،
‘كفى تضيعًا للوقت. سأعود فورًا إلى قصر الدوق وأخبر والدي أن يطرد هذه القرية من أراضي عائلة تينيبريس! من الغد ستتجولون في الجبال حتى تلتهمكم الوحوش قطعةً قطعة!’
ستندم الفتاة والقرية كلها على جعلهم يقومون بأعمالٍ شاقة، لكن الأوان سيكون قد فات.
لقد حسم هيفال أمره. وكاد يرفع يده ليقذف الأعشاب عندما—
“لقد تعبتَ حقًا……ليـ، ليهوّن عليكَ هذا قليلًا.”
الفتاة سبقته و عرضت عليهما شيئًا باندفاع. فنجانان رديئان من الشاي. في داخلهما سائلٌ صافٍ يتماوج، يشبه ماءً متعكرًا بالطحلب.
لكن المزعج لم يكن لون السائل……بل أن البخار كان يتصاعد من الفناجين!
“هـ……هاه……؟”
من شدة الوقاحة، لم يستطع هيفال حتى الكلام.
كيف تهدي شايًا ساخنًا لشخصٍ يتصبب عرقًا من العمل تحت الشمس؟ كان رميها له بالحجارة صباحًا أفضل من هذه الإهانة.
‘حتى هذه الفتاة تستهزئ بي الآن……’
لم يعد يشعر بالغضب بقدر ما شعر بالحزن.
تساقطت الأعشاب بين أصابعه المرتخية. لم يُعامل بهذه الطريقة في حياته حقاً.
فأخذ الفنجان بهدوء. ولم يكن ينوي شربه بالطبع. بل كان مستعدًا لرشه في وجهها وهو يقول لها: “اشربيه أنتِ!”
وبعدها لن يضع قدمه ثانيةً في هذه الأرض الكريهة.
غير أن الشرارة الصغيرة التي كادت تشتعل داخله انطفأت فجأة. ورفع الفنجان……ثم رماه—
“أختي؟!”
لا، في الحقيقة حاول أن يرميه……لكن ليرييل كانت أسرع، و التقطت الفنجان وشربته دفعةً واحدة!
“لِمَ تشربين شيئًا ساخنًا هكذا مباشرة!!”
لم يدرك أنه كان على وشك رميه على وجهها. و اقترب بارتباكٍ ليتأكد من أنها بخير.
“مم؟”
لكن ليرييل كانت بخيرٍ تمامًا. بل نظرت إلى هيفال باستغراب.
شفاهها كانت محمرة، لا من الحروق، بل من أحمر الشفاه الخفيف. حتى النقطة الصغيرة بجانب شفتيها بقيت كما هي، فقط ابتلت قليلًا من الشاي.
“أه؟”
كان المشهد مستحيلًا. الشاي الذي أحضرته الفتاة كان يغلي.
لنظر إلى هيفال فنجانه بسرعة. و البخار لا يزال يتصاعد منه. لو شربه هكذا سيحرق لسانه بلا شك.
‘ما الذي يحدث……؟’
لم يفهم شيئًا، بينما ليرييل مالت برأسها وكأنها تتساءل عمّا فيه من غرابة.
و انساب شعرها الطويل المربوط لأجل أعمال الخدمة كستارةٍ من الياقوت البرتقالي على كتفها مع ميلان رأسها.
“ماذا تقصد بأنه ساخن؟”
“لكن……البخار ما زال يتصاعد منه!”
“طبعًا ما زال يتصاعد. لقد أعدته للتو. لكنه غيرُ حارٍ أبدًا.”
قالت ليرييل كلامًا بدا له لا منطق فيه. وتساءل هيفال بجدية إن كانت طيبة القلب قد جعلتها ساذجة.
لكن سرعان ما اتضح أن الجاهل هو نفسه.
“ألا تعرف حتى أين نحن نقوم بالخدمة؟”
قالت ليرييل ذلك بعدما رأت تعابير الدهشة على وجهه.
“هذا المكان هو الوحيد في مملكة تريان الذي يُنتج ‘غلاسيوس’.”
“غـ……غلاسيوس؟!”
وأخيرًا فهم هيفال. فنظر مذعورًا إلى الفنجان في يده.
غلاسيوس: الشاي الأسطوري المصنوع من أوراق الشجرة التي تُزرع في الشتاء.
كما تخبر الأسطورة، كلما غلي هذا الشاي في درجة حرارة أعلى……أصبح أبرد! لذلك فهو مطلوبٌ جدًا في الصيف، لكن زراعته معقدةٌ جدًا، وثمنه باهظٌ للغاية.
ولم يتخيل يومًا أن ينتج في مثل هذا المكان النائي.
لم يستطع الكلام من شدة الصدمة، بينما ارتشفت ليرييل رشفةً أخرى وهي تبتسم بهدوء.
“لهذا اخترت هذا المكان للتجربة. فأنتَ تحب تحضير الشاي.”
“متى— متى أحببتُ أنا مثل هذا العمل الوضيع……؟”
“أعرف كل شيء. منذ أن أعجبتكَ طريقة استخلاص الشاي، وأنت تُحضّر مجموعة الشاي كل يومٍ في الظهيرة.”
تذكر هيفال عندما طلبت منه ليرييل أول مرةٍ أن يقدم الشاي.
طعم الشاي يومها كان مذهلًا لدرجة يصعب تصديق أنه أُعد تحت التهديد الخفيف، حين زارها يوليان وفيريك تباعًا.
“قلتُ لكَ، لديكَ موهبةٌ حقيقية.”
ابتسمت ليرييل برفق وهي تستمتع بانتشار البرودة العطرة في فمها.
“هاه……”
و أطلقت زفيرًا باردًا. فشربه بعد العمل الشاق والتعرّق جعله ألذّ بكثير.
“لذلك ادخل واشربه قبل أن يفتر. لا بد أنها غلّته طويلًا ليصبح منعشًا لهذه الدرجة. من غير اللائق أن تهمل ما حضّرته لكَ.”
“آه……”
عادت نظرات هيفال، مع كلماتها تلك، لتقع على الفتاة مجددًا. و كانت الفتاة تحني رأسها بوجهَ محمّر بشدة، وتشابك أصابعها بتوتر.
قبل قليل فقط، لم يرَ فيها إلا فتاةً مزعجة تريد الإيقاع به. لكن عندما دقّق النظر، رأى قطرات صغيرة من العرق لم تستطع مسحها عن جبينها.
علامةٌ واضحة على أنها وقفت طويلًا أمام النار.
“…….”
بعد أن فهم الحقيقة كلها، لم يعرف هيفال ماذا يقول، واكتفى بالتحديق في الشاي بصمت.
انعكس وجهه على سطحه……مغطى بالتراب، وشعره الأمامي متلبّدٌ تمامًا بالعرق.
مظهرٌ بائس لم يره على نفسه قط، لكنه كان في الوقت نفسه دليلًا على أنه عمل بجد.
وبينما يحدق في هذا الوجه الغريب عنه، رفع الفنجان بحذر وتذوّق رشفةً صغيرة.
انتشر عطرٌ منعش في فمه. إحساسٌ بارد ينساب عبر جسده رغم غليان الشاي. وحتى تلك العذوبة الخفيفة التي تظهر عند البلع……كان أفضل من أي شاي فاخر شربه طوال حياته.
شعر بأن شيئًا ثقيلًا ودافئًا يملأ أعماق قلبه، لا مجرد لسانه. ولم يجد ما يقوله أمام هذا الشعور الجديد.
كانت أول مرة يشعر فيها بالرضا الحقيقي.
‘هل هذا ما يجعل شقيقتي تقوم بالأعمال الخيرية……؟’
وبينما فهم هذا القليل، راح هيفال يتحسس مقبض الفنجان، ثم نظر إلى ليرييل من طرف عينه.
وعلى ذلك النظر الخجول، لمعت لمحةٌ من الاحترام الذي كان يظن أنه فقده.
صحيحٌ أنه لم يقتنع تمامًا بعد بأسلوبها، لكنه بدأ يرغب في متابعة خطواتها من الآن فصاعدًا.
كيف ستكون عائلة تينيبريس التي تحاول شقيقته بناؤها؟ وجد نفسه يتساءل بصدقٍ لأول مرة.
‘حسنًا……يبدو أن هيفال تم استمالته بالكامل. لو استطعت “إصلاح” بقية أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر بهذه الطريقة……فقد أتمكن من النجاة من القديسة أيضًا!’
بالطبع، لم تكن نوايا ليرييل نقيةً تمامًا مثلما كان هيفال يظن.
ابتسمت ابتسامةً خفيفة، ابتسامةً تبدو كأن الشريرة هي من ترسمها، ثم شربت ما تبقى من الشاي دفعةً واحدة ونهضت بغتة.
“هيا، إن كنتم قد استرحتم كفاية، فلنعد لمواصلة العمل.”
“هاه؟ لقد شربتُ رشفةً واحدة فقط……”
“من ذا الذي يحتسي شايًا لا يلسع برودته أو حرارته بهذا البطء؟ اشربه دفعةً واحدة. لدينا الكثير لفعله يا أخي.”
احتج هيفال بحزنٍ من ضغط أخته، لكن من الطبيعي أن ذلك لم يجدِ شيئًا مع أخت لا تعرف الرحمة.
وفي اللحظة التي همّ فيها بتجرّع الشاي الفاخر الذي أراد تذوقه بهدوء—
“وصلت الإمدادات!”
ظهر صوت عجلات عربةٍ من مكان ما، وفجأة ازدحم مدخل القرية بالكامل.
التعليقات لهذا الفصل " 57"