وبالطبع ما إن دخلا المنزل حتى تلاشت كل الانفعالات كالسحر.
بمجرد أن أُغلق الباب، ناول أنوين عصاه للخادم وكأنه يرميها، وهو يزفر بازدراء.
“ماذا؟ لايريد أن يثقل على العائلة؟ هذه أسرة تينيبريس التي يغصّ بيتها بالثروة؟!”
كل تصرّفٍ من فيريك كان إهانةً لعائلة الدوق ذات التاريخ العريق.
رغم أن مستقبل العائلة المالكة مرهونٌ بهم، لم يبدُ على فيريك أدنى تردد، بل كان يعضّ كلما سنحت الفرصة كالفتى قليل الأدب، مما جعل كبرياء أنوين ينزف جرحًا غير متوقَّع.
لم يكن جرحًا قاتلًا، لكن كما هو معروف، الخدوش الصغيرة هي الأكثر إزعاجًا عندما تبقى على الجلد.
لذلك لم يهدأ غضبه بسهولة، ومع ذلك كانت لديه أسبابٌ تجعله يبتلع كبرياءه ويقبل بتراجعٍ بسيط أمام فيريك.
“……ما رأيكَ يا مالكوم؟”
سأل أنوين خادمه الذي كان يراقب كل ما حدث بصمت.
كان سؤالًا مفاجئًا محذوف التفاصيل، لكن مالكوم كان يعرف تمامًا ما الذي يعنيه سيده. ففهم نوايا السيد أهم خصال أي كبير خدم.
“لا شك في الأمر.”
قال مالكوم ذلك بصوتٍ واثق وهو يقدّم رأيه.
“يبدو أن ولي العهد واقعٌ في حب الآنسة حتى النخاع.”
“أرأيتَ؟ لستُ الوحيد الذي لاحظ ذلك، أليس كذلك؟”
“نعم، بالتأكيد.”
ارتخى وجه أنوين قليلًا بعد سماع التأكيد. وبابتسامة شريرة تليق برجلٍ مثله، رمق من نافذته ذلك الصهر المنتظر الواقف بجوار العربة.
‘صحيح. مهما بلغ من قوةٍ ومكانة، يبقى رجلًا واحدًا. وكيف له أن يقاوم الجاذبية الساحقة لابنتي؟’
وقد كان في الفترة الأخيرة يتساءل لِمَ لم يأتِ فيريك لرؤية ليرييل منذ عودته من مهام الخدمة الخارجية. فوفقًا لوصف ليرييل، كان يفترض أن يقع في غرامها حتى يفقد صوابه.
لكن بدلًا من ذلك، لم يرسل حتى طلب زيارة واحد، وكاد ذلك أن يهزّ ثقته بابنته. إلى أن جاء فيريك بنفسه إلى قصر الدوق، مسوقًا عربته بعنفٍ يكاد يحطمها.
‘كان يحاول المقاومة، لكن لكل شخصٍ حدوده. كلما حاول نسيانها، ازداد حضورها في ذهنه.’
عندها أدرك أنوين أن هذين الأسبوعين كانا اختبارًا سماويًا، وآخر قطعة لغزٍ لتحويل القلق إلى يقين.
وبالنظر إلى الأمر، لم يكن ذلك غريبًا. كيف لا وقد وقع في حب من كان يكرهها بشدة؟ تقبّل مشاعره لا بد أن يكون صعبًا.
‘لا بد أنه قضى الأسبوعين في فوضى، يصارع بين الحب والكره……يا له من مسكين.’
ثم بدأ أنوين في اختلاق عواطف شفقةَ تجاه فيريك دون إذن منه.
‘لكن لا داعي للقلق الآن. فشر ابنتي كفيلٌ بأن يحتويكَ ويغرقكَ بالكامل.’
كان تغير فيريك واضحًا للعين المجرّدة.
دخل فجأةً دون موعد، ثم عرض تقديم المساعدة من تلقاء نفسه بلا طلب. حتى ليكاد المرء يشك أنه نفس الشخص الذي كان يرمق خطيبته نظرةً قاتلة قبل شهرين فقط في حفل الخطوبة.
باختصار: فيريك واقعٌ في حب ليرييل حتى فقد عقله. حقيقةٌ مؤكدة.
وهكذا، حتى آخر آمال الملكية استسلمت لشر ابنة أنوين. ولم يبقَ سوى زفافهما العظيم والمستقبل الباهر الذي سيحكم فيه المملكة عبر السلطة التي ستؤول إليهم.
لذلك لم يجادل أنوين أكثر، وقَبِل عرض فيريك. فبذلك سيندفِع ذلك الأمير الأحمق لزيارة ابنته وهو غارقٌ في العاطفة ولا يدري شيئًا.
“إذًا، الآن وقت التراجع. نعم، لا شك في ذلك.”
وأثناء هزّ رأسه موافقًا على حسن قراره، رفع أنوين بصره نحو الأمام. و كانت أمامه في وسط بهو القصر تمثال العائلة، النسر ذو الرؤوس الثلاثة.
طائرٌ يجسد الشر والطمع والأنانية، ويقال أنه حارسٌ يلقّب بالحجيم. نُحت على هيئة إيرانيكس*.
*وحش اسطوري يطير يشبه النسر
وبما أنه رمز العائلة فقد وضعوه في أكثر مكان بارز داخل المنزل، لكن لسببٍ ما بدا هذا التمثال الذي يتجاوز المترين صغيرًا وتافهًا اليوم.
منقاره غير حاد، ومخالبه ليست بتلك القوة. رغم أنه مصنوعٌ من رخام مستورد لا يوجد في مملكة تريان.
نظر إليه أنوين بعدم رضا ثم نادى مالكوم مجددًا.
“مالكوم؟ كم يستغرق صنع تمثالٍ كهذا تقريبًا؟”
فكر مالكوم ثلاث ثوانٍ قبل أن يجيب.
“حسب الحجم والمواد والصانع، لكنه سيستغرق ستة أشهر على الأقل، وربما أكثر.”
“تسك.”
نقر أنوين بلسانه مستاءً ولوّح بيده.
‘كنت أنوي إزالة هذا التمثال البائس ووضع تمثالٍ لابنتي في يوم الزفاف……لكن يبدو أن الوقت لن يكفي.’
الكلام عن حارسٍ كالجحيم وما شابه يبدو جميلاً من الخارج، لكنه لم يعد يثير في أنوين أي شعور.
كان ما يرفع روح أنوين حقًّا هو الشرّ الخلّاق والفتّاك الذي تُظهره ليرييل. فليرييل هي الشريرة المدلّلة لدى الجحيم، وهي رائدةٌ تنشر شرّها الخاص.
‘آه……’
عاد الفرح يفيض من أعماق صدر أنوين مرة أخرى. وأغمض عينيه غير قادر على تحمل ذلك الوخز اللذيذ الذي يسري في مؤخرة عنقه، ثم تحدّث بصوتٍ منخفض،
“مالكوم.”
فانحنى مالكوم دون أن يسأل، متلقّيًا الأمر فورًا.
“نعم، سوف أبحث عن نحاتٍ يمكنه صنع تمثالٍ للآنسة، حتى لو كان ذلك بعد الزفاف.”
فابتسم أنوين راضيًا وهو يفتح عينيه، معجبًا بقدرة خادمه على فهم رغبته بالضبط.
ثم نظر ببرودٍ خالٍ من أي احترام إلى تمثال إيرانيكس، قبل أن يغادر المكان بلا تردد ويضيف،
“قل له أن الرخام متوفرٌ بقدر ما يشاء.”
***
‘هـ……هل انتهيتُ……؟’
تمتم هيفال لنفسه بصوتٍ مرتجف.
كان جبينه يغرق بالعرق، ووجهه مغطى بالتراب. وفي يده قبضةٌ كبيرة من الأعشاب البرّية، تلك التي أمضى فترة بعد الظهر كلها في اقتلاعها من الحقل.
هذا كان العمل المكلَّف به خلال هذه الخدمة: إزالة الأعشاب. حتى البستانيون عادةً ما يوظفون عمالًا للقيام بهذه المهمة، لكن لم يكن لديه أي خيار آخر.
فالبدائل كانت أعمالًا جنونية لا يقوى عليها: إصلاح إسطبل هاجمته الوحوش، نقل الصخور التي سقطت بعد انهيار أرضي، جمع جثث الوحوش التي قُتلت للتوّ…
وفي النهاية، لم يجد مفرًا سوى قبول مهمة الأعشاب وهو يكاد يبكي.
حينها فقط ربتت ليرييل على ظهره بكل بهجة وهي تقول، “أنا فخورةٌ بكَ يا أخي! تعرف كيف تساعد الآخرين!”
وعندها بدا له أن اقتلاع الأعشاب ليس عملًا تافهًا، بل مهمةً نبيلة تستحق الثناء.
لذلك أمضى ساعتين كاملتين يحني ظهره بين المزروعات ويقتلع الأعشاب بصمت……لكنه دون جدوى.
“كيف تقتلع الجزء العلوي فقط؟ يجب أن تنتزع الجذور كاملة! وإلا ستنمو مرةً أخرى!”
“هـ……ماذا؟!”
“ابدأ من جديد. ابدأ من هنا.”
وحين قالت ليرييل—التي جاءت لتفقّد عمله—ذلك الكلام القاصم، اسودّت الدنيا أمام عيني هيفال.
‘لا أستطيع فعل المزيد!’
لقد وصلت طاقته إلى نهايتها. ظهره يؤلمه، والعرق الذي سال في عينيه كان يلسعهما.
ولم يشعر بأي رضا أو إنجاز. فما معنى كل هذا العمل إن لم يجلب له أي فائدة؟
لقد بدأ الموضوع فقط لأن أخته التي يحترمها كثيرًا شجّعته على فعل الخير……وكما توقع، لم يكن الأمر ممتعًا أبدًا.
الخدمة العامة كانت……أسوأ شيء.
وبينما كان هيفال على وشك إعلان الإضراب ورمي الأعشاب التي في يده على الأرض، قاطعه صوتٌ صغيرٌ خجول.
“ذا……ذلك.….هل تسير الأمور على ما يرام؟”
إنها الفتاة التي رمت حجرًا على ليرييل و هيفال في الصباح حين وصلا إلى القرية.
كانت ما تزال محرجةً من فعلتها، تنظر إليهما بحذر، لكنها رغم ذلك لم تتراجع عن الوقوف هناك.
ذلك التصرف الوقح جعل هيفال يقطّب حاجبيه بانزعاجٍ شديد.
“هل تسير الأمور على ما يرام؟ أهكذا تسألين؟”
سألها بغضب، خصوصًا أنه للتو تلقّى حكمًا بأن كل العمل الذي أنجزه خلال الساعات الماضية بلا قيمة.
وبالطبع، بدا سؤالها وكأنه سخرية. فمن الطبيعي أن يكون المشهد مضحكًا……فقبل بضع ساعاتَ فقط كان يرتدي الحرير دون ذرة غبار، أما الآن فهو يتدحرج في التراب مثل أي عامل بسيط.
_________________________
احس معلش بس ترا فيه فرق هو نبيل طبيعي يكره يسوي ذا الشي لو انه بيزرع كان
وليرييل تحسبه بيحب الخير كذا؟ لا يا قلبو ذاه مايدري وش السالفه اصلاً😭
المهم أنوين يجنن هو وافكاره ياناس احلا ابو بس حدته الدنيا عاد 😭
التعليقات لهذا الفصل " 56"