من دون أن يدرك السائق أن عقله المشلول بالخوف كان ينسج تبريراتٍ لا تمت للمنطق بصلة، ناول الرسالة التي كان يحملها إلى فيريك طواعية.
تلقّاها فيريك بنظرةَ مرتابة، وبمجرد أن أمسك بها بسطها بسرعة ليتفحّص ما بداخلها.
يبدو أنّ الأمر كان عاجلًا فعلًا، فظاهر الرسالة يخلو من أي ختمٍ من تلك الأختام التي يستخدمها النبلاء عادة.
الخط كان مرتبًا قليلًا في بدايته، لكنه ما لبث أن ازداد اضطرابًا، وفي آخرها ازدحمت عدة جملٍ تحت خطٍ مستقيم كُشط على وجه السرعة.
لكن ما كان صادمًا أكثر من كل ذلك هو محتوى الرسالة نفسها.
‘ما هذا بحق……؟’
كان يظن، بما أن ليرييل أرادت إيصالها للدوق على وجه الأولوية، أنها لا بد تحمل خطةً ما لمهاجمة مكانٍ ما، أو مكيدة مباغِتة.
لكن الجمل التي أمامه لا تحمل سوى مطالب مُلحّة بتقديم دعم عاجل للإقليم.
قرأ فيريك الرسالة من أولها إلى آخرها ثلاث مرات، يشك في عينيه، لكن الحروف لم تتغيّر.
‘المحتوى عادي، بل يحمل نوايا طيبة خالصة.’
هل يُعقل أن تكون ليرييل هي التي أرسلت هذا؟
كان يصعب عليه تصديق ذلك، لكن كلما تذكّرها وهي تكدّ بصمتٍ خلال العمل التطوعي في الرحلة—تنقل دلاء الماء الواحدة تلو الأخرى—كانت شكوكه تتزعزع.
يدها الرقيقة التي كانت ترفع الماء من البئر رغم أن المنديل الذي لفته على جرحها قد احمرّ تمامًا من الدم. و شعرها البرتقالي اللامع ينحدر مع انحناءة ظهرها، وظهر يدها المبتلّ، لا يُعرف أهو ماءٌ أم عرق، كان يلمع بقدرٍ يجذب البصر.
ازدرت حنجرته بغير وعي وهو يستعيد تلك الصورة الحيّة التي انطبعت على شبكيته.
‘لا يمكن……هذا غير ممكن.’
لم يستطع فيريك تقبّل الأمر بسهولة، فشرع يفتت الكلمات كلمة كلمة بحثًا عن أي نبرةٍ خفية للشر.
وحين لم يجد شيئًا، بدأ يقتطع الحروف الأولى من الجمل واحدًا واحدًا، ظانًا أن شفرةً ما قد تكون مخبّأةً فيها.
“هم.”
قاطع تركيزه طرقةٌ منتظمة، طَك، طَك، طَك، تُدوّي على الأرضية. كان صوت عصًا تضرب بلاط الحجارة. ثم أعقبته نبرة جافة، كأنما خُلطت برملٍ ساخر.
“من أرى هنا؟ أليس صاحب السموّ، أمير تريان؟”
حينها فقط نزع فيريك نظره عن الرسالة التي كان يقرؤها ملتصقةً تقريبًا بأنفه. واتجهت عيناه الحمراوان المنزعجتان نحو رجل في منتصف العمر، تفوح منه هيئة النبلاء من أول نظرة.
كان شعره المدهون للخلف يكشف جبهته، ولحيته المرتّبة بعناية. والابتسامة المعلّقة على شفتيه التي لا تصل أبدًا إلى عينيه الحادّتين.
إنه أنوين تينيبريس، والد ليرييل، ودوق أسرة تينيبريس الحالي، وقد خرج بنفسه إلى مدخل قصر الدوق لاستقبال فيريك.
“ما الذي جاء بشخص كريمٍ مثلكَ إلى هنا؟ ولا أظنكَ تجهل أن ابنتنا خرجت اليوم لبعض الارتباطات.”
كان كلامه منمّقًا، لكن نبرته رتيبةٌ حدّ الجفاف، تحمل في طياتها تهكّمًا خفيفًا وإحساسًا واضحًا بأنه يراقب فيريك ويرصد خطواته.
جدول ليرييل لم يُعلن رسميًا لأي أحدٍ خارج القصر—باستثناء المستشار وموظفي مركز المشورة الذين قابلتهم اليوم.
ومع ذلك، أكمل أنوين حديثه كأن فيريك على علم مسبق بكل تحركاتها. بمعنى آخر، كان يشير ضمناً إلى أن مراقبة فيريك لأسرة تينيبريس السرّية مكشوفةٌ لديه تمامًا.
“ها!”
بالطبع أدرك فيريك ذلك الاستخفاف الوقح. و زمجر بصوتٍ خافت مفعم بالغضب.
“هل هناك سببٌ يمنعني من القدوم إلى هنا؟”
وانقبضت قبضته حول الرسالة حتى تجعدت بين أصابعه. وأخيرًا لاحظ أنوين الورقة التي يحملها فيريك، كما لمح السائق الذي كان يتصبب قلقًا وهو يراقب الطرفين.
عربتان، وخيلٌ ما زالت تلهث بقوة. وضيفٌ غير متوقع يحمل ورقةً فاخرة واحدة.
ضاقت نظرات أنوين قليلًا وهو يحدّق في فيريك ببرود.
“سمعت صوت العربات، لكن لم يدخل أحد، فخرجتُ لأرى. يبدو أن ضيفًا غير مرغوبٍ فيه اعترض الطريق.”
يا لانعدام الأدب.
كانت كلماته موجّهةٌ للسائق، لكنها في الحقيقة كانت تأديبًا وتنبيهاً لفيريك، وهو لم يكن غافلًا عنها.
ومع ذلك، لم يستطع الرد. فهو—شيئًا فشيئًا—مقيّدٌ بسلسلة اسمها الخطوبة مع أسرة تينيبريس، وإن تجرأ وتهوّر فسوف يدفع البلاد كلها إلى فوضى.
“وأظن أن تلك الرسالة كان ينبغي أن تصل إليّ أصلًا. هل تعيدها إليّ؟”
عندما مدّ أنوين يده بوقاحة، كما لو كان يطلب من كلبٍ أن يناوله الجريدة الصباحية، لم يجد فيريك بُدًّا من أن يقدّم له الرسالة بلا تردد.
انتزعها أنوين من يده بلمسةٍ راضية، ثم أخذ يمرّر عينيه بسرعة على مضمونها.
لكن لذّة الشعور بالسيادة لم تدم طويلًا. فما إن التقطت عيناه الجمل المكدّسة داخل الرسالة، حتى اضطرب اتزانه اضطراب سطح ماءٍ ضُرب بحجر.
التعليقات لهذا الفصل " 55"