آخر ما سمعه في خضمّ انشغاله الذي لم يترك له وقتًا لالتقاط أنفاسه، كان خبرًا يفيد بأن ليرييل ستذهب بنفسها إلى الأطراف لمساعدة سكان الإقطاعية.
لذلك، حاول منذ الأمس بكل الطرق الممكنة إنهاء عمله مبكرًا، لكن الاجتماعات والمناقشات طالت حتى انتهى به الأمر في هذا الوقت المتأخر.
‘لقد مضى أكثر من أسبوعين دون أن أراها. صحيحٌ أنني لم أنسها ولو لحظة، لكني لن أهدأ حتى أراها بنفسي.’
كانت هذه أول مرةٍ يراها منذ عودتها من التطوع الخارجي.
ورغم أن صورة ليرييل و وجهها المبتلّ آنذاك لا تزال منحوتةً في ذاكرته، لم تخفت رغبته في رؤيتها بعينيه ولو قليلًا. بل ازدادت يومًا بعد يوم حتى أثّرت على عمله.
وفي بعض الليالي، حين كانت صورتها تلوح أمام عينيه قبل أن ينام، كان الغضب يشتعل في صدره فيطلق بضع شتائم بلا وعي.
‘لابد أن هذا……هو مدى عطشي للانتقام، لا أكثر.’
مرّت أيامٌ وهو يكتفي بتعليل الأمر بهذا التبرير، لكن لم يعد يحتمل. و اليوم تحديدًا لم يكن قادرًا على تأجيل لقائها.
حتى لو عاد إلى غرفته الآن وجمع كل ما تراكم عليه من نوم، لما كان ذلك كافيًا ليعوض نقص الراحة.
قفز فيريك إلى العربة التي أُعدّت مسبقًا دون حتى أن يلتفت وراءه. فلا يمكنه النوم بينما قد تكون هي تحيك شيئًا ما في الخفاء.
“هيّا!”
ولم ينطق بالوجهة، لكن السائق ركل حصان العربة لإطلاق إشارة الانطلاق؛ فقد كان ينتظر خروج ولي العهد منذ ساعةٍ مع تعليماتٍ واضحة بالمكان الذي سيتوجه إليه.
“هِيييييع!”
وما إن هوت اللجامات على ظهور الخيل حتى انطلقت تصهل وتضرب الأرض بقوة.
العربة كانت تهتزّ بعنفٍ لا يمكن وصفه بالراحة مطلقًا، لكن فيريك فضّل هذا على أي تأخير. طالما سيصل إلى ليرييل أسرع، فلينقلب المقعد تحت قدميه، لن يشتكي.
دقّ قلبه بقوة، وارتسمت على شفتيه انحناءةٌ صغيرة لم يستطع منعها.
و لم يستطع إخفاء شوقه لرؤية ليرييل قريبًا.
كان شوقًا قويًا لا يمكن أن يظنه المرء مجرد رغبة انتقام، يجري في دمه ويرفع حرارة جسده كلّه.
فامتلأت العربة بحرارةَ لا تليق بيوم ربيعي لطيف. و لم يطل الأمر قبل أن يصبح هذا الشعور واضحًا حتى له.
لم يكن الوقت صيفًا بعد، ومع ذلك ارتفعت الحرارة لدرجة جعلت معطفه الثقيل الذي ارتداه على عجل بلا فائدة.
اضطر فيريك إلى فتح نافذة العربة. وما إن وضع يده المغطاة بالقفاز على حافة الزجاج ليدفعه للأعلى—
“!”
حتى عبرت عربةْ نبيلة داخل الطريق مع عربة البلاط الملكي التي كانت في طريقها للخروج من المدينة، وكادتا تتلامسان.
وفي تلك الومضة القصيرة، لمح فيريك الشعار المرسوم على جانب العربة النبيلة. نسر بثلاثة رؤوس، كل رأسٍ ينظر إلى اتجاه مختلف. شعار عائلة تينيبريس.
وإذا كانت تلك العربة قادمةً من الخارج إلى الداخل، فهذا يعني أن……
“تباً، أدر العربة فورًا!”
“مـ-ماذا……؟ ولكن……”
“اتبع تلك العربة حالًا! ماذا تنتظر؟ أدر رأس الخيل الآن!”
ارتبك السائق من هذا الإلحاح النادر من سيده، لكنه لا يستطيع العصيان. فأدار الخيل ببراعة مهدّئًا توترها، واتجه بالعربة في طريق العودة.
وبفضل سلالات الخيول الملكية، استعادوا سرعتهم المفقودة بسرعة كبيرة. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى ظهرت مؤخرة العربة الأخرى من جديدٍ في مدى الرؤية.
كانت النوافذ كلها محجوبةٌ بستائر مخملية، علامةٌ واضحة على أن أصحابها يقدّسون خصوصيتهم، لكن فيريك كان متيقنًا.
‘ليرييل هناك.’
ارتعشت زاوية شفتيه مجددًا بلا إرادةٍ منه. مجرد أنه سيرى وجهها بعد مدةٍ طويلة جعله متوترًا.
كان يكره مجرد رؤيتها مرةً في الشهر قديمًا……أما الآن؟ لم يكن كرهًا، بل……شيءٌ يجعل قلبه يضطرب.
‘ماذا يجب أن أقول أولًا عند لقائنا؟’
كان هناك الكثير ليسأله. وقد رتب كل شيءٍ في رأسه الليلة الماضية.
هل تسير خطة العزل كما يجب؟ سمعت أنهم يستمرون في التحضير لحفل الزفاف—من الأفضل ألا تلعبي بتصرفاتٍ غبية.
ألم تتعهدي لي أنكِ ستُعزلين خلال شهر لتسقطي خطبتنا كلها؟
لقد مرّ أكثر من أسبوعين الآن، أليس من المفترض أن يظهر أثرٌ واضح؟
كان سيواجهها نقطةً ينقطة ويضغط عليها بلا هوادة……لكن كلما اقتربت العربة، كلما خلى رأسه من أي شيء. وبقيت حقيقة واحدة فقط تصرخ بداخله.
بعد أسبوعين—سيرى ليرييل تينيبريس مجددًا. وسوى ذلك……لا شيء.
“لقد، لقد وصلنا….”
ثم ما إن عاد إلى وعيه حتى وجد نفسه أمام قصر دوقية تينيبريس. ولم ينتبه إلا بعدما نطق السائق الذي كان يراقب الأجواء بحذر بكلمةٍ خافتة، فانتفض فيريك واستعاد وعيه.
وبحركةٍ أكثر استعجالًا من طريقة صعوده، قفز من العربة فورًا. ومن دون أن يدرك فظاظته، اتجه مباشرةً إلى عربة تينيبريس التي كانت أمامه، وفتح بابها بعنف.
كان يريد رؤية ليرييل في أسرع لحظة ممكنة، ولو بثانية.
“لماذا؟”
لم يصل إليه جوابٌ لسؤاله الذي ألقاه على نفسه. و لم تُتح له الفرصة أصلًا. فالمشهد الذي انكشف أمام عينيه كان على النقيض تمامًا مما توقعه.
“إنها……فارغة؟”
لم يكن هناك أحدٌ في العربة منذ البداية.
لم يكن يتردد في المكان سوى صدى أنفاسه الخشنة وكلماته المفعمة بالاستغراب، تصطدم بالمقعد الضيق وتعود إليه مرارًا.
وفي اللحظة نفسها انطفأت الرغبة التي كانت تتوهج داخله، مثل شمعةٍ أطفأها هبوب الريح.
لم يكن فيريك يدرك ذلك، لكن خيبة الأمل كانت واضحةً تمامًا على ملامحه. فقد كان يظن أخيرًا أنه سيتمكن من رؤية ليرييل.
وما إن سقطت يده التي فتحت الباب بقوة حتى تدلَّت إلى الأسفل— حتى كان سائق عربة تينيبريس قد نزل متأخرًا من مقعد القيادة ليفهم ما يجري.
شعر للحظة أنّ شخصًا ما وصل بالكاد قبل أن يهتم حتى بالخيول، وأول ما فعله هو فتح الباب بعنف……وإذا بسمو ولي العهد يحدّق داخل عربةَ فارغة بملامح مخيفة لا تُفسَّر.
لم يعرف السائق إن كان هو الذي جُنّ أم وليّ العهد، فساوم نفسه ثم قرر أخيرًا أن يناديه بحذر شديد.
“ما، ما الأمر يا سموك؟ لقد ركضتَ وفتحت الباب فجأة، فظننت أنه حدثت مشكلة.”
كانت نبرته مهذبةً إلى حدٍّ ما، لكن ذلك لم يطفئ غضب فيريك في شيء.
ظنّ أنه حدثت مشكلة؟ الوضع برمّته كان المشكلة ذاتها!
فـليرييل ما تزال خارج مجال نظره، تفعل شيئًا يجهله تمامًا، وهو هنا يقف يتأمل باب عربة لا تحمل شيئًا سوى الفراغ، حتى يكاد يختنق ضيقًا.
لكن لو قال كل ما يدور في عقله لاعتُبر مجنونًا حتمًا. وهو لا يدري أصلًا أن السائق يظنه مجنونًا بالفعل إلى حدٍّ ما.
“سمعت أن ليرييل خرجت اليوم مع أخيها الأصغر. فأين ذهبا؟ ولماذا عادت العربة وحدها؟”
كانت غايته مجرد السؤال، لكن حدّة نبرته لم تكن كذلك. فقد كان صوته صلبًا كصوت محقّق يستجوب سجينًا، فارتعب السائق من فوره. ولوّح بالرسالة التي في يده كما لو كان يعلن براءته.
لم يكن منظر رجلٍ خمسيني كثّ اللحية يهتز خوفًا ويكاد يبكي منظرًا مريحًا، لكن فيريك تحمل ذلك بصبرٍ مذهل.
“هـ……هنالك سوء فهمٍ يا سموك!”
مع أن فيريك لم يتهمه بشيء، إلا أن السائق بدأ كلامه هكذا.
“السيد الصغير و الآنسة أمراني أن أسلّم هذه الرسالة للدوق فورًا، لذلك عدتُ على عجلٍ لا أكثر!”
“همم؟”
كان من المفترض ألا يُري أي وثيقةَ داخلية لعائلة الدوق لأي غريب. والسائق يعرف ذلك جيدًا، لكن اختار أن يخالف القاعدة بدل أن يخاطر برقبته.
وفي النهاية، لم يكن الأمر خرقًا فعليًا؛ فبعد بضعة أسابيع سيتزوج فيريك من ليرييل. وبالتالي يمكن اعتباره فردًا مستقبليًا من عائلة تينيبريس.
“لم أفتح الرسالة بنفسي، لكن يبدو أنها مسألةٌ عاجلة جدًا. لذا ربما أعادوا العربة وحدها لهذا السبب؟”
التعليقات لهذا الفصل " 54"