الرجل من سكان الإقليم الذي تلقّى الرسالة دون أن يفهم ما يجري كان ينظر بين ليرييل وهيفال بالتناوب.
كانت ليرييل تهدده بوجوب التحرك فورًا، بينما كان هيفال يحدّق فيه بنظرةٍ تقول أنه سيقتله إن تحرك.
“أ-أنا……أعني……”
بدأت يد الرجل الحاملة للرسالة تبتلّ بعرق بارد. و لم يعد يرى أمامه وريثَي عائلة تينيبريس، بل رأى حبلين ممدودين لإنقاذه.
كان عليه أن يختار أحدهما ليعبر هاويةً لا يرى قاعها.
أحد الحبلين كان فاسدًا، والآخر قويًا……لكن شكلهما من الخارج كان متطابقًا تمامًا.
“هذه آخر مرةٍ أحذركَ فيها.”
واليد الأخيرة التي دفعته نحو الهاوية كانت يد ليرييل.
“إن لم تتحرك فورًا فسوف تُدفَع ثمن تأخركَ غاليًا.”
حتى الوحوش الشرسة التي تظهر أحيانًا في هذه الأنحاء كانت تُعدّ آمنةً مقارنةً بليرييل.
أدرك الرجل أنه لم يعد يملك أي خيار. فردّ بصوتٍ يرتجف،
“س-سأبلّغ الرسالة……فورًا!”
ركض بعدها بكل ما يملك من قوةٍ متجهًا نحو مدخل القرية، وكأن حياته تعتمد على ذلك. و راقب هيفال ظهره الذي يبتعد وقد رمشت عيناه بذهول.
لقد بدا كأنه يحمل معه بيانًا عاجلًا يعلن سقوط عائلة تينيبريس، لا رسالةً طارئة. ولم يكن ذلك بعيدًا عن الحقيقة.
‘لقد انتهت عائلتنا.’
كان قد فكّر بالكلمة نفسها قبل دقيقةٍ واحدة، لكن معناها تغيّر هذه المرة تمامًا.
ثم تذكّر ما رآه من تصرفات والده قبل أيام، فأغمض عينيه بقوة.
وكأن مراهقة هذه “الشريرة” قد انتقلت لوالده أيضًا؛ فبعد أن كان يكره لطفها، أصبح فجأةً قبل أيام يؤيدها بشكلٍ غريب.
ولهذا، فعندما تصل الرسالة إلى سيد العائلة، أنوين تينيبريس، فإنه سيرسل فورًا عربةً مليئةً بالطعام الذي يكفي 30 إلى 40 أسرةٍ لأسبوعٍ كامل، إضافةً إلى المساعدين لإصلاح الأضرار، ومعهم قرارٌ بتخفيض الضرائب.
آه……ومع ذلك، سيرسل أيضًا حكمًا يقضي بنهاية مكانة عائلة تينيبريس.
‘سيسخرون منا. سيقولون أن عائلة تينيبريس لم تكن سوى من هذا المستوى الوضيع. و أنه لم يعد هناك سببٌ لاتباع أوامرنا أو احترامنا!’
لقد تربّى هيفال طوال حياته على كره فعل الخير.
التبرع تبذيرٌ للمال، والخدمة تضييعٌ للوقت، والمشاركة تفتح مخازنكَ للمتسولين. فمن الطبيعي بالنسبة له أن يظن أن الآخرين سيحتقرون عائلةً نبيلة أصبحت “طيبةً أكثر من اللازم”.
ولهذا شعر بالخزي والانكسار، فخفض رأسه وقبض شفتيه. وعند حافة نظره، رأى ظلًا طويلًا……ظل الشخص الذي تسبّب بكل شيء: ليرييل.
‘كل هذا بسببكِ يا أختي!’
في تلك اللحظة بلغ غضبه حدّه الأقصى. لم تعد هي أخته الموقّرة، بل مجرد حمقاء أوصلت العائلة إلى الهاوية.
الحقد الكاسح جعلَه ينسى حتى رهبة الاحترام القديمة. فقبل أن يكون شقيقها، كان هيفال “أحد أشرار عائلة تينيبريس”، وقد عقد العزم على مساءلتها عمّا فعلته.
‘كل ما يهمكِ هو أن تظهري بمظهر الجميلة الخيّرة لتلقي المديح! أما ما يحدث لباقي العائلة بعدها، فليس من شأنكِ……أليس كذلك؟!’
وإلا كيف يمكن لإنسانٍ أن يبذر فعل الخير بهذه الطريقة العمياء؟
قبض قبضته بقوةَ وقد امتلأت باليقين والحنق. وكان مستعدًا لقطع علاقته بها تبعًا لإجابتها — فقد تراكم الكثير في قلبه.
فالمراهقة التي تأتي في العشرين لا تُخيف بقدر مراهقة طفلٍ في الثالثة عشرة غاضب.
وما إن رفع هيفال رأسه ليواجهها حتى……
“……هاه؟”
رأى ليرييل واقفةً بكل شموخ، دون أي خضوعٍ أو خوف. ذراعاها معقودتان، و رأسها مرفوع، ونظراتها تتطل على الجميع بثباتٍ مطلق.
عينان تقولان: “أنا لم أفعل أي شيءٍ خاطئ.” تصميم لا يهتزّ رغم الهمسات والنظرات من حولها.
كانت تشبه صورتها القديمة حين كانت ترتكب الشرور وتفعلها بفخر……لكن هذه المرة كانت أكثر إشراقًا.
لقد كان اختلافها عنه واضحًا كالنهار؛ فبينما خفض هو رأسه خجلًا من فعل الخير……هي وقفت بشموخ.
انذهل هيفال من الوقفة النبيلة التي لم يتوقعها، ونسِيَ حتى ما أراد أن يلومها عليه. بينما التفتت إليه ليرييل ونظرت إليه ببرودَ ثابت.
“هل لديكَ مشكلةٌ ما يا هيفال؟”
كان صوتها الحازم يجعل هيفال يرتجف وتنتابه قشعريرة، ومع ذلك كان في الوقت نفسه لطيفًا وحنونًا.
وبدفءٍ بدا وكأنه يربّت عليه دون أن يدري، سأل هيفال من غير قصد،
“ألا تشعرين……بالخجل يا أختي؟ ألا تخافين؟ إذا أسرفتِ في العطاء هكذا، سيسخر الناس من عائلة تينيبريس ويستصغرونها.”
وللوهلة الأولى بدا وكأنه يواجهها بالأسئلة كما نوى، لكن الحقيقة كانت مختلفة.
فهو لم يفعل سوى أن يسأل بدافع الفضول الصادق؛ فكيف لشريرةٍ شهيرة أن تعود فجأةً كمن عاد صالحًا، بل وتبدو أقوى بكثيرٍ مما كانت عليه؟
“ولماذا أشعر بالخجل؟ لم أفعل أي شيءٍ يستحق أن أخجل منه.”
“لقد ساعدتِ الناس، أليس كذلك؟ ألم يقل والدي مرارًا أن الخدمة مضيعةٌ للوقت؟”
“وما المشكلة في أن أستخدم وقتي في ما أريده أنا؟ بل إن قدرتي على مساعدة الآخرين دليلٌ على أن لدي فائضًا من الوقت.”
أمام جوابٍ لم يحمل أدنى تردد، فقد هيفال القدرة على الكلام للحظة.
انتشر في ذهنه صدى ضربة مطرقةٍ هوت على مؤخرة رأسه—وجهة نظرٍ لم تخطر له يومًا. وتلعثم قبل أن ينهال عليها بالأسئلة،
وإن كان ذلك أشبه بمحاولةٍ يائسة للتمسك بقيمه القديمة، إلا أنّ استقامة ليرييل لم تهتز قيد أنملة.
“وماذا عن التبرعات؟ أليس هذا رميًا لأموال العائلة التي جُمعت بعرق الجبين على الأرض؟”
“وهل ستنهار العائلة إن تبرعنا؟ لدينا ما يكفي لثلاثة أجيالٍ متتالية ليعيشوا بارتياح، وهذا يعني أن بإمكاننا إعطاء غيرنا.”
“هاه……لكن لو أعطينا بلا حساب، فقد يتجمع حولنا المتسولون طمعًا في الفتات……”
“من الأساس، عائلتنا محاطةٌ بالذين يقتربون لأجل المال. ومن ينتمي إلى عائلة تينيبريس يجب أن يعرف كيف يميزهم ويقصيهم. كيف تبدأ بالقلق قبل الفعل؟”
دَينغ. دَينغ. دَينغ. كانت الصدمات تتوالى.
وبينما كان هيفال شاردًا، وجّهت إليه ليرييل الضربة القاضية ببرودٍ خفيف.
“فعل الخير ليس عيبًا. بل الجاهل الوقح هو من يسخر منه.”
ولو كان هذا تدريبًا بالسيوف، لكان هيفال قد أسقط سيفه واستسلم في هذه اللحظة. هكذا كانت قوة كلامها ساحقة.
“فعل الخير……ليس عيبًا؟”
كان ما اكتشفه حديثًا صعبًا على تقبله، لكنه في الوقت نفسه بديهي. فمساعدة الآخرين أمرٌ يمكن للجميع فعله، لكنه أسهل بكثيرٍ لمن يملك السعة.
وكما قالت، فإن عائلة تينيبريس لن يتأثر مالها قيد أنملة حتى لو دفعت راتب شهر كامل لجميع سكان الإقطاعية مقدمًا.
فهل كان من العار حقًا أن يوزعوا ثروةً راكدة لم تتحرك قط، غير أنهم اعتادوا تكديسها فقط؟
أصبح هيفال أكثر تيهًا؛ بل بدأ يظن أن تصرفات شقيقته باتت تبدو أروع مما كانت عليه سابقًا.
“توقف عن السرحان ولنذهب. لم نبدأ التطوّع أصلاً.”
ربّتت ليرييل على كتفه وتقدمت إلى الأمام. خطواتها لم تحمل أدنى تردد، وابتسامتها كانت صافيةً بلا قيود.
بدت هي نفسها أكثر سطوعًا من خصلات شعرها البرتقالي المتلألئة تحت الشمس.
حدق هيفال طويلًا في ظهر شقيقته، ثم تبعها دون أن يشعر.
“أ-أجل، انتظريني يا أختي……!”
***
‘كان يجب أن أذهب معها……’
وفي الوقت نفسه، أنهى فيريك عمله في المكتب ونهض فجأةً وهو يلتقط معطفه على عجل.
ومن شدة استعجاله، سقطت أكوام الأوراق المرتبة وتبعثرت، لكنه لم يعرها أي اهتمام. فكل ما كان يفكر فيه هو أنه يجب أن يستعيد ما فاته……الآن، مهما كان الثمن.
وبالطبع لم يكن ذلك سوى خطيبته وعدوته الأزلية—ليرييل تينيبريس.
‘ليرييل……من يعرف ما الذي قد تفعله الآن؟ أشعر بعدم الارتياح منذ أن لم أرَها مؤخرًا. وإن كانت تخطط لشيءٍ في هذه الأثناء……’
فقد فيريك مؤخرًا القدرة حتى على تلقي التقارير حول تحركاتها، فضلاً عن لقائها. فالعمل المتراكم بقدر ما خصص من وقتٍ للتطوع الخارجي، لم يترك له ولو لحظةً واحدة.
وإجمالي ساعات نومه طوال الأسبوع لم يتجاوز عشر ساعات. وكان يدرك أنه لو خسر ثقة الشعب مرة أخرى، فقد ينتهي النظام الملكي بالفعل، ولن يستطيع ترك أي قرار يمر مرور الكرام.
_______________________
تـء يا فيريك فاتك مجد ليرييل قدام هيفال
اخيراً جابوا عمر هيفال مابغوا😭 بس صدق طلع توه صغير
التعليقات لهذا الفصل " 53"