قالت ليرييل الكلمات نفسها التي قالها هيفال، لكن وقعها كان أثقل بمرتين.
فأن تتحدث ليرييل إلى والدها يعني أن طلبها سيتحقق قريبًا في الواقع. فهي كانت وريثته ذات نفوذ لا يقل عن نفوذ سيد عائلة تينيبريس.
‘انتهى الأمر.’
في تلك اللحظة، فكّر هيفال وسكان الإقليم بالفكرة نفسها في آنٍ واحد.
هيفال قالها وهو يقصد الضربة الأخيرة التي ستُنهي المشكلة، أما السكان فقالوها بمعنى أن حياتهم بلغت نهايتها.
وكانت الفتاة التي أمسكت ليرييل بمعصمها تفكر بالطريقة نفسها.
‘لقد انتهيت.’
أخيرًا أدركت تلك الفتاة البائسة أنها أصبحت كحملٍ صغير يُقدَّم قربانًا. حملٌ صغير لم يعش سوى عام واحد تقريبًا، يُقدَّم لتهدئة غضب السيّد منذ الأزمنة القديمة.
والفارق الوحيد بين حالها وحال ذلك الحمل هو أن الحمل لم يُسئ استخدام لسانه قط.
‘آسفة يا أمي.’
حتى لو ندمت الآن فلن يتغير شيء.
أغمضت الفتاة عينيها وهي تبتلع في داخلها وصيتها الأخيرة. ومع ذلك فقد شعرت بسهولةٍ بالكم الهائل من اللعنات والاتهامات والغضب المصوَّب نحوها.
كانت قد خرجت فقط لأجل والديها الجائعين، لكنها وجدت نفسها وقد أصبحت مجرمةً كبيرة في نظر الجميع، بل حتى في نظر نفسها.
لكن شخصًا واحدًا فقط كان يُقيّم الفتاة بشكلٍ مختلف. إنها ليرييل تينيبريس.
“هيفال.”
“نعم! يا أختي!”
“في عربة الخيل يوجد أوراق مراسلةَ للاستعمال العاجل. هل يمكنكَ إحضارها؟”
‘كالعادة……يا لها من أختٍ عظيمة! على خلاف حماقتي الذي كنتُ سأبلغ أبي بعد العودة، ها هي تريد كتابة الرسالة وإرسالها فورًا!’
ركض هيفال نحو العربة دون أن يفهم نية ليرييل، وأحضر الأوراق من صندوق الأمتعة. وفي طريقه، أخذ أيضًا قلماً حبرًا من أحد سكان القرية من تلقاء نفسه رغم أنها لم تطلبه.
وعندما أدرك أنها ما زالت ممسكةٌ بمعصم الفتاة، وضع الأوراق على سطح مستوٍ قريب ليكتب عنها.
“تفضّلي يا أختي. سأكتب بدلًا منكِ.”
“شكرًا. اكتب أولاً أننا سنستغني عن عبارات التحية بسبب الاستعجال.”
كانا بحق ثنائيًا شريرًا يتفاهم دون كلمة.
ما إن أنهت ليرييل كلامها حتى بدأ القلم ينساب بخفةٍ على الورق. سَسَسَس- كتب هيفال بسرعة غير معتادةٍ وهو يترقب الجملة التالية.
وبينما لم تُخفف ليرييل قبضتها على الفتاة ولو قليلًا، تحدّثت بصوتٍ حازم،
“حالة الإقليم الذي جئت لخدمته في غاية الفوضى. السكان تحديدًا في وضعٍ خطير جدًا.”
“فوضى……وخطيرٌ جدًا……ثم؟”
“بصفتِي وريثة عائلة تينيبريس لا يمكنني التغاضي أكثر عن هذا الوضع. أرجو إرسال الدعم بأسرع وقت.”
“نرجو إرسال الدعم……”
“أرسلوا أولًا كميةً من الطعام تكفي لسد جوع سكان الإقليم. أظن أن ما يكفي بين 30 إلى 40 أسرة ليأكلوا جيدًا لمدة أسبوعٍ سيكون مناسبًا.”
“طعام……يكفيهم أسبوعًا……؟”
“ولا تنسوا إرسال الأيدي العاملة أيضًا. كيف سيُصلح سكان القرية وحدهم كل أضرار هذه الحقول الواسعة؟”
بدأت يد هيفال تبطؤ شيئًا فشيئًا، وكثرت علامات الاستفهام في ملامحه. وتحوّل خطه الأنيق إلى كتابة متعرّجة، لأنه كان ينظر إلى أخته بطرف عينه وهو يكتب.
“آه، وادفعوا أيضًا لتخفيض الضرائب. لا، لنقل إعفاؤهم تمامًا هذا الشهر. فهجوم الوحوش يُعدّ كارثةً طبيعية، فما الذي ستأخذونه منهم أكثر-؟”
“أختي؟!”
خشّة!
ارتسم خطٌ طويل في وسط الرسالة. ذلك لأن هيفال شدّ يده من شدّة الصدمة.
لكنه لم يعر الرسالة التالفة أي اهتمام. كانت عيناه الواسعتان تتجهان فقط نحو أخته التي كان يظنها قد عادت شريرةً كما كانت، ليرييل.
“ألم تكوني غاضبةً من تلك الفتاة؟”
“بلى، أنا غاضبة. ألا ترى؟”
نعم، كان واضحًا للعيان. ملامح ليرييل كانت أشد برودةَ من قمة شامتن الثلجية في الشمال حيث لا يذوب الثلج أبدًا. وهذا بالضبط ما جعل الأمر محيرًا. فتعابيرها لا تتوافق إطلاقًا مع محتوى الرسالة.
وبينما كان هيفال يرمش فقط دون فهم، أضافت ليرييل بملامح غاضبة وبنبرة متضايقة،
“لقد حاولوا التستر على كل شيء دون إرسال أي تقريرَ حتى وصل الأمر إلى هذا الحد! هل تعلم كم هذا يضايقني؟”
“……ماذا؟”
“انظر إلى هذا المعصم الهزيل! لا بد أنها قضت أيامًا وأيامًا بلا طعام حتى وصلت إلى هذا الحال! لماذا لم تُخبِروا أحدًا منا؟!”
وبينما تقول ذلك، راحت ليرييل تهز يد الفتاة التي كانت تمسكها وكأنها تعرضها أمام الجميع.
كان معصم الفتاة نحيلًا كغصنٍ يابس لم يحتمل برد الشتاء. و لقد كان غضب ليرييل موجّهًا نحو سكان الإقليم الذين رأوا الفتاة والأطفال ينهارون هكذا لكنهم ظلّوا صامتين.
كان غضبها مختلفًا تمامًا عن غضب هيفال الذي حاول، بدافع مزاجه السيئ، أن يدفع أهل القرية نحو الهاوية.
“لهذا السبب لا يمكنني التغاضي بعد الآن. سأجعل هذا القرية كلها تدفع ثمن صمتها وتجاهلها!”
من يسمع كلامها فقط سيظنها مثالًا شرّيرًا للنساء الفاتنات الشريرات. لكن هيفال لم يعد قادرًا على النظر إليها بإعجابٍ كما كان يفعل دائمًا.
توقفت يده التي لم تتوقف عن الكتابة، وسقط القلم الذي كان بالكاد معلقًا بين أصابعه وراح يتدحرج على الأرض. و ساد صمتٌ غريبٌ للحظة.
لا، لم يكن صمتًا كاملًا؛ فقد كانت أنفاس ليرييل الثقيلة، المليئة بالغضب، تقطع السكون بين حين وآخر.
“أنتِ!”
“نـ-نعم……؟”
التفتت ليرييل إلى الفتاة بعينين حادتين. فرفعت الفتاة رأسها بصدمة، وهي ما زالت ممسكةً بها دون أن تدري ماذا يحدث.
كانت عيناها المرتجفتان مليئتين بالخوف، لكن ليرييل لم تأبه لها. كل ما رأتْه هو الجلد الباهت الخالي من الحيوية، والجفون الغائرة التي تدل على أيامٍ طويلة من الجوع.
“متى كانت آخر مرة شبعتِ فيها أكلًا؟”
“أنا….أم..…”
تلعثمت الفتاة وهي تشعر بأنها مضطرةٌ لإعطاء إجابةً “صحيحة”. وما زالت نظرات القرويين مغروسةٌ فيها كالسكاكين.
“لا تحاولي اختلاق شيء. قولي الحقيقة.”
لكن كل تلك النظرات كانت، أمام هيبة ليرييل، مجرد سهامٍ مكسورة وريشٍ تالف.
كان غضبها باردًا لدرجة يصعب تصديق أنه مبنيٌ على نوايا طيبة. و تجمد عقل الفتاة كليًا، ولم تعد قادرةً على التفكير أو المراوغة، فقالت الحقيقة كما هي.
“ا……الشهر الماضي.”
“شهرٌ كامل؟ هل فقدتم عقولكم؟!”
الشهر ثلاثون يومًا، والثلاثون يومًا تعني 720 ساعة.
ضحكت ليرييل بسخريةٍ حين سمعت أنها لم تشبع طوال ذلك الزمن الطويل. و ازداد انكماش كتفي الفتاة. ورغم ذلك، بدأت عيناها تلمعان شيئًا فشيئًا.
كان الأمر مخيفًا……لكنه كان مؤثرًا أيضًا. لم تتوقع يومًا أن تتلقى هذا القدر من الغضب الممزوج بالقلق من شخصٍ كهذه المرأة.
‘لقد رميتُها بالحجارة.’
وبمعنى مختلف عن السابق، بدأت الدموع تتجمع في طرفي عينيها. و لم يشعر بجوهر مشاعر ليرييل الحقيقية إلا الفتاة التي كانت الأقرب إليها.
“عليّ أن أرسل الرسالة الآن. هيفال، أعطني الورقة.”
“لـ-لكن……”
“لن تعطيني؟”
كان معظم من حولها ما زال يراها امرأةً متسلطة غريبة الطباع. وبالنسبة لهيفال، بدا الأمر أوضح وأشدّ تناقضًا.
لقد كانت هذه أخته التي اشتاق إليها دومًا، أخت ذات ملامح قاسية……لكنها كانت غاضبةٌ الآن بطريقةٍ مختلفة تمامًا عن غضبها القديم.
لم يكن غضبًا مصدره الخداع أو الاحتقار، بل غضبًا خرج من قلبٍ مُثقل بالشفقة والشعور بالواجب الأخلاقي الذي أهمله الجميع.
ورغم أن خيبة أمله دفعت يده لشدّ الورقة وكأنها ترفض التخلي عنها، إلا أن غريزة الأخ داخله جعلته يُسلم الرسالة الناقصة إلى أخته دون مقاومة.
خطفَت ليرييل الورقة من يده ثم التقطت بنفسها القلم الذي تدحرج، وبدأت تكتب مجددًا.
كتبت بسرعة، متجاوزةً الخط الطويل الذي كان هيفال قد شطبه في منتصف الرسالة، ودوّنت المتطلبات نفسها التي ذكرتها قبل قليل.
ثم ألقتها تقريبًا نحو أحد سكان الإقليم الواقف بجانبها.
“أوصل هذا إلى السائق المنتظر عند مدخل القرية. أخبره أنه أمرٌ عاجل، وأن عليه إرسالها مباشرةً إلى والدي. وإن قلتَ له أن ليرييل تينيبريس هي من أمرت، فسوف يتحرك فورًا.”
__________________________
مسكين هيفال 😭 اقولك اورث العائلة انت ليرييل كذا ولا كذا بتزوج فيريك وتصير ملكة ولا؟
التعليقات لهذا الفصل " 52"