لم تكن الصرخة الحاقدة تتناسب أبدًا مع الصوت الرقيق الذي شقّ صفوف الحشود. فقد كانت طفلةً رثّة المظهر هي من رمت الحجر.
ويبدو أنها لا تملك حتى حذاءً، إذ كانت تتجول بقدميها العاريتين المتسختين، فيما الدموع تتجمّع على أطراف عينيها.
وقبل أن يتمكن الناس من إيقافها، رمت الحجر مرةً أخرى بكل قوتها نحوهم. فارتطم الحجر بالأرض وارتد ليصيب ساق ليرييل.
اتّسعت عينا هيفال ذهولًا. لم يسبق له يومًا أن تلقّى عداءً مباشرًا بهذا الشكل.
“بسببكم……أمي لم تأكل وجبةً كاملة منذ أيام! يقولون أنكم أخذتم ضعف المال عن الشهر الماضي!”
والسبب وراء فقرهم الشديد كان تجهيزات زفاف ليرييل. فباعتبارها الابنة البكر لأقوى دوقات مملكة تريان، كان لابد أن يكون زفاف ليرييل وفيريك الأكبر في تاريخ العائلة.
حتى الحفل وحده كان يفترض أن يمتد لأكثر من عشرة أيام. كما خُطط أن يكون كل الأثاث والمواد المستخدمة من أفضل الأنواع وأحدثها.
وطبعًا، جميع تلك التكاليف كانت تُجمع بالكامل من ضرائب سكان الإقليم.
وفوق ذلك، فإن ليرييل استخدمت أموال العائلة مؤخرًا لشراء مخبز “ريمنغتون” الفاخر، مما جعل الضرائب أكثر قسوة.
لهذا، كان سكان الأراضي التابعة لعائلة تينيبريس يعانون الويلات، خاصةً هذه القرية التي هاجمتها الوحوش مؤخرًا، فكان الضرر مضاعفًا.
وكما قالت الطفلة، فقد أصبح من الطبيعي أن يوجد في كل بيتٍ تقريبًا من لا يحصل حتى على وجبتين كاملتين في اليوم.
“أوه……يا إلهي، أنا آسفة……!”
“اتركيني يا أمي! لماذا تعتذرين لهم!!”
“إنها مجرد طفلةٍ لا تعرف شيئًا……كله بسبب تقصيري في تربيتها……أرجوكِ سامحينا، سامحينا.”
ومع ذلك، كان هناك سببٌ يجعل سكان الإقليم يدفعون المال بصمتٍ دون أي مقاومة. فلو أغضبوا عائلة تينيبريس، فلن يكون سقوط القرية كلها إلا مسألة وقت.
أسرعت أم الطفلة لاحتضانها وإيقافها، محاولةً تهدئة الموقف بأي وسيلة. لكن بعد أيامٍ بلا طعام، لم تكن لديها القوة الكافية لإسكات طفلتها التي كانت تصرخ وتقاوم.
“أتمنى أن تنهار عائلة تينيبريس كلها!!”
“ها……!”
وفي النهاية، أطلقت الطفلة الغاضبة كلماتٍ لا يجب أن تُقال أبدًا. فتجمّدت وجوه الحشود شحوبًا، وكادت الأم أن تفقد وعيها من شدة الرعب.
وفي الصمت المشؤوم الذي أعقب ذلك، لم يكن يُسمع سوى شهقات الطفلة، بينما راح الناس يدعون بأن تكون الشائعة التي لم يصدقوها……صحيحة.
“إنها……مجرد طفلة طائشة قالت كلامًا غاضبًا……أرجوكِ، سامحيها هذه المرة فقط……”
“تسامحكم؟”
لكن البطلة التي قيل أنها أصبحت طيبة هي ليرييل……وليس هيفال.
فأجاب بصوتٍ بارد، وتقدم بخطواتٍ حادة نحو الأم وابنتها، ليضيف بعنف،
“كيف نسامح من يهين سيده أمام عينيه؟”
“هـ……هذا….”
“لا تحاولي الاختباء خلف عذر الطفلة الجاهلة. من الواضح أنها بعمري تقريبًا.”
ورغم أن الطفلة كانت أكبر منه ببضع سنوات، إلا أنها بدت في عمره تقريبًا بسبب سوء التغذية الذي أبطأ نموها.
رأت الأم غضبه فارتجفت وخرّت على ركبتيها، ساجدة حتى لامست جبهتها الأرض.
كانت في عمرٍ قريب من عمر والدته، ورغم ارتباكها وخوفها، لم يرفّ لهيفال جفن. فهو أصلًا في مزاج سيء منذ بدء تجربة التطوع.
وكان هذا مناسبًا تمامًا. فهؤلاء – في نظره – لا يستحقون شفقةً ولا حتى معاملةً عادية.
فتذكّر كلمات والده التي طالما رددها أمامه، “واجب القوي وحقه أن يُعلّم من يجهل قدره ما هو قدره.”
“يبدو أن هذه القرية لم تعد ترغب في حماية عائلة تينيبريس.”
“لا، هذا ليس صحيحًا! لم نقصد ذلك أبدًا!”
“سأخبر والدي.”
ومع تلك الكلمات التي خرجت كتهديد صريح، دبّ الذعر بين الأهالي وانحنوا يتوسلون إليه بشبه بكاء.
“سنُجبر الطفلة على الاعتذار وسنحرص ألا يتكرر ذلك أبدًا! أرجوكَ……أعد التفكير……”
كان ذلك عقابًا قاسيًا جدًا مقارنةً مع مجرد كلمات غضب من طفلة.
فالقرية أصلًا تقع في أقصى الأطراف حيث تكثر الوحوش. وبدون حماية عائلة تينيبريس، سينهار الأمن تمامًا، وقد ينتهي بهم المطاف مطرودين إلى أراضٍ مهجورة بلا مالك.
وذلك بالنسبة لسكان الإقليم لا يختلف عن حكم بالإعدام.
قرارٌ مجنون يجعل مصائر الناس وحياتهم تتبدل بسبب كلماتٍ عابرة، لكن لم يجرؤ أحدٌ على الاعتراض، واكتفوا بالسجود والتوسل.
‘هكذا يجب أن يكون الأمر.’
راقب هيفال ذلك المشهد وشعر في أعماقه بامتلاءٍ من الرضا والفخر.
يا لها من صورة؛ راشدون يكبرونه بعشرات السنين يتوسلون إليه فقط ليُرضوه ويُسكّنوا غضبه. كان مشهدًا يذكّره من جديد بالمكانة التي نسيها لفترة طويلة، مكانة عائلة تينيبريس.
فالتفت هيفال نحو ليرييل بابتسامةٍ ممتلئة بالرضا.
“انظري إليهم، ما إن قلنا لهم بضع كلماتٍ حتى انحنوا بعدما كانوا ينظرون إلينا بامتعاضٍ عندما دخلنا القرية. أما زلتِ تريدين إظهار الرحمة لهم بعد هذا؟”
ما من شيءٍ يُجدي في حكم الناس مثل القوة والسلطة. كان هيفال يؤمن بهذا يقينًا، وكان على وشك المضي في قراره بثبات.
“هذا حقًا لا يُصدّق…….”
نطقت ليرييل، التي ظلت صامتةً حتى الآن، بجملةٍ قصيرة ثم تقدمت لتقف بجانب هيفال.
وحين رأى هيفال اختفاء الابتسامة من وجهها، ظنّ لوهلةٍ أنها غاضبةٌ منه. لكن نظراتها كانت موجّهةً إلى أهل القرية القابعين في ذعر وتوسل، وتحديدًا إلى تلك الفتاة سبب المشكلة.
عندها فقط أدرك هيفال أن ليرييل كانت غاضبةً منهم حقًا. يا لذلك الشعور الجارف من البهجة والتأثر. لقد كان على وشك البكاء.
‘لقد عدتِ يا أختي!’
تفتّحت ابتسامةٌ عريضة على وجه هيفال. لقد عاد إليه ذلك الوجه الذي لطالما افتقده.
كانت ليرييل تينيبريس على وشك استعادة هيبتها. لقد عادت الشريرة.
“حتى لو طُردتُ، فقط……رجاءً انقذي حياة ابنتي. سأتحمل المسؤولية كاملة. فقط أرجوكِ…….”
لم يكن هيفال وحده من لاحظ تغيّرها. فأهل القرية أطبقوا أفواههم دهشةً أمام هيبتها المفاجئة، وأما أمّ الطفلة فكانت متأكدةً بالفعل من أنها مطرودةٌ ولا مفر، فلم تجد سوى التوسّل بحياة ابنتها.
وحتى الطفلة التي كانت تبكي غيظًا قبل لحظاتٍ صمتت فجأة. فمهما كان الحزن شديدًا، لا يستطيع المرء البكاء أمام وحشٍ قد يلتهمه في أي لحظة.
كان صمتًا فطريًا منبثقًا من غريزة البقاء. وعندها فقط أدركت الصغيرة ثقل الكلمات التي تفوهت بها في لحظة غضب.
“س….سأ….سأموت…….”
من دون أن تجد وقتًا لمسح دموعها اليابسة، تشبثت الطفلة بملابس أمها بيدٍ مرتجفة شاحبة، في توسّل بلا كلماتٍ لإنقاذ حياتها.
لكن ليرييل لم تسمح بذلك.
وقبل أن يتمكن هيفال من قول شيءٍ بشأن تغير سلوك الطفلة، كانت ليرييل قد سبقت الجميع بالفعل.
“آآاك!”
خطفَت ليرييل معصم الطفلة التي كانت تحاول الاختباء خلف أمها وجرتها إلى الخارج. و لم تستطع الفتاة حتى المقاومة، وسُحبت للخارج بسهولة.
ولم يستطع أحدٌ حمايتها……حتى أمها نفسها لم تستطع.
تلاشت يد الأم المرتجفة في الهواء قبل أن تصل إليها، ثم هوت للأسفل بعدما أمسكها الآخرون ليمنعوها.
لقد اتفق الجميع بنظراتهم مسبقًا. قبل أن يثيروا غضب عائلة تينيبريس أكثر من ذلك، كان من الأفضل إنهاء الأمر بتقديم الطفلة وحدها كقربان.
“ما هذا الوضع المضحك……؟”
وكان قرارهم صائبًا. كانت ليرييل غاضبةً حقًا. ولم تكن تفكر في المسامحة.
جذبت معصم الفتاة نحوها و حدّقت بها بنظرةَ جافة، نظرةٌ تكفي لقتل شخص واحد لو كانت سلاحًا.
وبينما تفحصها بحدة لا تُحتمل، عضّت على أسنانها،
“لا، هذا غير مقبول. يجب أن أبلغ والدي فورًا.”
_______________________
واضح قصدها البنت نحيفه بس حركتها يوم سحبتها كأنها صدق معصبه ما الوم هيفال يستانس 😂
الحين بدل لايغمى على الام بيغمى على هيفال
الصدق حسبتها عشانها جابت هيفال معها بتخليه يستانس على اشياء يسوونها البزران الطبيعيين ويحب انها تغيرت بس ماتوقعت ذا الشي وضع ذا العائله يضحك احبهم😭
التعليقات لهذا الفصل " 51"