هيفال كان دائمًا يستمع لكلام أخته التي يكنّ لها الاحترام دون أي اعتراض.
كان فخورًا جدًا بأخته التي ترتكب الشرور بثقةٍ تامة، وكان يأمل أن تتولى قيادة عائلة تينيبريس يومًا ما. وكان يعتقد دائمًا أن هذا ما يُسمّى بفارق المستوى الحقيقي.
ولكن……أعمالٌ تطوّعية عائلية؟! لم يستطع هيفال تقبّل الواقع إطلاقًا. فعلى الرغم من أنه صار في الثالثة عشرة فقط، إلا أنه كان يفهم جيدًا ما يجري.
وبمجرّد أن تبدأ العائلة بالقيام بأعمال التطوّع، سيسخر الناس من عائلة تينيبريس، وستصبح مهزلةً تتوارثها الأجيال.
فصرخ وهو يهز رأسه بقوة وقد فزع تمامًا.
“لأُطرَد من العائلة أهون عليّ من الذهاب للتطوّع!”
“أنتَ حقًا……!”
ارتفع صوت أنوين الغاضب وهو يهمّ بتوبيخ ابنه الجاهل. وفي اللحظة التي همّ فيها بإظهار الهيبة التي تليق برئيس عائلة شريرة، أوقفته ليرييل.
“أبي، لحظةً واحدة.”
ابتسمت بلطف، ثم نهضت من مقعدها أثناء تناول الطعام وتقدّمت نحو هيفال.
كان هيفال يحدّق في طبقه غير الممسوس وهو يبرز شفتيه بتذمر. فشعرت ليرييل بالأسى تجاهه……وبشيء من الذنب أيضًا.
‘ما زال صغيرًا……وفجأة تغيّر كل شيء حوله بسرعةٍ كبيرة. لا بدّ أنه يشعر بارتباك شديد.’
فمن الطبيعي أن يصدمه أن أفراد عائلته الذين وثق بهم غيروا موقفهم 180 درجة في ليلة وضحاها.
اعترفت ليرييل أنها انشغلت بخططها لدرجة أنها لم تُعره ما يكفي من الاهتمام. فانحنت قليلًا لتكون على مستوى نظره، وابتسمت بخفة وتحدثت إليه بنبرة دافئة.
“ألا تريد القيام بالتطوّع العائلي يا هيفال؟”
كانت تسأله بصراحةٍ كي تستثنيه إذا كان لا يرغب. لكنها كانت قريبةً منه……قريبة أكثر من اللازم.
وحتى همسها كي لا تخيفه بدا وكأنه يهمس بتهديدٍ خفيف في أذنه.
“لـ……ليس أنني لا أريد……”
“إذًا؟”
“….…”
“هل تجرؤ……ألا توافق على خطتي؟” هكذا سمعها هيفال رغم أن هذا لم يكن قصدها. فارتجف جسده بلا إرادة. و أصبح تنفّسه متسارعًا، ثم نطق بكلمات مرتبكة بدافع غريزة النجاة.
“لم……لم أفعل شيئًا كهذا من قبل……وأبي قال دائمًا أن عائلة تينيبريس يجب أن تُخضِع الآخرين……”
وتواصل تذمّره المتردد. ورغم نبرة الاستسلام، إلا أن النتيجة كانت نفسها.
ومع ذلك، شعرت ليرييل بالامتنان. فلو أنه تذمر ورفض تمامًا دون سبب، لما كان لديها ما تقدمه.
أما الآن فبمجرد توضيحه أسبابه، تمكنت من إيجاد حلٍ وسط.
“إذاً……هل تريد تجربته أولًا؟ قبل التطوّع العائلي الحقيقي.”
“……نعم؟”
“سأطلب من صديقتي أن تجد لنا عملًا تطوّعيًا بسيطًا. ربما عندما تجربه بنفسكَ تكتشف أنه ليس سيئًا كما تظن، أليس كذلك؟”
كانت هذه خطةً بديلة لإقناعه برفق. لكن هيفال أساء الفهم.
اعتقد أنها آخر فرصة……وإن رفضها يعني أنه لن ينجو هذه المرة.
“أوه……”
تخيّل أنه سيُستبعد من كل فعاليات العائلة لاحقًا، أو في أسوأ الأحوال، قد تطرده ليرييل من العائلة فور صعودها لمنصب الزعامة.
وحين بدأت أفكاره السلبية بالدوَران بلا توقف، صار عقله يتشوّش تمامًا. وفي النهاية، لم يجد إلا أن يومئ برأسه بنبرةٍ باكية.
“……إذا كان هذا فقط، فسأجرب.”
وهكذا ذهب اليوم مع ليرييل لخوض تجربة التطوّع.
داخل العربة المتمايلة، كان ينظر من النافذة إلى المناظر التي أصبحت أكثر غرابةً كلما ابتعدوا. فزاد حزنه.
‘أنا الوريث الثامن عشر لعائلة تينيبريس……لماذا عليّ القيام بشيء كهذا؟’
كان يشعر بالظلم كلما فكر بالأمر، لكنه لم يكن ليغلب أخته أبدًا. فهذا قانونٌ لا يتغير……حتى وإن أصبحت أخته فجأةً طيبة!
“لقد وصلنا!”
وبعد عشرين دقيقة تقريبًا من انطلاق الرحلة، توقفت العربة التي كانت تسير بلا توقف.
فتح هيفال الباب عند سماع صوت السائق الجهوري، لكنه عبس على الفور بسبب الرائحة الكريهة التي ضربت أنفه.
“ما هذه الرائحة……؟”
كانت أسوأ رائحةٍ شمّها في حياته.
وعندما التفت يبحث عن مصدرها، رأى كومةً هائلة من السماد بجانب إسطبل نصف منهدم.
وبمجرد النظر إليها، كان يعرف أنها مصدر الرائحة. فقد كانت كومة الهراء المتعفّنة المتكدّسة كهرم صغير قادرةً على جعل أي شخص يشعر بالغثيان.
هيفال الذي نشأ مدللًا في عالمٍ جميل لم يعرف ما كان ذلك، لكن ليرييل التي تحمل معرفةً من حياتها السابقة أدركت هويته على الفور.
“يا إلهي، هل صنعوا سمادًا من روث الخيل؟”
سألت ليرييل أحد سكان الإقليم الذي خرج لاستقبالهم. كان الرجل يومئ بلا توقف وهو يشرح، وكأنه يعتبر مجرد الحديث مع أشخاصٍ مرموقين كهؤلاء أمرًا يفوق قدره.
“آ……نعم، نعم. كان من المفترض أن ننثره في الحقول، لكن الحقول دُمّرت فلم نتمكن من استخدامه بعد، لذا تراكم هنا……نعتذر على الرائحة الكريهة.”
“لا داعي للاعتذار على الإطلاق.”
“لكن……”
وحين أخذ الرجل يراقبهم بقلقٍ شديد، أوضحت ليرييل غرضها بنبرةٍ لطيفة لكنها حازمة.
“لقد جئنا اليوم من أجل التطوّع. فلا تقلق بشأن ذلك، فقط أرشدنا. سمعت أن الأضرار كانت خطيرة، صحيح؟”
حينها فقط رفع الرجل رأسه بحذر لينظر إلى ليرييل و هيفال. و كانت عينيه مليئتين بالريبة.
‘هل……هل ينوون فعلًا مساعدتنا……؟’
تم إبلاغه مسبقًا من قبل “الجناح الأبيض” بأن من سيأتي اليوم هم أفراد عائلة تينيبريس الذين لا يرون سكان الإقليم سوى أدواتٍ لتحصيل الضرائب.
لم يكن يتوقع منهم أي مساعدة. بل العكس تمامًا. كان يظن أنّ ليرييل جاءت بحجة “التطوّع” لمراقبة القرية والتفتيش عليها.
لذلك، رغم انشغالهم بإصلاح الأضرار، استعدوا لاستقبالهم أفضل ما يمكن، خوفًا من أن يُمسكوا عليهم أي خطأ فيضاعفوا ضرائب القرية مرتين أو ثلاثًا.
‘لكنها……لا تبدو كاذبة.’
ومع ذلك، حدثت معجزة. تفحّصها مرارًا، لكنه لم يجد أدنى شك.
بدت ليرييل عازمةً تمامًا على تقديم المساعدة. فقد رفعت أكمامها وطوت أطراف فستانها بدقة لتتحرك بسهولةٍ أكبر.
بل وكانت تبتسم لهم بلطفٍ يمنحهم الطمأنينة. لا شيء فيها كان مصطنعًا.
وبسبب هذا المشهد غير المتوقع، بدأت طبقات الشك المتراكمة في قلبه تتلاشى شيئًا فشيئًا.
‘إذاً……هل تلك الشائعات صحيحة؟’
ابتلع الرجل ريقه وهو يتذكر الجملة التي انتشرت بين الناس منذ شهر. شائعة تقول أن “الشريرة أصبحت طيبة”، وقد وصلت حتى إلى هذه البقعة النائية من الإقليم.
لا أحد صدّقها، لا هو ولا أي شخص في القرية. لكن الآن، وهو يواجه طيبتها مباشرة……
“مـ……من هذه الجهة.”
استعاد الرجل وعيه متأخرًا وبدأ يقود الأخوين. فقد قرر أن ينتظر حتى انتهاء يوم التطوّع ليحكم حقًا.
المكان الذي أخذهم إليه كان خلف القرية، حيث حُفرت المدرجات الزراعية على سفح الجبل.
وكان واضحًا من النظرة الأولى أن حالها مزرٍ.
ثلثاها تقريبًا كانا مخربين بالكامل، وقد بدا كأن شيئًا ما هاجمها بشراسةٍ وقلب تربتها رأسًا على عقب.
كان عددٌ كبير من القرويين يكدّون لإزالة الحجارة ونقل الأتربة، لكن العمل لم يكد يبدأ.
ولأن الوضع حرجٌ لدرجة أن “مخالب قطة” ستكون مفيدة، فهم بطبيعة الحال لا يريدون “أيادي النبلاء الأشرار” بينهم. و لم يكن هناك أحدٌ يرغب برؤية هؤلاء النبلاء هنا.
“انظروا هناك، لقد جاءوا حقًا.”
“هل جاؤوا للمراقبة؟ الأمر صعبٌ بما يكفي بالفعل……”
بدأت الهمسات تتعالى كيفما اتجهوا بمجرد وصول الأخوين النبيلين.
كان الجو العام مليئًا بالرفض تجاههم. وبالطبع، ازداد مزاج هيفال سوءًا.
‘هؤلاء الذين يعيشون بالكاد تحت حماية عائلة تينيبريس……ويتجرؤون……’
لم يعش يومًا في موقفٍ يحتاج فيه لفهم حال العامة، لذا بدا له اعتراضهم وكأنه تحدٍّ صريح لعائلة تينيبريس.
وبينما كانت كل تلك المشاعر السلبية تتراكم داخله، إذا بحجرٍ صغير يأتي من مكان ما ليسقط عند قدميهما، وكأن نار الغضب صُبّ عليها زيت.
________________________
اوك هنا ياويلها تسكت خير يرمون عليهم وهم توهم جايين؟ هيفال حتى شذنبه
التعليقات لهذا الفصل " 50"