كان ذلك أشبه برجاءٍ طفولي. مبالغٌ فيه لدرجة أنها لم تجد ما تقوله. فساد صمتٌ طويل وثقيل.
لم يستطع أحد—حتى أنوين نفسه—الرد ولو بكلمة على ذلك التصريح الجريء.
كان كلاماً مجنوناً إلى هذا الحد. فمجرد خروج عائلة تِينيبريس لأداء عملٍ تطوعي أمرٌ غير معقول، فكيف إن أرادت ليرييل، مركز هذه العائلة، دعوة أيتام إلى حفل ميلادها؟
كان الأمر غير واقعيٍ لدرجةٍ يصعب حتى الضحك منه.
و لم يمض وقتٌ طويل حتى تمتمت لوفرين بصوتٍ شارد لا روح فيه،
“مالكوم، اذهب وأحضر لي النبيذ.”
حينها فقط أدرك مالكوم أن الكأس قد تحطم وتناثر زجاجه على الأرض.
في العادة، بمجرد انكسار كأسٍ كان يجب إحضار آخر فوراً. لكن فظاعة ما اقترفته الصغيرة أفقدته تماماً القدرة على التفكير في التنظيف.
فانحنى مالكوم منخفضاً بشدة، معترفاً بخطئه.
“أعتذر. سأرسل فوراً من يحضر كأساً جديداً.”
وكان على وشك مناداة أحد الخدم عندما لوّحت لوفرين بيدها بلا تركيز، وعيناها لا تزالان شاردتين في الفراغ.
“لا.”
توقف مالكوم في مكانه، ورفع رأسه ببعض الحيرة نحو لوفرين.
وبدون أن تلتفت إليه،
“أحضر القنينة نفسها.”
رمش مالكوم عدة مراتٍ بدهشة.
كان من واجبه، بصفته كبير الخدم، أن يحذرها من شرب النبيذ مباشرةً من القنينة في هذا الوقت من الليل. لكن بدلاً من الاعتراض، أرسل خادماً بهدوءٍ إلى مخزن النبيذ.
خطوات الخادم تلاشت عبر الممر، ثم عاد الصمت الثقيل ليخيم على المكان.
وسط هذه الهاوية من اليأس، وحدها ليرييل كانت تبتسم بسعادةٍ كأنها أكثر من في القاعة براءةً وطمأنينة.
***
“فما الذي حدث بعد ذلك؟”
تك… تك…
كان صوت عقرب الساعة يملأ المكتب الهادئ.
سأل شخصٌ ما ليرييل التي كانت مستلقيةً على الأريكة وعيونها مغمضة. و تجعد ما بين حاجبيها قليلاً وكأنها تسترجع ما حدث، ثم أجابت بهدوء،
“في النهاية وافقوا. بشرط أن أتلقى جلسات استشارة.”
“ولهذا جئتِ إلى هنا.”
دَوَّن المستشار النفسي ملاحظته وهو يكتب الأجوبة في ملفها.
عندما تلقى طلباً من والديها لبدء الاستشارات لأنها “أصبحت طيبة”، كان يظن أن الغريب في القصة هم الوالدان.
لكن بعد ترتيب الأحداث……اتضح أن تصرفات ليرييل نفسها غريبةٌ حقاً. وكأنها أصبحت شخصاً آخر تماماً بين ليلةٍ وضحاها.
ورغم سنوات خبرته الطويلة، لم يسبق له مقابلة حالةٍ مثلها.
نقر بقلمِه على ذقنه مرتين وهو يفكر، ثم كتب سطراً إضافياً بحذر، احتمال وجود اضطراب تعدد الشخصيات.
دونغ… دونغ… دونغ…
رن جرس الساعة المعلقة، معلناً نهاية الجلسة. وبعد أن أغلق المستشار ملفه، فتحت ليرييل عينيها ونهضت لترتب ملابسها.
شعرها البرتقالي المتوهج انساب مع الحركة، يعكس أشعة الشمس القادمة من النافذة ويتلألأ. وعيناها الخضراوان نصف المغمضتين ظلّتا مظلمتين، لكن بعمقٍ يشبه غابةً عتيقة أكثر من كونه بروداً.
ثم ذلك الوجه الجميل الذي يبتسم بأدب كلما التقت عيناها بعينيه……لم يكن فيه أثر لحرف واحد من كلمة “شريرة”.
ملامحها حادةٌ بالفعل، وابتسامتها المرتفعة قد تُفهم أحياناً كالسخرية……ومع ذلك، فإن وجودها بالكامل لم تكن كذلك إطلاقاً.
هل هناك شيءٌ غير قابلٍ للوصف يحوِّل رعبها الفطري إلى نوع من الجاذبية؟
“هل هناك ما تود قوله قبل أن نُنهي الجلسة؟”
عندما عاد المستشار إلى وعيه، أدرك أنه كان يحدق فيها طويلاً. وحين التقت نظراتهما شعر بالحرج، فبادر بتغيير الموضوع بسرعة،
“لـ، لا. لا شيء. ماذا عن جدولكِ بعد الجلسة؟”
فهمت ليرييل أنه مرتبكٌ لكنها لم تُحرجه، ووافقت بلطفٍ على تبديل الحديث. وزادت مهارتها الاجتماعية إعجاباً بها.
“لدي موعدٌ مع أخي الصغير.”
“آه، تقضين وقتاً مع العائلة. هل ستذهبان لمشاهدة مسابقة المبارزة؟”
“لا.”
ابتسمت ليرييل ابتسامةً رقيقة مليئة بالتوقع.
“سنذهب لمساعدة سكان الإقليم الذين تعاني محاصيلهم بسبب هجمات الوحوش!”
كان صوتها متحمساً لدرجة أن المستشار ظن لوهلةَ أنها ذاهبةٌ لحضور عرضٍ مسرحي في الساحة المركزية.
“و……وحوش؟”
ولكن حين استعاد كلامها في ذهنه، تأكد أنه لم يسمع خطأ. لقد قالت “وحوش”—كلمةً لا تليق إطلاقاً بابنة دوق.
فابتسم المستشار بحرج، ثم التقط ملفها مجدداً.
يبدو أنها بحاجة إلى علاجٍ نفسي متخصص.
كان المستشار على وشك حشر سطرٍ إضافي في أسفل الصفحة التي امتلأت تماماً.
“نعم، أليس من المثير حقاً؟”
ثم أضافت ليرييل ذلك بابتسامةٍ واسعة مضيئة، ابتسامةٍ نقية وطفولية لدرجة تثير الدهشة.
حدق فيها المستشار وفمه مفتوح، حتى أنه لم ينتبه إلى أن قلمه قد سقط من يده. وكان هذا حال موظفة الاستقبال أيضاً، التي فتحت الباب لتفقدهما بعد انتهاء وقت الجلسة دون أن يغادرا.
“يا إلهي……”
تمتمت موظفة الاستقبال مغطيةً فمها بكفها دون وعي.
عندما جاءت ليرييل للمرة الأولى إلى المركز، كانت موظفة الاستقبال قد فتشت في سجلات البرقيات استعداداً لطلب فرقة الأمن……
لكن في الآونة الأخيرة، ما إن تنتهي من إعداد جدول الحجوزات الأسبوعي حتى تبادر للبحث عن اسم ليرييل أولاً.
هكذا كانت ليرييل……محبوبةً وطيبة للغاية.
أدبها كان مثالياً، وكانت تُلقي التحية على كل موظفٍ بعينين تلتقيان بعينيه بحرارة و وداعة في كل مرةٍ تدخل أو تغادر.
وأحياناً كانت تحضر بيديها المملوءتين بالحلويات لتوزعها عليهم، فيبدو حينها أن الشائعة حول “تحسن أخلاقها” لم تكن شائعةً بل حقيقةً كاملة.
‘كيف يمكن لمن هي بهذه الطيبة والجمال أن تكون شريرة؟!’
وفوق كل ذلك، كان قلب موظفة الاستقبال يرتجف بلا حول كقصبةٍ تضربها الرياح كلما رأت تلك الابتسامة النقية الخالية من أي شائبة.
ولذا كانت على يقين بأن الشائعات القديمة حول كون ليرييل تِينيبريس شريرة لم تكن سوى افتراء.
“إذاً، سأغادر الآن. أراكّ في الجلسة القادمة يا أستاذ.”
حتى تحيتها الأخيرة كانت مثالية.
انحنت بعمق، وكأن مسألةَ المكانة لا تعني لها شيئاً، ثم غادرت المركز. لكن المستشار وموظفة الاستقبال بقيا يحدّقان نحو الباب طويلاً بعد اختفائها. وكلاهما يحاول تهدئة وجوههما التي اشتعلت حمرة.
“لقد خرجتُ، هيفال. هل انتظرتَ طويلاً؟”
وهذا كان حال شقيقها الأصغر، هيفال تِينيبريس، أيضاً.
“….…”
“هيفال؟”
في الخارج، داخل العربة أمام المبنى، كان هيفال يجلس عابساً في انتظار انتهاء جلسة أخته. وما إن فُتح باب العربة حتى ضاق بعينيه من سطوع الشمس……أو بالأحرى من سطوع ليرييل التي كانت أكثر إشراقاً منها.
‘كيف يمكن أن تكون بهذا الجمال؟’
بصفته الابن الثاني في عائلة تِينيبريس العريقة، كان من المفترض أن يكره أخته التي بدأت فجأةً بالتصرف خارج حدود العائلة.
ومع ذلك، لم يستطع هيفال إبعاد نفسه عنها. بل وفي بعض الأحيان بدت له أقرب إليه مما كانت عليه في الماضي.
كانت تجلب لعائلة تِينيبريس كل أنواع العار……فكيف يعقل هذا؟
عندما تحدق فيه ليرييل مبتسمةً بينما نسي هو حتى أن يبادلها التحية، ربتت بخفة على كتفه بابتسامة فيها قليلٌ من المرارة.
“أما زلتَ مستاءً؟”
ارتعش هيفال للحظة، ثم صرف بصره بسرعة.
كان عليه أن يستعيد صوابه. مهما كانت ليرييل جميلة، لم يكن بوسعه—بوصفه الابن الوحيد—أن يسمح لنفسه بأن ينساق أكثر في مخططاتها.
شعر بالخطر يضغط عليه من كل جانب، وبلع ريقه مراتٍ متتالية.
لقد حاول خلال الأيام الأخيرة جاهداً مقاومة ليرييل التي أعلنت فجأة نيتها “قلب العائلة رأساً على عقب” عبر أعمال التطوع……لكن رؤيتها بهذا الجمال كانت تزعزع آخر ذرةٍ من فخره بكونه “الشرير” الوحيد المتبقي.
“أنا لستُ مثلكِ يا أختي!”
“هيفال تِينيبريس! كيف تجرؤ أن تخاطب أختكَ بهذا الشكل!؟”
حدث ذلك قبل أيام، في نهاية وجبة العشاء التي أعلنت فيها ليرييل بكل برودٍ رغبتها في قيام العائلة بأعمالٍ تطوعية.
رغم أنها حصلت على إذن أنوين، وحتى إذن لوفرين بشرط أن تخضع لعلاج نفسي……إلا أنها لم تستطع انتزاع موافقة هيفال بهذه السهولة.
“تطوع؟! كابن فخور من عائلة تِنيبريس، لا يمكنني القيام بأمر مخزٍ كهذا! حتى لو توسلتِ أنتِ ووالدينا!”
___________________________
اوه هيفال تكلم؟ شكله اجل كان مقموع من ليرييل الاصليه؟😂
بس ضحكت يوم راحت للدكتور النفسي 😭 ولا عليها قاعده تشرح له وكأن الغلط من اهلها😔
المهم مدري كيف صار وجه ليرييل الي في الغلاف ابتسامتها كأنها شمس؟ فيه شي غلط
التعليقات لهذا الفصل " 49"