لم يخطر ببال أنوين قط أن يتخلى عن هذه الابنة المذهلة.
بل على العكس، لم يكن يريد طردها أو حتى توبيخها، وإنما كان يرغب في أن يصرخ بكل فخرٍ في أرجاء المملكة ليُسمِع الجميع كم هي ماكرةٌ وشريرة إلى حدٍّ يثير الإعجاب.
‘اهدأ يا أنوين تينيبريس! أتريد أن تُفسد بخطأٍ واحد خطة ابنتكَ العظيمة؟’
عضّ على أسنانه، كاتمًا حماسته، لأنه أدرك أن ليرييل لم تفصح بعد عن نواياها الحقيقية. وإخفاؤها الهدف حتى عن عائلتها لا بد أن يكون جزءًا من خطتها المحكمة.
و إن تدخل الآن أو أظهر تأييده علنًا، فقد يُربك الخيوط الدقيقة التي نسجتها بنفسها.
“أتتباهين بأنكِ تلقيتِ مساعدةً من خطيبكِ المستقبلي؟ أهذا ما تظنين أنه أمرٌ تفخر به فتاةٌ من عائلة تينيبريس؟!”
كان عليه أن يتظاهر بالجهل، أن يلعب دور الأب الصارم الذي لا يفهم شيئًا.
يا له من عذابٍ أن يضطر إلى ذمّ ابنته بدلًا من مدحها! فشعر وكأن صدره يتمزق إلى آلاف القطع، لكنه تماسك.
“هذا لا يمكن السكوت عنه. ليرييل تينيبريس، أُضيف إليكِ عقوبةً جديدة: الإقامة الجبرية!”
صرخ بذلك وكأنه يبتلع جمرةً مشتعلة.
“اذهبي، ستبقين يوماً واحدًا في غرفتكِ لتتأملي ما فعلتِ.”
كانت نظرتها ثابتة، حادة، تشبه نظرة أفعى تتأهب للانقضاض على فريستها، حتى أن أنوين شهق بلا وعي.
‘يومٌ واحد؟ بعد كل ما حدث؟ بعد هروبي من المنزل وتطوعي في البعثة؟’
لكن ليرييل لم تكن تحمل أي نيةٍ سيئة. كانت فقط غير قادرةٍ على فهم سبب تهاون والدها.
كانت تتوقع على الأقل عقوبة الطرد، فإذا بها تُعاقب بالإقامة في غرفتها ليومٍ واحد! عقوبةٌ خفيفة لا تليق بفضيحةٍ كادت تُهين اسم تينيبريس بأكمله.
لكن في نظر أنوين، الذي كان يراها كشرٍّ متجسد، بدت تلك النظرة كتهديدٍ صريح.
‘حتى والدها لا ترحمه……إنها مستعدةٌ لسحق أي أحد يقف في طريقها، حتى أنا.’
لم يشعر أنوين بالخوف من أحدٍ طيلة حياته الطويلة كدوقٍ مرهوب الجانب، لكن ليرييل كانت تحمل هالةً مرعبة، توقظ في داخله إحساسًا بدائيًا بالخطر، إحساسًا ظن أنه نسيه منذ زمن.
ارتبك لدرجة أنه لم يلاحظ خصلات شعره الأمامية وقد تفرقت رغم ما استخدمه من كريمٍ لتثبيتها.
وسرعان ما حاول استعادة رباطة جأشه، فتنحنح محاولًا تلطيف الحكم،
“كـ، كح……لا بأس. فلنقل نصف يومٍ فقط. تأملي حتى موعد العشاء.”
ازدادت حيرة ليرييل مع كل لحظةٍ تمرّ. و لم تكن تفهم ما الذي يجري.
كانت متأكدةً أن هناك خطأً ما، لكنها لم تستطع تحديده. ومع ذلك، كان من الواضح لها أن هذه فرصةٌ لا يجب أن تضيعها.
فابتسمت بهدوء نحو والدها و تحدّثت بنبرةٍ لطيفة،
“حسنًا، كما تأمر. شكرًا على رأفتكَ، أبي.”
‘كدتُ أرتكب جريمةً في حق والدي، لكنني سأتغاضى عن ذلك هذه المرة. عليك أن تكون أكثر حذرًا مستقبلًا، يا أبي العزيز.’
سمع أنوين تلك الجملة غير المنطوقة في ذهنه، وارتجف من ابتسامتها التي بدت له كأنها سكينٌ مغروسٌ في صدره.
ثم استدار بسرعة ليخفي ارتباكه ومشى مبتعدًا بخطى متعثرة.
كان كتفاه يرتجفان قليلًا، لكن المسافة بينهما جعلت ليرييل لا تلاحظ ذلك. فاكتفت بتفسير الأمور بطريقتها الخاصة، مقتنعةً بخلاصٍ ساذج.
‘مهما كان الدوق شريرًا، فلا بد أنه يحب ابنته في النهاية. ربما بدوتُ له بائسةً بما يكفي ليرقّ قلبه.’
نظرت إلى فستانها الملطخ بالطين الجاف، وشعرها المنفلت، ووجهها الخالي من أي زينة، ثم أومأت وكأنها وجدت منطقًا في كل ما حدث.
‘هذا قد يكون مفيدًا في خطتي القادمة……’
ذلك القرار العابر سيترك أثرًا في المستقبل.
وبينما كانت تتبع والدها إلى داخل القصر، عقدت عزمها على تسريع خطة “إصلاح الأشرار” بثلاث مراحل كاملة.
ورغم أن غيابها لم يتجاوز يومين، بدا منزل الدوق وكأنه مكانٌ جديدٌ تمامًا.
الهواء البارد المعتاد صار دافئًا، ووجوه الخدم التي كانت دومًا متوترةً بدت أكثر راحةً وطمأنينة.
“مرحبًا بعودتكِ يا آنسة!”
قالت ذلك إيليا، تلك الخادمة التي كانت تبكي كلما التقت بعينيها، وهي الآن تبتسم بخجلٍ ودفء.
حينها فقط أدركت ليرييل أن التغير لم يكن في شعورها، بل في القصر نفسه.
الجوّ في الداخل حقًا قد تبدّل. فابتسمت بفخرٍ وهي تنظر إلى وجه إيليا المشرق.
‘كأن أشعة الشمس دخلت البيت أخيرًا……’
كانت تخشى العودة، تشكّ في قدرتها على تغيير بيتٍ مظلمٍ ظلّ غارقًا في الشرّ لأكثر من مئة عام.
لكنّها الآن رأت بأمّ عينها أن بذور الخير التي زرعتها بدأت تنبت.
التغيير بطيء، لكنه حقيقي. وهذا وحده منحها الأمل.
لم تستطع كبح فرحتها، فاقتربت من إيليا وفتحت ذراعيها لتعانقها.
“لقد عدتُ يا إيليا! اشتقتِ إليّ، أليس كذلك؟”
لكن يبدو أن الطريق ما زال طويلًا أمامها. فما إن رفعت ذراعيها حتى ظنت إيليا أنها ستضربها، فارتجفت وصرخت باكية.
“آ، آسفة! لقد كنتُ وقحةً جدًا حين ابتسمت، أليس كذلك؟ لن أكرر ذلك أبدًا، أرجوكِ……أرجوكِ سامحيني……هه، ههئ……!”
وهكذا، ما إن عادت ليرييل من رحلة التطوع حتى لم تنل قسطًا من الراحة، بل أمضت ساعاتٍ طويلة وهي تحاول تهدئة خادمتها الباكية.
“هكذا، هكذا……لا تبكي.”
ربّتت على كتفي إِيليا المرتجفَين حتى هدأت أخيرًا، وبذلك انقضت فترة العقوبة سريعًا دون أن تشعر.
***
هل طبيعة الإنسان خيّرةٌ أم شريرة؟ سؤالٌ قديم، اختلفت حوله الأمم والأعراق والعصور منذ الأزل.
فهناك من يقول أن البشر يُولَدون طيبين بطبعهم، لكنهم يفسدون بفعل الجشع والبيئة الفاسدة.
وهناك من يرى العكس، فيؤكد أن الشرّ هو جوهر الطبيعة البشرية، ولا بد من تهذيب الإنسان بالتربية والنظام.
مسألةٌ معقدة لا يمكن الجزم فيها بصواب رأيٍ دون آخر، لكن لوفرين تينيبريس كانت على يقينٍ تام بأن الشر هو جوهر الإنسان الحقيقي.
“أنتِ!”
“مـ……مَن؟ أنا؟”
“نعم، أنتِ.”
كان ذلك ما تدركه كلما نظر إلى ابنتها التي أنجبتها بنفسها، ليرييل تينيبريس.
في الخامسة من عمرها فقط، بالكاد تستطيع تركيب جملتين بوضوح، ومع ذلك كان أول طلبٍ نطقت به في حياتها هو،
“أريد طردها.”
“ماذا؟”
“لا أطيق النظر إليها بعد الآن. لا أريد أن أراها مجددًا، إنها تثير غضبي.”
كانت تتحدث عن مربيتها التي كرّست خمس سنواتٍ من عمرها في رعايتها بإخلاص.
أما السبب؟ فقط لأنها نسيت أن تقدم لها الحلوى بعد الغداء مرةً واحدة.
لم تُعلّمها لوفرين يومًا مثل هذا السلوك.
لقد كان ذلك أول فعلٍ شريرٍ خالص، نابعٍ من طبيعةٍ فطريةٍ لم تتلوث بأي توجيه، ثمرةٌ نقية من إحساسٍ غريزي بالأنانية والسلطة.
“يا للعجب، إنها تشبهني تمامًا! انظر إليها، كيف تثور لمجرد أن شيئًا لم يعجبها!”
“لا، إنها تشبهني أنا أكثر. فهي تقطع علاقاتها فورًا مع من ترى أنه لا يعود عليها بالنفع.”
كانا يشعران بالفخر تجاهها. ولم يشكا يومًا في أنها الوريثة المثالية لجذور الشر التي يتباهى بها بيت تينيبريس.
لكن ذلك الإيمان الراسخ بدأ يتصدع قبل شهرٍ واحدٍ فقط.
“أمي، هل أُشربِك المزيد من الماء؟ أو أدفئ لكِ الحساء؟”
“لا بأس يا عزيزتي، لا تقلقي عليّ، اهتمي بطعامكِ فقط.”
“لكن وجهكِ يبدو شاحبًا منذ قليل، أنا قلقةٌ عليكِ حقًا.”
“قـ……قلقة؟!”
هل تمرّ بمرحلة مراهقةٍ متأخرة؟
فجأة، بدأت ليرييل تتصرف على نحوٍ يناقض تمامًا ما آمنت به والدتها طوال حياتها.
صارت تنثر الأفعال الطيبة في كل مكانٍ تطأه قدماها، كأنها تنفي بنفسها نظرية الشر الفطري التي كرّسها بيت تينيبريس جيلاً بعد جيل.
والآن، امتد هذا “الوباء” حتى إلى أفراد العائلة أنفسهم!
لوفرين كانت تشعر بالغرابة والارتباك من تصرفات ابنتها، لكنها حاولت أن تكبح شكوكها.
لكن قبل العشاء مباشرةً، جمع أنوين جميع أفراد العائلة ما عدا ليرييل وتحدّث بجديةٍ بالغة،
التعليقات لهذا الفصل " 47"
هيفالل احسه كيوت لصراحة حبييييته