“مهما كنتِ قديسة، هذا لا يبرر أن تعبثي بخطيب شخصٍ آخر كما تشائين. وإن كنتِ تنوين اعتباري شرًا……”
طرَق — أفلَتَت ليرييل المعصم الذي كانت تمسكه، كأنها ترميه بعيدًا.
“فسأواجهكِ بطريقتي الخاصة، لأُثبت أنني لم أعد كما كنت.”
كانت راحة يد ليرييل المكشوفة متوهجةٌ بالحمرة بسبب حرارة القوة المقدسة المتدفقة منها، حتى إن مجرد النظر إليها يكفي ليشعر المرء بالألم.
“هـ……هل فقدتِ عقلكِ تمامًا؟!”
لكن حال أنيلا لم يكن أفضل. فقد طُبِعَ على معصمها أثرٌ واضح لليد التي أمسكتها.
لم يكن أثرًا من حرارة القوة المقدسة، بل من قوة القبضة نفسها التي ضغطت جلدها بعنف.
وبعض الأجزاء بدأت تتحول من الأحمر إلى الأرجواني، ثم إلى زرقةٍ باهتة.
بشرتها البيضاء التي كانت محط غبطة الجميع تلطخت بألوانٍ شتى، كوجهها الآن الذي صار يتناوب بين الاحمرار والزرقة من شدة الغيظ.
‘لن أتحمل أكثر!’
إهانةٌ تلو إهانة، والآن حتى جسدي المقدس الذي يحبه المعبد قد مُسَّ بسوء!
بلغ صبر أنيلا حدَّه فانفجرت غاضبة. و تردد اهتزازٌ مشؤوم في الهواء.
وفي اللحظة نفسها تجمعت في راحة يدها هالة ضوءٍ ساطع يمكن تمييزها بالعين المجردة.
تمامًا كما فعلت عند بئر القرية حين أسقطت رجال الذئاب، كانت تنوي الآن أن تمحو ليرييل من الوجود كليًا.
ظنَّت أن ما لاقته من إهانةٍ من فيريك هو أقصى ما يمكن أن يعيشه المرء من إذلال، لكنها لم تتخيل أن هناك ما هو أشد.
تلك المرأة التي تتجرأ على تلقينها وكأنها ليست قديسة لم تستحق البقاء على قيد الحياة.
صرختها المليئة بالغضب اخترقت أرجاء الخيمة،
“مــوتي!!!”
وفي اللحظة التي انطلقت فيها تلك الأشعة المضيئة من يدها لتخترق صدر ليرييل، سُمِع صوتٌ خافت لستار الخيمة يُزاح.
رفع الجندي الذي كان ينتظر بالخارج رأسه بحذر وأطلّ برأسه داخلًا.
“يا……يا سيدتي القديسة؟”
كان الجندي يريد احترام وصية القديسة بعدم الدخول، لكن الضجيج بالداخل جعله لا يستطيع البقاء مكتوف اليدين.
خاصةً وأن من بداخل الخيمة ليست إلا ليرييل، الابنة الكبرى لعائلة تينيبريس سيئة السمعة. فخشي أن تكون قد آذت القديسة كما حاولت في الصباح، و أراد التأكد بنفسه.
“ما الذي يحدث هنا؟!”
لكن ما رآه كان مغايرًا تمامًا لما توقعه.
كانت ليرييل تلهث وهي تمسك بيدها المتوهجة، في حين كانت أنيلا تستعد لتطلق عليها قوتها المقدسة.
كان الموقف متفجرًا لا يحتمل لحظة تأخير، واضحًا لا لبس فيه مهما نظر المرء من أي زاوية.
حتى وإن كانت أنيلا قديسةً محبوبة من الجميع، فهذه المرة لم يكن هناك مهربٌ من المساءلة.
إذ ما إن فُتح ستار الخيمة حتى دوّى صوتها العالي الصارخ إلى الخارج، ليسمعه كل من حولها.
“الـ……القديسة حاولت أن تقتل الآنسة ليرييل!”
“آه!”
عندها فقط أدركت أنيلا كيف بدا الموقف من الخارج، فبعثرت ما تبقى من قوتها المقدسة بسرعة.
و تحولت عيناها الغاضبتان نحو ليرييل، التي كانت عندها تبتسم بخفةٍ عند زاوية شفتيها.
‘أيمكن أنها تعمّدت أن تجرح نفسها لتستدر تدخل الجندي؟!’
أدركت أنيلا حيلتها بعد فوات الأوان، فغلت الدماء في شفتيها من شدة الغيظ، لكنها علمت أن الوقت ليس مناسبًا للغضب.
“كـ……كل ذلك مجرد سوء فهم……”
حاولت أن تبتسم كما اعتادت، ملوّحةً بيدها بحركةٍ وديعةٍ متصنّعة.
أن يُقال أن القديسة حاولت قتل أحدٍ باستخدام القوة المقدسة؟ حتى لشخصٍ ببراءتها الظاهرة، كانت تعلم أن وقع ذلك سيكون مدمرًا على سمعتها.
الفاصل بين التبجيل والاضطهاد لا يتعدى ورقةً واحدة. فقوتها العظيمة كانت سلاحًا ذا حدين، أداةٌ للرهبة والقداسة في آنٍ واحد، لكنها قادرةٌ أيضًا على زرع الخوف في القلوب.
‘عليَّ أن أجد مخرجًا بأي ثمن!’
أنيلا، المرتبكة والمضطربة، حاولت التفكير بسرعة، لكن لم يخطر ببالها أي حل. فهي لم تُواجه يومًا نظرات شكٍّ أو اتهام كهذه.
“آنسة ليرييل؟”
“….…”
أما ليرييل فقد أدركت في لحظة أن هذه فرصتها الذهبية.
استغلت ليرييل لحظة ارتباك أنيلا لتتحرك بخطوةٍ أسرع، ساعيةً لصنع الموقف الأكثر فائدةً لها.
“مـ، مهلاً! آنسة ليرييل! إلى أين تذهبين؟!”
وغادرت ليرييل الخيمة من دون أي تفسيرٍ أو تبرير، متجاهلةً الاثنين تمامًا.
ولم يبقَ في خيمة العلاج سوى الجندي وأنيلا. لتصبح مسؤولية تفسير هذا الموقف الفوضوي كلّها على عاتقها وحدها.
في العادة، كانت ستتهرب منه ببراءتها الفطرية المعتادة، لكنها الآن أمام شاهدٍ مباشر، وأي محاولة للتصنّع لن تزيد الموقف إلا سوءًا.
‘هيا، أرينا دموعكِ الكاذبة المعتادة، وتظاهري بأنكِ الضحية من جديد……’
كانت ليرييل تدرك أن هذه الخطوة وحدها لن تكسر مكانة أنيلا فورًا، فالجميع ما زال يرون فيها قديسةً طاهرة ومقدسة.
لكنها كانت تعلم أيضًا أن مجرد انتشار شائعةٍ غريبةٍ أو مشبوهةٍ واحدةٍ عنها داخل كتيبة الإغاثة يكفي لإحداث شرخٍ عميق.
وهذا وحده كان كافيًا ليجعل استفزازها ذا قيمة.
وبالفعل، بعد ذلك اليوم، وبينما كانت إنجازات القديسة التي أنقذت النبيلة وولي العهد من الوحوش تتغنى بها الألسن في كل مكان……
“بالمناسبة، هل سمعتِ الإشاعة عن القديسة؟”
بدأت همساتٌ خافتة تنتشر بين الناس، تقول أن هناك شيئًا غريبًا في القديسة.
كانت تلك أول ضربةٍ فعالةٍ حقًا تسددها ليرييل لأنِيلا، ومن هناك بدأ الهجوم المعاكس.
***
سادت أجواءٌ غريبة داخل كتيبة الإغاثة، وكأن التوتر بين ليرييل وأنيلا وصل ذروته، ومع ذلك، انتهت رحلة التطوع من دون حوادثٍ تُذكر.
ويُعزى الفضل في ذلك إلى رجلين تحديدًا، أحدهما كان مفاجئًا جدًا: الجشع الأول في مملكة تريان، الذي لا يعرف سوى المال—يوليان.
“ما الذي فعلتِه الآن بحق؟!”
عندما سمع يوليان بما جرى بين أنيلا وليرييل كاد يفقد وعيه من الغضب، لكنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة وبذل كل ما في وسعه لاحتواء الحادثة.
ولم يفعل ذلك من أجل أنيلا بالطبع، بل خوفًا من أن يفسد الأمر سمعة “أجنحة النور” ويتسبب له هو شخصيًا بالمشاكل.
أما أنيلا فلم تأبه بالأمر كثيرًا، بينما كانت ليرييل في الأصل هدف يوليان الأساسي.
وكان يدرك أن خسارتها ستكون كخسارة سمكةٍ ثمينةٍ أفلتت من الشبكة، لذلك لم يجد بدًّا من التدخل بنفسه، رغم أن ذلك كان آخر ما يرغب به.
“أقول لكَ، هي المخطئة وليس أنا! لماذا تصبّ غضبكَ عليّ فقط؟!”
“أنيلا، أرجوكِ……أغلقي فمكِ قليلًا هذه الأيام، أرجوكِ فقط!”
أما الجندي الذي شهد الحادثة فقد اشترى يوليان صمته بالرشوة—رغم أن الشائعات تسربت قليلًا في النهاية—ثم منح أنيلا بعض المهام البطولية لتلميع صورتها من جديد.
بعد ذلك حاول أن يزور ليرييل ليكسب ودّها ويتأكد من حالها.
لكن الجواب الذي تلقاه كان غير متوقع،
“الآنسة ليرييل عادت إلى العاصمة منذ البارحة……”
“ماذا……؟ من دون حتى أن تُخبرني؟”
كانت ليرييل قد غادرت بالفعل صفوف كتيبة الإغاثة، وهذا أحد الأسباب التي جعلت جذوة الخلاف تنطفئ قبل أن تتحول إلى حريق.
“نعم، لقد أمر ولي العهد بإعادتها في أسرع وقتٍ ممكن.”
وهنا يدخل الرجل الثاني الذي له فضلٌ في احتواء الموقف: فيريك تريان.
“العودة؟ هذا غير ممكن.”
في تلك الليلة، زار فيريك خيمة ليرييل وأصرّ على عودتها. بدا كلامه تهديدًا أكثر منه طلبًا، لكنه برّر الأمر بأنه يخشى على صحتها.
“ليس أمامكِ خيارٌ يا ليرييل، أيًّا يكن ما تخططين له. لستُ أفهم ما الذي تظنين أنكِ قادرةٌ على فعله بهذا الجسد الضعيف، توقفي عن العناد وعودي.”
“لكنني لستُ مصابةً في أي مكان……”
عند سماع كلمة “مصابة”، رفع فيريك حاجبه ببطء، وكأنه كان ينتظرها لتقول ذلك.
“يدكِ.”
“….…”
“يدكِ، أَرِني إياها.”
مدّ يده أمامها بإيماءةٍ صارمة كما لو كان يأمر كلبًا مدرّبًا بالطاعة.
لكن من البديهي أنها لم تستجب بسهولة. فقد احترقت راحتها من جديد أثناء صدامها مع القديسة اليوم، ولفّتها بضمادٍ لتخفيها، لكنها علمت أن مجرد رؤية الضماد وحدها ستثير غضب فيريك أكثر.
التعليقات لهذا الفصل " 44"
اخخخ الكلام ذاك كلو وماسمع حرف تمزح صح