لكن الضحكة الساخرة التي تسربت بسلاسة من بين شفتي أنيلا لم تدم طويلًا. فما إن توقفت عن الضحك حتى تحول صوتها إلى زمجرةٍ حادة مليئةٍ بالوعيد.
“هل ما زلتِ لا تدركين الموقف؟ ألا تعلمين من أنا؟”
وووووم— ترددت الموجات في الهواء وأحدثت ذبذباتٍ خافتة، بينما تناثرت خيوطٌ الضوء المنعكسة من شعرها المتلألئ كالشفق على جدران الخيمة.
كان غضبها أشبه بغضب وحش، وكل انفعال منها كان يجعل القوة المقدسة تتصاعد وتكشف عن أنيابها الخفية.
“أنا القديسة! أنيلا ميديا! إن أردتُ، أستطيع في لحظةٍ أن أتهم أمثالك بالشر وأجعلكِ تُشنقين في الساحة أمام الجميع! هل تظنين أنني لا أستطيع؟!”
‘بلى، بالطبع تستطيعين……فهذا ما تجيدينه حقًا.’
ومع ذلك، لم تتفاجأ ليرييل من تهديدها، فقد كانت تعرف جيدًا ما الذي يحدث حين تُقرر أنيلا أن تهاجم بجدية.
فالقداسة والسحر والجاذبية، ممزوجةٌ بدهاءها وخبثها، كانت كفيلةً بإسقاط أي أسرةٍ نبيلة مهما بلغت قوتها، حتى لو كانت من أعتى بيوت الدوقيات.
كانت تعلم أن الطبقة الرفيعة لا تساوي شيئًا حين يتخلى عنها أتباعها، ولم تكن تتوقع أن ترى ذلك القانون المقيت يتحقق حتى في رواية رومانسية خيالية.
‘تجرؤون على لمسي؟! أطلقوني! أيها الأوغاد، دعوني أذهب!’
في الأصل، كانت ليرييل تينيبريس أول من أُعدم في الرواية الأصلية.
وعندما تهاوى شعرها الناري اللامع على أرض الساحة فاقدًا بريقه، علت صيحات الجماهير ابتهاجًا، وغرقت البلاد في مشاعر الاحتفال.
تلك كانت الشرارة التي أعلنت سقوط بيت تينيبريس.
وكما وعدت القديسة، أُبيدت العائلة كلها حتى أقاربهم البعيدين، قُطعت رقابهم أو ماتوا بطرقٍ أشد فظاعة.
“كان لي يومًا ابنةٌ جميلة، وزوجٌ رائع، وابنٌ لطيف……كانت أيامًا سعيدة……إلى أن ظهرت فجأة امرأة بيضاء الشعر وصفعتني أمام الجميع……”
هربت لوفرين تينيبريس بأعجوبةَ وسط الفوضى، واستقرت في قرية نائية تحت اسم أرملة مجهولة. لكنها لم تحتمل الصدمة، ففقدت عقلها تمامًا.
حتى آخر يوم في حياتها، كانت تبكي وتضحك في آن واحد، حتى لُقبت بالمرأة المجنونة، وسخر منها أهل القرية واحتقروها حتى ماتت.
يا له من ختام مهين لسيدةٍ كانت يومًا تهيمن على المجتمع الأرستقراطي.
‘عائلة تينيبريس، التي دامت لأكثر من قرن، سقطت على يد قديسةٍ واحدة……يا له من ظلمٍ فادح……’
أما أنوين، فمات محاولًا حماية اسم العائلة حتى النهاية. كان موته يبدو نبيلًا في السرد، لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك أبدًا.
لقد حاول الفرار إلى الخارج في عربةٍ فاخرة لإنقاذ بقايا سلالته، لكنه وُشي به على يد سائقه الذي قبض عليه الجنود وسلمه للقديسة.
ثم أُعدم بالطريقة ذاتها التي ماتت بها ابنته.
لقد استأجر ذلك السائق بثلاثة أضعافٍ أجره المعتاد، ومع ذلك لم يستطع المال أن ينتصر على “رغبة الناس في خدمة القديسة”.
وهنا يكمن رعب البرّ المزعوم — حين يؤمن المرء بأن ما يفعله خير، فإنه يتوقف عن الشعور بالذنب أو الخوف، مهما بلغت فظاعته.
تلك كانت القوة التي حرّكت أتباع القديسة.
‘ربما امتلك الكاتب قليلًا من الضمير حين لم يذكر مصير هيفال……’
ربما لم يشأ أن يجعل ذلك الفتى يلقى نفس النهاية.
لكن مع غياب أي ذكرٍ له في نهاية الرواية، كان من الواضح أنه لم ينجُ، أو على الأقل عاش حياةً خالية من أي نور بعد أن أُبيدت أسرته بأكملها.
ومن مجمل تلك المآسي، كانت النتيجة واحدة فقط، لا تعبث مع القديسة.
“….…”
ومع أنها كانت تعلم ذلك، فقد أعلنت على الملأ أنها لن تتنازل عن فيريك.
ربما كان ذلك أكبر وأخطر خطأ ارتكبته منذ لحظة حلولها في هذا الجسد.
وبينما كانت تحدق في خصلات الشعر الأبيض التي تتماوج أمامها كضبابٍ مقدس، كادت تندم على قرارها.
لكن حين لامست أصابعها المعدن البارد، استعادت رباطة جأشها. كان خاتم الخطوبة الذي يزين إصبعها البنصر الأيسر.
تأملت بريقه الخافت الممتزج بالدموع والدماء، ثم رفعت نظرها نحو القديسة الغاضبة.
حسنًا، لا جدوى من التوسل لمن صنفتها شريرةً سلفًا. فالقديسة الفاجرة لا تعرف معنى الرحمة، ولا يهمها من يكون خصمها.
إذاً، لم يتبقَّ سوى القتال حتى النهاية — بطريقتها الخاصة.
“تنوين وصفي بالشريرة، إذًا.”
سألت ليرييل بنبرةَ هادئة، تأكيدًا لما لا مفر منه.
لكن أنيلا انفجرت من جديد، وكان صراخها يقطّع الصمت.
“نعم! وإن انتهى الأمر بكِ وحدكِ فاعتبري نفسكِ محظوظة! كل من يحمل اسم تينيبريس الحقير، سيخضع لاسم معبد ريناتريا! سيُسحق تحت نوري المقدس! أتفهمين ما أعنيه الآن؟”
الآن، لم تعد ليرييل تبذل أي جهدٍ لإخفاء انزعاجها، إذ تحدّثت وهي تشير إلى خطة أنيلا بوضوح،
“وإن لم أكن شريرة……فماذا ستفعلين إذًا؟”
تجمدت شفاه أنيلا، و فتحت فمها بدهشة.
حسنًا، بالطبع لم يسبق لها أن فكرت في مثل هذا الاحتمال. وللمرة الأولى، شعرت ليرييل بأنها تفهم مشاعرها.
أن تكون ليرييل تينيبريس — تلك التي اشتهرت بالخبث بين أفراد عائلة تينيبريس الشريرة — ليست شريرة؟ كانت نكتةً من شأنها أن تُضحك كل من في مملكة تريان حتى تدمع أعينهم.
لكن ليرييل كانت جادةً تمامًا. كان هذا هو السبيل الوحيد لتحتفظ بفيريك وتبقى على قيد الحياة في الوقت نفسه.
“وماذا لو أن عائلة تينيبريس لم تعد شريرةً بعد الآن؟ أتظنين أن الناس سيصدقونكِ ويتبعونكِ حينها؟”
“هل تدركين ما نوع الهراء الذي تقولينه الآن؟”
“بكل تأكيد.”
ابتسمت ليرييل برقة. كانت ابتسامةً خفيفة، لكنها كافية لتجعل أنيلا تصمت من دون وعي.
ثانيةٌ واحدة فقط — لحظةٌ عابرة — بدا فيها وجه ليرييل، التي اعتادت أن تراها متجهمةً وقاسية، كوجه فتاة نبيلة في العشرين من عمرها لا أكثر.
“بما أنني الابنة المشاغبة في العائلة، فقد قررت أن أقلبها رأسًا على عقب، من الجذور.”
لكن ما خرج من فمها لم يكن جنونًا كما تخيلت أنيلا، بل خطةً مذهلة في دقتها وإصرارها، حتى أن أنيلا لم تجد ما تقوله سوى أن تغلق فمها من جديد.
“أتعنين أنكِ……ستغيرين العائلة بأكملها؟ وتجعلينهم طيبين؟”
“نعم.”
“وهل تظنين أن هذا ممكن؟”
“لو لم أكن أظنه ممكنًا، لما قلتُ ذلك.”
وبينما تبادلا الحديث، بدأت الخيوط المتألقة من شعر أنيلا، التي كانت ترفرف بقوة بفضل طاقتها المقدسة، تهدأ وتستقر.
اختفى التوتر من الهواء، واستعاد المكان سكونه. و لم تعد أنيلا تنظر إلى ليرييل بعين الحقد أو الغضب، بل بعينٍ مشفقة.
“يا لكِ من مسكينة، يا ليرييل.”
رفعت أنيلا أطراف قدميها، ومدت يدها لتربت على رأس ليرييل برفق. طقطق……طقطق……
“كنت أظنكِ مجنونة، لكن الآن تأكدتُ تمامًا. يبدو أنني أخفتكِ أكثر مما ينبغي.”
ثم أضافت بنبرة متصنعة من الأسف،
“آه، يا للأسف……ماذا أفعل الآن؟ أشعر بالذنب حقًا.”
لكن حاجبيها المنحنيين في شكل رقم ثمانية فضحا سخريةً واضحة. كانت نظرة من يحتقر خصمه، ويعامله ككائن لا يستحق حتى الغضب.
لذلك، لم تغضب ليرييل. لم يكن هناك ما يدعوها لذلك. ففي النهاية، خطتها للبقاء كانت تتمثل في “إصلاح” بيتٍ من الأشرار — أي خطةٍ أكثر سخريةً من هذه؟
لم يكن رد فعل أنيلا إلا طبيعيًا تمامًا. لكن ليرييل كانت تعرف كيف تُعيد هذه القديسة المتغطرسة إلى حقيقتها.
وبابتسامةَ صافية تمامًا، أمسكت يد أنيلا التي كانت تضرب بها رأسها، وأبعدتها برفق، ثم تحدّثت بصوتٍ هادئ،
“هل……تشعرين بالخوف؟”
في تلك اللحظة، عادت أنيلا لتكون القديسة المتمردة التي تعرفها ليرييل جيدًا.
“تَفْ!”
تدفقت الطاقة المقدسة كاللهيب المنفجر، وأحرقت يد ليرييل التي كانت تمسك بمعصمها، لكنها لم تتركها.
كانت تتمسك بها بكل ما أوتيت من عزيمة، لتُثبت إرادتها.
“أنصتي جيدًا، يا قديسة.”
_____________________________
اوه واو اخيرا كنت متوقعه بتخلي العايلة كلها حبيبين بس يضحك شلون مقدر استوعب ابوها خاصه😭
بينجن لو يسمعها
وانيلا قاعدة تحرقها مره ثانيه؟ وين فيريك!
فيه شي قاعد يصير اخر الروايات الي مسكتها اذا ابي البطل يجي وخلاص مفروض يدخل الحين دخول درامي مايجي 🌝
التعليقات لهذا الفصل " 43"
يعني اوين ترك مرتو وهرب في عربة منشان ينقذ السلالة ماتوقعت 🥲خيب املي الصراحة كنت احسبهم اجمل قصة