ما إن سمعت أنيلا كلمة “سموه” حتى تجعّد وجهها فجأة، واقتربت بخطواتٍ واثقة حتى توقفت أمام ليرييل مباشرة، وراحت تتفحّصها بعينين متعجرفتين من رأسها حتى قدميها.
“لا أريد. ولماذا عليّ أن أخبركِ أصلًا؟”
‘يا الهي……ما أوقح هذا التصرف!’
تنهدت ليرييل في داخلها، متعجبةً من هذه القديسة التي تتدلل لمجرد سؤالٍ بسيط.
حتى لو لم تخبرها أنيلا بشيء، فبإمكانها أن تخرج من خيمة العلاج وتسأل أي شخصٍ في الخارج لتحصل على الجواب.
لذلك اكتفت بإيماءةٍ سريعة شاكرة، ثم حاولت تجاوزها بنبرةٍ مؤدبة،
“حسنًا، إذاً سأستفسر من غيركِ. شكرًا على العلاج.”
“هيه! إلى أين تظنين نفسكِ ذاهبةٌ وأنا لم أنهِ كلامي بعد؟!”
يبدو أنها لم تتوقع أن تتجاهلها ليرييل بهذا الشكل، إذ تجمدت للحظة ثم اندفعت غاضبةً لتقف في طريقها.
حتى الأطفال الذين التقتهم في دار الأيتام أثناء التطوع كانوا أكثر نضجًا من هذه الفتاة.
تصرفها الطفولي المستفزّ بدأ ينفذ معه صبر ليرييل.
‘تماسكي……الغضب يعني المقصلة، الغضب يعني المقصلة، الغضب يعني المقصلة……’
رددت التعويذة السحرية تلك ثلاث مرات في داخلها قبل أن تستعيد هدوءها.
وبتعبٍ ظاهر على ملامحها، سألت أنيلا بهدوءٍ متكلف،
“هل لديكِ ما تودين قوله بعد؟”
كانت نيتها أن تُظهر استعدادها للاستماع، لا أكثر. لكن أنيلا فسّرت الأمر بطريقةٍ مختلفة تمامًا.
‘ماذا؟! تقصدين أنه إن لم يكن عندي ما أقول فعليّ أن أخرج؟!’
“من تظنين نفسكِ؟!”
ولأن الغلّ القديم الذي تكنّه لليرييل لم يهدأ أصلًا، انفجرت داخليًا غيظًا وهي تفكر،
‘كنتُ أنوي أن أُظهر لكِ بعض الرحمة فقط من أجل سموه، لكن لا فائدة……هذه المرأة ميؤوسٌ منها!’
قبضت أنيلا على أسنانها وتذكّرت ما جرى قبل ساعاتٍ قليلة.
حين غابت ليرييل عن الأنظار لأكثر من أربعين دقيقة، جاء يوليان مسرعًا، ممسكًا بأطراف ثوبها وهو يوشك على البكاء.
***
“افعلي شيئًا! أنتِ القديسة، أليس كذلك؟!”
كان يوليان في حالةٍ يرثى لها، وكأنه يرى بعينيه سقوط عائلة تينيبريس في العار الأبدي لو لم يتم العثور على الأميرة.
لكن القديسة ليست آلة معجزاتٍ تفعل كل شيء.
وكانت أنيلا في ذلك الوقت لا تزال غاضبةً بعد أن صدّها فيريك، فلم تُعر كلامه اهتمامًا، وردّت ببرود،
“وهل عليّ أن أهتم إن ماتت تلك الفتاة أم لا؟!”
“ما بكِ؟! لم تختفِ الآنسة وحدها! سموه أيضًا مفقود!”
“……!”
‘هاه؟ تلك نقطة تستحق التفكير……’
ارتسمت فكرةٌ في ذهنها، فما كان منها إلا أن خرجت على الفور تبحث عن ولي العهد.
لم يكن اهتمامها موجّهًا لليرييل — بل في الحقيقة كانت تتمنى أن تموت هناك وتنتهي القصة — لكن ما وجدته قلب الأمور رأسًا على عقب.
فقد وجدت فيريك يحتضن ليرييل الجريحة على وشك الموت!
“غغغغغ……”
حتى تلك اللحظة كانت الأمور تسير كما تشاء تمامًا.
بصفتها قديسة، كانت أكثر من يستطيع استشعار وجود الوحوش القريبة. وبالفعل، عندما أحست بطاقةٍ شريرة في أطراف المعسكر، أسرعت إلى هناك.
وكان هناك ثلاثة مستذئبين كانوا يزمجرون وهم يطلّون إلى داخل البئر.
“تباً!”
سمعت أيضًا صوت ولي العهد المليء بالعجلة والقلق.
‘رائع!’
ما إن رأت المشهد حتى تهلل قلبها فرحًا، وجمعت فورًا طاقتها المقدسة.
لقد حان الوقت أخيرًا لتُظهر لولي العهد عظمة القديسة!
“كآآآآآنغ!”
وفي لحظة، تحولت تلك الذئاب إلى وسيلةٍ لعرض مجدها.
اهتز الهواء حولها، وانطلقت خيوطٌ من النور الحارق من كفّيها لتخترق صدور الوحوش مباشرة.
طن! طن! فرق!
لم تسنح للوحوش فرصةٌ حتى للصراخ، إذ خرّت صرعى بثقوبٍ متفحمة في أجسادها.
صحيحٌ أن تصرفاتها متقلبة، لكنها كانت بالفعل قديسةً نادرة الوجود، لا يُرى مثلها إلا مرةً كل ألف عام.
بإمكانها القضاء على وحوشٍ متوسطة الحجم ببضع ومضاتٍ من قوتها المقدسة فحسب.
و لم يبقَ الآن سوى الجزء الأخير: أن تنقذ فيريك بطريقةٍ بطولية وتكسب نظرات الإعجاب منه.
“سموك، هل أنتَ بخير؟”
هكذا كان ينبغي أن تسير الأمور.
“بحثتُ عنكَ طويلًا……هيا، أخرج من هناك—”
قالت ذلك بأرقّ صوتٍ ملكي وهي تهمّ بمدّ يدها نحوه……لكنها تجمدت. ففي تلك اللحظة، وقعت عيناها على من كان فيريك يحتضنها بكل حنان.
نعم……كانت تلك اللعينة ليرييل من جديد.
بل وكانت تتدلى بين ذراعيه بنصف وعيها، كأنها تتفاخر بذلك المشهد أمام العالم كله.
‘تلك الوغدة الحقيرة!!!’
كان المشهد كفيلًا بأن يفجر في داخلها سيلًا من اللعنات.
و دون أن تكترث لشحوب وجه ليرييل، بدأت أنيلا تنهال عليها بالتهكم والازدراء. في عقلها، لم يكن ما تراه سوى حيلة رخيصة لتغوي بها فيريك.
“أنيلا!”
نادى فيريك اسمها بصوتٍ مفعم باللوم والرجاء، صوتٌ لم تسمعه منه من قبل، حتى خفق قلبها بلا سبب.
“حالة ليرييل خطيرة، أرجوكِ أحتاج إلى قوتكِ.”
“آه، هذا يعني……”
“إن تأخرنا أكثر فلن نتمكن من إنقاذها، أنتِ قادرة، أليس كذلك؟”
ذلك الرجل الذي كان يردعها ببرود ويحذرها من تجاوز حدودها قبل ساعاتٍ فقط، ها هو الآن يخفض رأسه، يطلب منها المساعدة وصوته يرتجف. مشهدٌ أثار فيها سعادةً غريبة.
“حسنًا، إن كان لا بد من ذلك، فأنا قادرةٌ طبعًا……”
وهكذا، وجدت أنيلا نفسها مضطرةً لإنقاذ ليرييل.
جمعت بعضًا من طاقتها المقدسة على عجل لتصل شريان حياتها المقطوع، وعندها سمعت فيريك يتمتم بصوت خافت قرب أذنها،
“في النهاية، لا يزال فيكِ ما يليق بلقب القديسة……”
كانت جملةً مترددة بين الإعجاب والملاحظة العابرة، لكنها بالنسبة لأنيلا كانت كافيةً لتشعل فيها فرحًا طاغيًا. و كل الغيظ الذي تراكم في قلبها ذاب دفعةً واحدة.
‘صحيح، أنا أنيلا ميديا، القديسة المحبوبة من العالم نفسه!’
أقنعت نفسها بأن فيريك لم يكن باردًا معها إلا لأنه لم يرَ قوتها الحقيقية من قبل، وبدأت تدور في عقلها دوائر من أوهام السعادة.
وما إن همّت بالتحجج بمتابعة العلاج لتقترب أكثر من فيريك، حتى……
“انظروا هناك! إنها القديسة!”
كانت مجموعةٌ من المتطوعين قد وصلوا بعد أن سمعوا الضجة. و رأوا جثث المستذئبين الملقاة على الأرض، وفيريك المبلل وهو يحتضن ليرييل التي بدأت تستعيد لونها، وأنيلا واقفةٌ في مركز المشهد كأنها بطلة أسطورية.
“يا إلهي، هل هزمت كل هذه الوحوش وحدها؟”
“ويبدو أنها عالجت الآنسة أيضًا، ما أسمى رحمتها حتى تجاه أعدائها!”
“من حسن حظنا أنها جاءت معنا في هذه المهمة، لولاها لكنا جميعًا الآن فريسةً لتلك المخلوقات……”
هل كان هذا هو طعم العسل المراق فوق الرأس؟ وجه أنيلا أشرق بفرح لم تشعر به منذ زمن، بعد أن نال منها جفاء فيريك.
‘نعم! أنا هي القديسة العظيمة!’
كانت قد خرجت من العاصمة طمعًا في لفت نظر فيريك، لكنها نالت ما هو أكبر: شهرةً مضاعفة ومجدًا يتردد على الألسن.
أما ليرييل، التي أمضت اليوم كله تنقل الماء للآخرين حتى احترقت كفّاها وتكونت فيهما فقاعات، فقد نُسيت تمامًا. و لم يتذكرها أحدٌ سوى رجلٍ واحد.
“….…”
كان ذلك الرجل هو فيريك تريان.
***
‘لكن كيف تجرؤين على السخرية مني؟’
أنا، أنيلا ميديا، التي يعترف الجميع بفضلها؟
لم تستطع أن تغفر لتصرف ليرييل الفظ قبل قليل. في البداية، كانت تنوي التحدث إليها برفق، ربما حتى تقنعها بالتراجع عن فيريك.
صحيحٌ أن منظرها في ذلك الثوب الشفاف المبتل الذي التصق بجسدها حين كانت في أحضان فيريك ما زال يستفزها، لكنها كانت مستعدةً لتسامحها……إلى حدٍّ ما.
لكنها الآن؟ بعد أن ردت عليها بتلك الوقاحة؟ لا وألف لا. مهما حاولت ليرييل أن تتقمص دور الفتاة الطيبة، فلن تصل إلى كعبها أبدًا. والأسوأ من ذلك، أنها لم تقدّر حتى هذا التسامح.
“سألتكِ إن كان لديكِ ما تقولينه بعد؟”
كان أسلوب ليرييل واضحًا: إن لم يكن لديكِ ما تقولينه، فاغربي عن وجهي.
عندها، انفرجت شفتا أنيلا بابتسامة ملتوية. نفس الابتسامة التي ارتسمت حين أحرقت كفّ ليرييل بقوتها المقدسة في الصباح.
ولم تحتج ليرييل إلى سماع ما ستقوله، فقد أدركت مسبقًا. تلك الحاسة التي لا يمتلكها إلا من وُلد ليكون شريرًا ويعيش كذلك — كانت تدق ناقوس الخطر في داخلها. وللأسف، لم تخطئ.
“كنت أنوي أن أقولها بلطف، لكن يبدو أنكِ تفضلين سماع الحقيقة المؤلمة، فليكن.”
التعليقات لهذا الفصل " 41"
اخخخخ اكرها اكرها مقرفةةةةة