بوجهه الوسيم ذاك، بدا من الخسارة أن يغضب بهذه الطريقة، ومع ذلك، كان فيريك يعبس في تسع محادثاتٍ من أصل عشر يجريها مع ليرييل. كأن كل كلمةٍ تتبادلها معه تُثير اشمئزازه.
“تعلمين أن هذا ليس ما كنت أسأله.”
وكما توقعت، ضغط فيريك بصوته المبحوح المميز الممتزج بالضجر.
لو كانت ليرييل في حالتها المعتادة، لكانت ربما حاولت تهدئته ومواصلة الحديث بلطف. لكن يدها كانت تؤلمها كثيرًا، وكتفها متيبس، وما زال خيال فيريك وهو يحمل أنِيلا متكئًا على ذراعه يتراقص أمام عينيها.
“إذاً، عماذا تريد أن تسألني بالضبط؟”
ولذلك انساب كلامها بنبرةٍ ساخرة دون أن تشعر.
“هل كنتَ تتوقع أن أعترف أني سمّمتُ الطعام؟ أم أنكَ تود سماع أني لوّثتُ البئر وجعلت مصدر الماء الوحيد غير صالحٍ للشرب؟”
رغم أن فستانها كان مغطًى بالطين، وشعرها متشابكٌ من العرق، إلا أن تلك الهالة المتعجرفة لشريرةٍ نبيلة عادت لتطفو على ملامح ليرييل.
“ما دمتَ ستشكّ في كل ما أقوله مهما كان، فلماذا تصر على سماع الإجابة أصلًا؟ لا أفهم حقًا.”
في الواقع، لم يكن هناك سببٌ يجعلها تحرص على إرضائه. فكلما ساءت العلاقة بينهما، زادت فرصة ليرييل في فسخ خطوبتهما.
ولكي تنكر ما كانت تشعر به من اضطرابٍ تجاه فيريك، أجابت بحدة أكبر.
“أنتَ ستشك في أي شيءٍ أقوله، أليس كذلك؟”
لكنها غفلت عن حقيقةٍ واحدة.
“بعد أن فعلتِ بي ما فعلتِ، هل كنتِ تظنين أني سأثق بكِ ببساطة؟”
كل كلمةٍ تنطقها ليرييل كان لها وقعٌ خاص على فيريك. فهو أصلًا كان سريع الغضب عندما يتعلق الأمر بها.
“آه!”
حدث الأمر في لحظة. اقترب فيريك بخطواتٍ قليلة وأمسك بمعصم ليرييل بعنف.
كانت قبضته قويًا إلى درجة أنها لم تستطع حتى أن تصرخ من الألم، بل أصدرت أنفاسًا متقطعة فقط، وشفاهها الحمراء تشوهت تحت أسنانها التي عضّتها بقوة.
“اسمعي جيدًا، الذي جعلني هكذا هو أنتِ! أنتِ وحدكِ، ليرييل تينيبريس!”
صرخته تلك، التي بدت قاسيةً على غير العادة، مزقت صدر ليرييل.
‘قلتُ لكَ، لستُ أنا!’
لم تكن تجهل جراحه، لكنها كانت تشعر بالظلم على أي حال.
كانت تعلم أن قولها أن ليرييل اليوم ليست ليرييل القديمة لن يجلب لها إلا نظرات الجنون، لذا ظلت صامتةً حتى الآن. وبدلًا من الكلام، حاولت أن تثبت حسن نيتها بأفعالها.
سعت لتُظهر أنها لم تعد تلك الشريرة، وأنها لا تخفي أي نيةٍ سيئة وراء رغبتها في فسخ الخطوبة.
لكن كل ما كانت تتلقاه في المقابل هو تلك النظرات المليئة بالشك. ومع مرور الوقت، حتى أكثر الأشخاص إيجابيةً قد ينهار.
وأثناء هذا الجدال العقيم، امتلأت عيناها بالدموع. فقد كانت وصلت إلى حدها.
وفي النهاية، لم تستطع أن تكبح نفسها أكثر، فشدّت ذراعها بقوة محاولةً تحريرها.
“اتركني!”
في تلك اللحظة، لاحظ فيريك شيئًا ما، وارتسمت على وجهه ملامح دهشةٍ خفيفة. بينما ضعفت قبضته على معصمها تدريجيًا.
“آه!”
وفي الوقت نفسه، تهاوى جسد ليرييل إلى الخلف. ولو كانت سقطت أرضًا فحسب، لانتهى الأمر بمشهدٍ محرج لا أكثر.
لكن المشكلة أن الجدال كان يدور عند حافة البئر.
‘يا إلهي……’
كانت تتذكر جيدًا أن خلفها بئرًا عميقًا، قديمًا، لا يصل دلوه إلى الماء إلا بعد إنزال الحبل لمسافةٍ طويلة.
أن تموت هكذا، بعد كل ما قاسته لتنجو من تحريض القديسة المجنونة، بدا عبثيًا حدّ الألم.
“ليرييل!!!”
في تلك اللحظة، شعرت بشيءٍ يلتف حول خصرها، ثم ارتفعت ساقاها إلى الأعلى.
ومثل فريسةٍ تُبتلع في فم وحشٍ عملاق، سقط الجزء العلوي من جسدها داخل البئر. و شعرها البرتقالي المائل إلى الحمرة تماوج في الهواء، يلمع بنور الغروب كشرارةٍ جميلة.
ومن بين ذلك الضوء، لمحت وجه فيريك المصدوم. عيناه المفتوحتان على اتساعهما كانتا بلونٍ أحمر لم تره من قبل، لونٌ بدا كأنه يحمل قلقًا صادقًا عليها.
‘جميل……’
كان ذلك آخر ما رأت قبل أن تسقط كليًا في ظلمة البئر.
بلوووش!
ارتفعت موجة ماءٍ ضخمة، ثم سرعان ما هدأت. و عاد الهدوء إلى بئر الغابة وكأن شيئًا لم يحدث، ولم يبقَ سوى نعيب الغربان يتردد عبر الأغصان اليابسة، يبتعد شيئًا فشيئًا.
***
فقاعاتٌ جديدة بدأت تتصاعد على سطح الماء الهادئ. وتحت ظلال البئر المظلمة، تمايل ظل إنسانٍ ببطء.
خصلات الشعر الحمراء كانت تتماوج بوضوحٍ تحت الموج الأزرق الداكن. وما إن بدأت الصورة في الماء تتضح أكثر فأكثر حتى—
“هاه!”
أخرج شخصان رأسيهما في الوقت نفسه من الماء. كان أحدهما بطبيعة الحال ليرييل تينيبريس، التي سقطت لتوها في قاع البئر.
ما إن خرجت حتى شهقت بعمقَ وهي تتشبث بأي شيء تصل إليه يدها محاولةً ألا تغرق.
‘لا أريد أن أموت!’
حين واجهت الموت وجهاً لوجه، أدركت ليرييل بوضوحٍ حقيقةً واحدة — أنها حقًا لا تريد أن تموت. وكان بإمكانها أن تفعل أي شيءٍ لتعيش.
“أنقذني! أرجوكَ!”
ارتد صوتها الحاد في الممر الضيق صدىً بعد صدى، وقد أذهلها الخوف حتى شلّ عقلها.
ترددت أصوات الماء المتلاطمة وهي تضرب جدران البئر، وفي تلك الفوضى أحاط بها رجل خرج معها إلى السطح، ممسكًا بها كي يمنعها من الحركة العشوائية.
“اهدئي! ليرييل تينيبريس!”
رغم ارتباكها الشديد، انغرس صوته الواضح في أذنيها. فرفعت رأسها فجأة لتلتفت خلفها.
وهناك، كان يقف من لا ينبغي له أن يكون هناك، من لا يمكن أن يكون هناك أصلًا.
“صاحب السمو؟!”
كان فيريك تريان هو من أمامها. فلم تصدق عينيها.
لماذا هو هنا؟ لقد كان في مكانٍ آمن تمامًا عندما سقطت! لكنها حين فتحت عينيها داخل الماء وجدته قريبًا منها، يضمها بذراعيه.
‘هل يعقل أنه……قفز لينقذني؟’
لا يمكن!
تمتمت ليرييل لنفسها بدهشة. لم يحدث شيءٌ كهذا حتى في القصص الرومانسية السخيفة.
توقف جسدها عن المقاومة وهي تحدق فيه مصدومةً من غرابة الموقف.
هدأت حركة الماء تدريجيًا، ولم يبقَ سوى صوت القطرات المتساقطة من شعرها وأنفاسهما المتقطعة تتمازج في الهواء البارد.
التعليقات لهذا الفصل " 36"