ظنّت أن مجرد مشاركتها في بعثة التطوّع سيكون كفيلاً بإصلاح كل شيء، لكن تدخّل أنيلا الصغير قلب الأمور رأساً على عقب.
‘لا، أنا أعرف……لا يوجد عملٌ خير “أفضل” أو “أسوأ” من الآخر.’
قالت ليرييل ذلك وهي تضع لفافة ضمادٍ فوق أخرى، متنهّدةً بمرارة.
‘لكن ترتيب الضمادات وحده لن يُقنع الناس أنني أصبحت طيبة! لقد جئت وأنا أرجو على الأقل قليلاً من التأثير الدعائي!’
لم تستطع كبح ضيقها، فهتفت وهي تضع آخر ضماد فوق قمة الهرم الصغير بعنف.
“آه!”
وخز ألمٌ مفاجئ راحتها المصابة، فارتجفت يداها دون قصد.
طَقّ!
و لمست أطراف أصابعها كومةٌ الضمادات المتوازنة بخطر، وانهارت فجأة كأن جبلاً من القطن الأبيض تهاوى أمامها.
تجمّدت ليرييل في مكانها تحدّق بلا حيلةٍ في الفوضى التي صنعتها بيديها.
و حتى حين تدحرج أحد أطراف الضمادات على الأرض وابتعد، ظلت عيناها تلاحقانه بخواءٍ عجيب.
وبينما هي كذلك، دخلت مسؤولة المستلزمات الطبية، فوقعت عيناها على المشهد الكارثي.
“ذا……ذلك هو……”
“.……”
لم تكن ليرييل خبيرةً بعلم النفس، لكنها شعرت للحظة بأنها قادرةٌ على قراءة ما يدور في ذهن المرأة أمامها بوضوح.
ذلك الصمت الطويل، المصدوم، قال كل شيء.
وبعد وهلةٍ من الدهشة، تمتمت المسؤولة بصوتٍ حذرٍ مرتجف،
“آنِسة……ليرييل؟ أعتذر، لكن……”
لم تنتظر ليرييل بقية الجملة لتفهم أنها ستُطرَد حتى من مهمة ترتيب الضمادات.
بل تخيّلت الشائعات وهي تنتشر: “الشريرة بعثرت الضمادات عمداً لتمنع الآخرين من استخدامها!” — و لم تحتج الأمر إلى تأكيد.
ومنذ هذه اللحظة، أصبحت جميع المهام الموكلة إليها من النوع الممل الشاق — أعمال تنظيفٍ وحملٍ ونقلٍ لا يقوم بها سوى العمال.
ابنة أرقى دوقٍ في مملكة تريان تؤدي أعمالاً وضيعة! لو علم أنوين بذلك لجنّ جنونه، وحوّل بعثة التطوّع إلى فوضى عارمة.
لكن ليرييل، صاحبة الشأن، لم تُبدِ اعتراضاً، بل أدّت كل ما أُوكل إليها بصبرٍ وإخلاص.
‘على الأقل هذا أفضل من الجلوس دون فعل شيء.’
تمتمت بذلك في محاولةٍ لتواسي نفسها.
كانت ترغب فعلاً في القيام بأعمالٍ تتطلب لقاء الناس والتحدث إليهم، لكن كبرياءها لم يسمح لها أن تختار المهام كما لو كانت تُميّز بين “درجات” من العمل الخيري.
بما أنها بدأت، فعليها أن تبذل قصارى جهدها — كان هذا إيمانها الذي لم يتغير حتى في أصعب اللحظات.
‘إذاً هذا أيضاً عملٌ ضروري……أجل، ضروريٌ جداً.’
هكذا أقنعت نفسها، وسكبت دلواً من ماء البئر في دلوٍ حديدي بجانبها.
تشلااك!
ارتطمت المياه بلوح الحديد الرفيع فاهتز صوته في هواء البئر.
كان هذا البئر هو مصدر المياه الوحيد في أطراف المخيم حيث تقيم بعثة التطوّع. وفي أوقات الكوارث، كانت المياه أثمن من أي شيءٍ آخر — للشرب، لتنظيف الجروح، أو حتى لإزالة الأوساخ.
لكن بطبيعة الحال، لم يكن أحدٌ يرغب في حمل المياه جيئة وذهاباً طوال اليوم.
حتى يوليان، الذي كان دائماً يُكلّفها بالمهام الصعبة، تردّد في أن يُلقي عليها هذا العبء، لكنها تطوّعت من تلقاء نفسها.
‘سيلاحظ أحدهم في النهاية أنني تغيّرت……لا بدّ أن يفعل.’
بهذا الأمل الصغير وحده كانت تتحمّل التعب، تنقل الدلو تلو الآخر.
بعد جولتين كانت أطراف فستانها ملوّثةٌ بالطين الرطب، وبعد خمس جولات كانت ذراعاها ترتجفان حتى كادت تسقط الدلاء من يديها.
الجسد الذي تسكنه لم يعرف يوماً عملاً يدوياً. و كل عضلةٍ في ذراعيها، في كتفيها، في ساقيها كانت تصرخ من الألم.
كلما واصلت العمل، لم يزدد الأمر سهولة، بل صار أشبه بعقابٍ لا نهاية له.
“أشعر……أنني أتنفّس من جديد!”
قال ذلك الطفل الذي رفض الطعام منها، بعد أن شرب من الماء الذي حملته بيديها، مبتسماً ببراءةٍ لم تعرف مثلها من قبل.
عندها فقط، ابتسمت ليرييل بدورها، وغادرت الخيمة لتحضر المزيد من الماء.
‘لكن هذا سيكون الأخير……’
قالت ذلك وهي تمسح جبينها المبتل بظاهر كفّها، تنظر بفخرٍ إلى الدلوين المملوءين.
ألقت نظرةً حولها، فرأت الشمس تغيب ببطءٍ خلف الأشجار البعيدة.
حين جاءت إلى هنا مع فيريك، كان الصباح ما يزال جديداً……والآن؟ كم مضى من الوقت؟
خيمت على وجهها مسحة حزنٍ وهي تحدّق في لون الغروب البرتقالي.
لم يكن السبب التعب ولا مشقة العمل……بل لأن صورة خطيبها الذي جاء معها عادت إلى ذهنها فجأة.
‘لا بدّ أنه خاب أمله بي……’
خفضت رأسها وهي تتذكّر ما حدث في الصباح.
حين نصبت أنيلا مكيدتها، كان فيريك ينظر إليها بملامح مضطربة — وكأنها هي المخطئة.
في تلك اللحظة، سقط قلب ليرييل إلى القاع بثِقَلٍ مدوٍّ، وشعرت كأن صدرها مُعلَّقٌ بثقلٍ من الحديد.
كان في نظرة فيريك ما يقول بوضوح: ها قد حدث ما توقعتُه. فانقبض صدرها غمًّا.
أرادت أن تبرر نفسها وتقول أن الأمر ليس كما يظن، لكنها كانت تعلم أن ذلك لن يغيّر شيئًا، فاكتفت بالصمت.
يا إلهي، أنتما الاثنان……
رؤية فيريك يسند أنيلا ويقودها نحو خيمة العلاج كانت مشهدًا مؤلمًا بشكلٍ يصعب وصفه، فقد بدا الاثنان معًا متناسقين حدّ الكمال.
نعم، لقد كانا الزوجين الرئيسيين في القصة.
حتى أنها أدركت مجددًا كم كانا يبدوان مناسبين لبعضهما — وهذا أمرٌ طبيعي، فالكاتبة رسمت قصتهما بهذه الصورة منذ البداية.
لم يكن هناك مكانٌ لليرييل بينهما. ولم يكن ينبغي أن يكون هناك أصلًا، ولم تكن هي نفسها تفكر بالتطفل على ذلك.
لكن……لماذا إذاً لا تستطيع نسيانه؟
كانت تعرف أن الأفضل لبقائها على قيد الحياة هو الابتعاد قدر الإمكان عن الرجل الذي كانت القديسة تطمح إليه، لكنها كانت تود فقط أن تبقى بقربه ولو قليلًا.
كان يُمتعها أن ترى ملامحه — ذلك الرجل الذي اعتاد أن يبدو غاضبًا دائمًا — حين يبتسم أو يُفاجأ أو يضطرب أمامها.
لم يكن السبب جماله فحسب. كان هناك شيءٌ أعمق من ذلك.
“كاااااك!”
دوت صرخة غرابٍ من مكانٍ ما فقطعت شرودها فجأة. كانت كأنها صفعةٌ من الواقع تأمرها بأن تستفيق.
صوت الغراب تردّد طويلًا عبر الغابة البعيدة، كأنه يصرّ على أن يذكّرها بمكانها. عندها فقط هزّت ليرييل رأسها وعادت إلى عملها الأصلي.
اضطرّت إلى أن تأخذ أنفاسًا عميقة مرارًا حتى تهدّئ نبض قلبها المضطربة لمجرد تفكيرها بفيريك.
أن أتسلل بين بطل القصة وحبيبته؟ هذا فعلُ شريرةٍ حقًّا.
ضحكت بمرارةٍ وسط أنفاسها الثقيلة، ثم انحنت لتمسك بدَلو الماء. و بمجرد أن لامست يدها المقبض، انتشر الألم من كفها المصابة كالنار المشتعلة.
رغم أنها لفّت المقبض بمنديلين لتخفيف الاحتكاك، إلا أن الألم كان لا يُطاق.
لكنها لم تُصدر سوى تأوّهٍ خفيف، وضيّقت عينيها قليلًا. فألم الجسد لم يكن شيئًا يُذكر أمام الثقل الذي يعصر صدرها.
شدّت قبضتها بقوة، وهمّت برفع الدلو بصعوبة.
“ما الذي تفعلينه الآن بالضبط؟”
ثم جاءها صوتٌ مألوف من جهة طريق العودة إلى المعسكر.
“سموك……؟”
اتّسعت عينا ليرييل الخضراوان دهشة. و ارتبكت إلى حدٍّ أنها أفلتت يدها خطوةً إلى الوراء، وكادت تُسقط الدلو أرضًا.
لا! لا يمكن، لقد استغرق ملؤه عشر دقائق كاملة!
أسرعت لتثبيت الدلو بكلتا يديها قبل أن ينقلب، وفي تلك الأثناء كان فيريك قد وصل حتى وقف أمامها مباشرة.
التعليقات لهذا الفصل " 35"