عاد فيريك ليسألها بصرامة مرة أخرى، لكن أنِيلا لم تستطع أن تنبس ببنت شفة.
فلو انكشف أنها استخدمت القوة المقدسة لأغراض هجومية، وفوق ذلك ضد ابنة نبيلة، لما نجت من اللوم حتى وإن كانت قديسة.
‘لماذا يعاملني هكذا……؟’
لكن أكثر ما أرعب أنِيلا في تلك اللحظة لم يكن الخطر بحد ذاته، بل فيريك الواقف أمامها. كان مخيفاً لدرجة جعلتها تغلق شفتيها بإحكام.
كان الجو بينهما بارداً وجافاً كأن الهواء نفسه تجمّد، حتى شعرت أنه لو اعترفت بكل شيء بصدق فقد يمد يده ويضع حديدة ملتهبة على كفّها قائلاً: “جرّبي ما فعلتِ بنفسكِ.”
كانت تلك أول مرة في حياتها تشعر فيها بتهديد حقيقي على حياتها. و لم يسبق أن دُفعت بهذه الخشونة من قبل رجل. كانت تلك المرة الأولى.
بالنسبة لأنيلا التي لم تعرف في حياتها سوى الدلال والحب، كان ما يحدث أشبه بكارثة غير متوقعة.
“صمتكِ هذا هو جوابكِ إذاً.”
وبعد فترة طويلة من التردد والتمتمة، تراجع فيريك خطوةً إلى الوراء.
لم يزل الشك في عينيه، لكنه لم يكن ليسمح لنفسه بأن يضغط أكثر على قدّيسة مهما بلغ غضبه.
في الحقيقة، لم يكن ما فعله حتى يُعد تهديداً من وجهة نظره. فقط، لأن فكرة أن هذه المرأة ربما آذت ليرييل أثارت غضبه قليلاً، فصار كلامه أكثر قسوة.
‘أنا لا أقلق على ليرييل……فقط، كنت أراقب التغيّرات التي تمر بها، وهذا التدخل المزعج من القديسة في الوقت الخطأ جعلني أنفعل لا أكثر.’
وبينما يردد هذا التبرير في ذهنه، رفع فيريك رأسه ليتأمل وجه أنيلا.
شفاهها نصف مفتوحة، و عيناها تحدّقان بالأرض، وبشرتها شاحبة كالرماد. بدا واضحاً أن لومها أكثر من ذلك سيكون قسوةً لا داعي لها.
فكبح مشاعره المتأججة، وتراجع تماماً نحو مدخل الخيمة.
“بما أنه لا دليل لديّ، فلن أتابع التحقيق أكثر. لكن……أرجو ألا تتجاوزي حدودكِ ثانيةً، يا قديسة.”
كانت تلك عبارةً صريحة معناها: لا تجرئي على لمسي بعد الآن.
قال ذلك بوضوح كي لا يساء فهمه، ثم غادر خيمة العلاج من غير أن يلتفت. وبقيت أنيلا وحدها، بوجهٍ شاحب وذهن فارغ.
تدحرجت دمعةٌ متلألئة على خدها، تلك التي كانت تحبسها منذ قليل.
كل شيء بدا كأنه حلمٌ بعيد عن الواقع، كأرضٍ جرداء سكنها السكون بعد أن اجتاحتها عاصفة.
‘أوه……؟’
وحين استعادت وعيها، أدركت أنها تُركت وحيدةً مرة أخرى.
لم تُترك فحسب، بل تُركت بعد أن وُضعت عند قدميها عبارةٌ تحذير واضحة: “لا تقتربي مني مجدداً.”
قد يبدو الأمر طبيعياً من رجل تعرّض مراراً لملامسات غير لائقة منها، لكنه بالنسبة لأنيلا —التي لم تعرف الكراهية من أحد— كان وقعُه مدمّراً.
‘كيف يجرؤ أن يفعل بي هذا؟’
لم يكن في ذهنها سوى هذا السؤال، يتردّد كصدى في الفراغ.
ولم يكن في سؤالها لا غضبٌ ولا غيرة ولا عتاب، بل حيرةٌ صافية خالصة.
كانت أنيلا حقاً لا تفهم، لماذا يعاملها فيريك بكل هذه القسوة؟
ففي حياتها كلها، لم يحدث أن أحبّت رجلاً دون أن يبادلها ذلك الحب. كان هذا هو القانون الثابت في عالمها.
بل حتى يوليان المهووس بالمال، كانت واثقةً أنها لو أرادت، لوقع في حبها. فقط لم تكن ترى حاجةً لذلك فتركته وشأنه.
“لكن لماذا……؟”
تمتمت بالسؤال، بلا جوابٍ ولا سامع. فلم يرد عليها أحد، غير واقعٍ باردٍ احتواها بصمته.
وفي داخل خيمة العلاج التي بالكاد تتسلل إليها خيوط الضوء، جلست طويلاً قبل أن تنهض ببطء.
لم تكن تعرف بعد سبب احتقار فيريك لها بهذا الشكل، لكنها بدأت تظن أن الأمر مرتبط بشيء واحد.
‘ما فعلتُه بليرييل، قال……’
تذكّرت كيف نطق اسم تلك المرأة مجدداً.
“اسمعي جيداً، أنتِ لا تعرفين تلك المرأة، أما أنا فأعرفها أكثر من أي شخصٍ في هذا العالم.”
قالها هكذا أمامها، كأنها لا شيء.
أن يقول أنّه يعرف تلك المرأة أكثر من أي أحد، أمام من تظن أنها الوحيدة التي تستحق أن تُحَب، كان كطعنةٍ في صدرها.
“لو كانت نيتها حقاً إيذاءكِ، لما اكتفت بسحب يدها. كان يمكنها أن تجعلكِ أضحوكة، لكنها لم تفعل، ولم تُصابي بأذى يُذكر.”
وعندما قالها وهو ينظر بازدراءٍ إلى قدميها، أرادت لو تنشقّ الأرض وتبتلعها.
كم كان ذلك مشيناً! قديسة تشعر كأنها فأر مذعور.
“ومع ذلك، إذا كانت قد أفلتت يدكِ، فلابد أن سبباً اضطرها لذلك. لهذا أسألكِ ثانيةً……ما الذي فعلتِه بليرييل؟”
لكن أكثر ما كان يثير حنق أنيلا هو نبرة صوته الواثقة، الخالية من أي شك، حين اتهمها هي بالمكر، لا ليرييل.
كان ذلك أكثر ما جعلها تشعر بالإهانة.
أن يثق بمن تُدعى “الشريرة” ويشك فيمن تُدعى “القديسة”؟ أيُعقل أن يحدث مثل هذا؟
لم يعد الأمر متعلقاً بفيريك وحده، بل حتى بالكيان الذي أثار فيه تلك المشاعر.
ووووم-
صدرت همهمةٌ خفيفة، وبدأ الهواء المحيط بأنيلا يلتوي بزوايا غريبة.
ارتفعت من حولها هالةٌ متموجة كسرابٍ حار، تختلف تماماً عن اللهيب، تومض على محيط جسدها ببطء.
‘إذن……صاحب السمو لا يحبني حقاً، أليس كذلك……؟’
أخيراً اعترفت أنيلا بالحقيقة، وعضّت على أسنانها بشدة.
عيناها المبللتان لم تَمتلئا بالحزن، بل بوميضٍ باردٍ من الإصرار الغريب.
‘في هذه الحالة، عليَّ أن أجعله يحبني رغماً عنه.’
تفكيرها الذي طالما طهّر الشرّ وصقَل النورَ، انحرف فجأةً نحو جوابٍ معوجّ.
إن لم تستطع أن تُغيّر الإنسان، فعليها أن تُغيّر البيئة من حوله. وفي حالتها الآن، كان الطريق الأسرع ليس بإغواء فيريك، بل بإزالة المرأة التي تشغله.
“ليرِييل تِينِبريس.”
تمتمت أنيلا باسمها بصوتٍ هادئ. صوتٌ مقدّسٌ يهمس باسم امرأةٍ وُصِفت بالشريرة، مرةً بعد أخرى.
وعندما نطقت الاسم للمرة السابعة، كان السمّ قد تسلّل إلى نبرة صوتها.
شَعْرُها الذي ارتفع في الهواء عكس ضوءاً غامضاً كأضواء الشفق، فتراقصت الألوان على جدران الخيمة. و أشرقت خيمة العلاج بنورٍ مريب، لكن الجو ازداد ثقلاً ورهبة.
عاد الشعر ليهدأ، وعادت السكينة لتخيّم على المكان، لكن عند قدميها كان ثمة دائرةٌ محترقة، سوداء، كأنها أثر لعنة.
“يجب أن أُزيلكِ تماماً من هذا العالم.”
همست بصوتٍ مبحوحٍ متهدّج. لم يعد في صوتها سمّ، بل يقينٌ فارغٌ يسبح في أعماقها.
“هكذا فقط سأخلّص الأمير وأقوده إلى الخلاص……على يد القديسة، أنا.”
كان اسم هذا اليقين هو التبرير الذاتي.
رغم أن القلوب لا يمكن السيطرة عليها، ورغم أن من المستحيل أن يحبّها جميع الناس، رفضت أنيلا الاعتراف بذلك. فمن يرفضها هو الخاطئ، ومن يحاول تصويرها بالمختلّة هو العالمُ المريضُ نفسه.
القديسة أنيلا ميديا لم تخطئ يوماً — أو هكذا أقنعت نفسها.
وابتسمت مجدداً، ابتسامةً نقيةً طاهرة المظهر، و هي أكثر ما يليق بها.
***
أول عملٍ تطوّعي قامت به ليرِييل لم يكن علاج الجرحى ولا توزيع الطعام، بل ترتيب الضمادات.
لم يكن أمامهم خيارٌ آخر. فأينما ذهبت ليرِييل، كانت تزرع الرعب في قلوب الناس — سواءً المتطوعين أو المحتاجين.
ربما كان السبب أن مشهد صدّها ليد القديسة لم يُمحَ بعد من ذاكرة الجميع.
كانت تقترب لتضع مرهماً على جرحٍ بسيط، فينهار المصاب باكياً، و يسترجع كل ذنوبه كأنه أمام محكمة العذاب.
وحتى عندما كانت توزع الطعام، كان الأطفال الهزال من الجوع يرفضون الأكل ويهزون رؤوسهم بصمت، رغم أن بطونهم كانت تلتصق بضلوعهم.
“هـ-هل من الممكن أن يكون الطعام……مـ-مسموماً؟”
قال ذلك أحد الأطفال أخيراً وهو يحدّق في الطبق، بدلاً من أن يأكل منه. فأغمي على والديه من الفزع، و لحسن الحظ لم يحدث لهم شيء.
لكن الناس رأوا في ذلك حظاً من السماء، لا رحمةً من ليرِييل.
ومنذ تلك اللحظة، نصحها يوليان أن تكتفي بالأعمال التي لا تتضمن لقاء الناس.
“لِـ……لنبدأ بالأشياء البسيطة، ما رأيكِ؟”
‘هاه……ما هذا بحق.’
حتى يوليان — الذي كان دائماً يحاول كسب رضاها — اقترح عليها ذلك. فكم يا تُرى بلغ سوء سمعتي؟
تنهدت ليرِييل بخيبة أملٍ واضحة، وبدأت تكدّس الضمادات واحدةً تلو الأخرى بصمت.
__________________________
تتخطين😭
انيلا انجنت 🤡 يعني درت انه مايحبها تستسلم؟ لوء شكلها بتسحره لو تبي حشا
التعليقات لهذا الفصل " 34"