و قبل أن يزداد الجو ثقلاً، تدخل يوليان بين الاثنين ليفضّ النزاع ويهدئ الموقف.
وعندما ساعد أنيلا على النهوض، ابتسمت له بامتنانٍ رغم ارتجاف جسدها وصعوبة توازنها.
“السيدة القديسة أنيلا!”
وفي الوقت نفسه، تعالت من حولهم تنهيداتٌ مشوبة بالأسف، بل إن بعضهم أبدى رغبته في مساعدتها على الوقوف.
غير أن هذا لم يكن ما تريده أنيلا.
لقد أرسلت نظرةً ذات مغزى إلى يوليان الذي ساعدها على النهوض. ويبدو أن المثل القائل “الأشرار يفهم بعضهم بعضًا” لم يأتِ من فراغ، فسرعان ما فهم يوليان نيتها، ثم وجه نظره إلى ولي العهد.
“سموك، أعتذر، لكن هل يمكن أن ترافق السيدة القديسة إلى المُسعف؟ أظن أن عليّ البقاء هنا لترتيب الأوضاع.”
“……أنا؟”
قطّب فيريك حاجبيه بدهشة من الطلب المفاجئ.
كان يشعر أن الأمور تسير في اتجاهٍ غريب، لكنه لم يتوقع أن يحاول أحدهم بهذه الجرأة الربط بينه وبين القديسة.
وطبعًا، همّ فيريك برفض طلب يوليان وهو يشي بنفور واضح.
“لا يمكن أن يكون سمو ولي العهد أيضًا ممن سيتخلون عن القديسة……”
فتمتم أحدهم بذلك في تلك اللحظة.
استدار فيريك بسرعة، لكنه لم يرَ سوى حشدٍ كبير قد تجمع من حولهم. عشرات العيون كانت تتابع ما سيفعله تاليًا.
وعندها فقط أدرك فيريك أنه لم يعد يملك خيار الرفض.
‘تباً……’
ففي ظل انعدام ثقة الشعب بالعائلة المالكة، إن هو رفض القديسة الجريحة علنًا، فسيتدهور الرأي العام أكثر.
وكانت هذه الحملة التطوعية تهدف في الأساس إلى استعادة السمعة. فلم يكن بوسعه السماح بانهيارها.
“حسنًا، كما تشاء.”
اضطر في النهاية إلى الإذعان لتلك الخدعة الواضحة أمامه.
ومدّ يده لمساعدتها على النهوض، فما كان من القديسة إلا أن ابتسمت ببهاءٍ لا يليق بجرحى، والتصقت به برشاقة.
“شكرًا لكَ، سمو الأمير!”
كبح فيريك رغبةً ملحّة في شتمها، واكتفى بالمضي بخطواتٍ متزنة.
ورغم تجهم ملامحه، إلا أن وسامته اللافتة انسجمت بشكلٍ مثالي مع طهر القديسة ورقتها.
“يا إلهي، ما أجمل هذا الثنائي……”
وبمجرد ظهورهما معًا، هدأ الناس وتبدلت الأجواء إلى الترقب والإعجاب.
لقد كانا ثنائيًا مبهرًا إلى درجة أن الجميع نسي أنه خطيبٌ لامرأةٍ أخرى.
ولم يكن ذلك غريبًا أصلًا، فهما في النهاية شخصيتان مكتوبتان في رواية لتكونا معًا.
راقبت ليرييل المشهد كله، ثم تراجعت خطوةً إلى الوراء.
‘هذا يكفي.’
غمرت صدرها مشاعر ثقيلة وغامضة كالصخرة.
‘على الأقل، لم يُنظر إليّ هنا كشريرة تُقطع رقبتها.’
لقد كان الموقف قابلاً لأن يتطور إلى ما هو أسوأ.
فلو أن أنيلا قررت حقًا توريطها وإظهارها بمظهر الشريرة، لما كان بالإمكان محو تلك الصورة حتى لو واصلت العمل التطوعي.
لكن لحسن الحظ، كانت القديسة أكثر اهتمامًا بجذب فيريك منها بمعاداة ليرييل.
كما أن الناس انصرف اهتمامهم عن تصرفات “الشريرة” نحو “الثنائي الجديد” الآسر. وبالنسبة إلى ليرييل، التي كانت تعتبر النجاة أولويةً قصوى دائمًا، كان ذلك نتيجة مرضية.
غير أن……
‘لكن لماذا أشعر بهذا الضيق؟’
وخزها الألم مجددًا في موضع الحرق.
أم أن الألم هذه المرة لم يكن في كفها بل في صدرها؟
في الواقع، من كان يجب أن يُنقل إلى المُسعف لم تكن القديسة التي لم تُصب بخدش، بل ليرييل التي احترق كفها.
لكن لم يهتم أحدٌ بمعاناة “الشريرة”. حتى يوليان، الذي هرع إليها فور انتهاء الفوضى ليُظهر قلقه عليها، لم يكن استثناءً.
“ليرييل!”
رفع وجهه نحوها بنظرةٍ تنمّ عن قلقٍ صادقٍ في ظاهرها.
“ما حدث حين دفعتِ يد القديسة، كان مجرد خطأ، أليس كذلك؟”
“أنا، ذاك هو……”
“شش، لا تقلقي. أنا أصدقكِ. لستِ مضطرةً لتبرير نفسكِ لي.”
كلماتٌ لطيفة، وثقة مطلقة، وابتسامةٌ رقيقة. وهل ثمة سمٌّ أنجح من هذا لمن شكّ به الناس قبل لحظة؟
“……أجل، فهمت.”
لكنها لم تنطلِ على ليرييل. ليس فقط لأنها تعرف حقيقته، بل لأنها لاحظت شيئًا أهم.
‘يدّعي أنه يصدقني، لكنه لم يلقِ حتى نظرةً على يدي المصابة.’
كان كل ما يعنيه هو مدى نجاح كلماته في كسبها، لا ألمها الحقيقي.
فاكتفت ليرييل بابتسامةٍ مرّةٍ خفيفة، بينما ظل يوليان يحدّق في وجهها دون أن يرى شيئًا آخر.
في الأحوال العادية، كانت ليرييل ستجد حتى هذا الحرص المفرط على المصلحة الشخصية في يوليان أمرًا مثيرًا للإعجاب بوصفه طبعًا من طباع البخلاء الأذكياء.
لكن اليوم، لسببٍ ما، شعرت أن حتى الابتسام مجاملةً له أمرٌ مزعج.
“انظري، ألستِ أكثر جمالًا حين تبتسمين؟”
لم يكن يوليان، الجاهل تمامًا بما يجول في خاطرها، سوى يكرر بسعادةٍ عباراتٍ مبتذلة لا تُقال إلا في أحاديثَ مفعمة بالبهجة.
كان مقتنعًا تمامًا في قرارة نفسه بأنها بدأت تقع في حبه. لكن ليرييل لم تجد أي داعٍ لتصحيح هذا الوهم، بل رأت أنه لا يستحق ثانيةً من وقتها.
ثم تنحنحت مرتين لتقطع نظراته المزعجة، وتعود إلى الهدف الأصلي من وجودها.
“حسنًا، ومتى سنبدأ الخدمة التطوعية؟”
“آه!”
آه ماذا؟ بدا كأنه تذكّر الأمر لتوّه، فكان رد فعله ساذجًا إلى حدٍ لا يُصدق.
وكادت ليرييل أن توبخه قائلة: “هل أنتَ فعلًا رئيس جمعية الإغاثة؟” لكنها أمسكت نفسها، لأن الحقيقة هي أن يوليان لم يكن رئيسًا لجمعية إغاثة أصلًا.
وبينما كانت تفكر في طريقةٍ مناسبة للرد، بادر يوليان بالسير أمامها.
“تمامًا في الوقت المناسب، كنا على وشك البدء. تفضلي واتبعيني.”
‘أخيرًا!’
بمجرد سماعها ذلك، أشرقت ملامح ليرييل التي كانت متوترةً حتى اللحظة.
كانت قد أنهكتها المواجهة الكلامية مع القديسة في أطراف بلدٍ غريب، وهي لا تسعى سوى لأن تصبح “ليرييل الطيبة”.
‘نعم، إن بذلت جهدًا بدنيًا وتعرقت قليلًا، فسأشعر بتحسنٍ بسرعة.’
وهكذا لحقت به بخطواتٍ خفيفة ونشيطة، وعيناها تشعّان بالحماس.
كان وجهها المتحمس أشبه بجروٍ صغير يتبع صاحبه الممسك بطبقٍ من الحلوى.
‘هاه، أصبحت تُظهر إعجابها بي علنًا الآن.’
وفي تلك اللحظة، ارتسم ظلٌّ خبيث على وجه يوليان الذي كان يسير أمامها.
وعندما سمع ترنيمها الصغير خلفه، لعق شفتيه بلا وعي.
‘ما زالت لم تفسخ خطوبتها بعد، لكن تصرفاتها باتت مكشوفةً جدًا، يا آنسة. آه، ماذا لو جاءت إلى خيمتي الليلة؟’
هل يترك باب خيمته مواربًا إذاً؟
لم يدرك أنه كمن يُجهّز الصحون قبل أن يُقرر أحدٌ تقديم الطعام أصلًا.
ضحك بصوتٍ خافت حتى ارتجفت كتفاه، بينما تجاهلته ليرييل تمامًا ووطأت الأرض المغطاة بالرماد بحذائها الجلدي الطويل.
‘بماذا أبدأ؟ علاج الجرحى؟ توزيع الطعام؟ فقط قل لي!’
***
‘آه، كم أنا سعيدة!’
في تلك الأثناء، كانت أنيلا تمشي نحو المُسعف وهي تبتسم بسعادةٍ وكأنها تملك الدنيا بأسرها.
شعرها المتلألئ بألوان الشفق كان يرقص خلفها، وخطاها خفيفة، وبشرتها صافيةٌ خالية من أي أثر جرح. لم يكن في مظهرها ما يوحي بأنها مصابة سوى بقليلٍ من الرماد على أطراف تنورتها وركبتيها.
“هل رأيتِ؟ تلك المرأة بدأت بمضايقة القديسة لمجرد أنها ألقت عليها تحيةً ودّية!”
“رأيت، رأيت! يا لها من ماكرة. مدت يدها لتساعدها ثم دفعتها بقوة!”
لم يبخل الناس بعطفهم وقلقهم الصادق تجاه أنيلا، وصارت نظرات الشفقة تلاحقها في كل خطوة تخطوها.
“يا للأسف، أن تتورط سيدتنا القديسة في دراما غرامية من صنع تلك الشريرة!”
‘صحيح، أليس كذلك؟ ألستُ أنا المظلومة؟’
استمتعت أنيلا بكل تلك النظرات، وزادت من قربها إلى فيريك وهي تسير بجانبه. فانقبض حاجباه في امتعاضٍ واضح، لكنها لم تُعر ذلك اهتمامًا.
“كم هو لطيفٌ سمو ولي العهد. لم يكتفِ بإرسال أحد جنوده، بل رافقها بنفسه إلى المُسعف.”
“انظري إلى وجهه الغاضب! كم يبدو قلقًا وموجوعًا لأجل إصابة القديسة!”
حتى عبوس فيريك المتضايق صار الناس يفسرونه كعلامة على حبه العميق للقديسة.
وإذا كان ما يُسمع من الهمسات حولهم بهذا القدر، فكيف له أن يجرؤ على إبعادها؟
ابتسمت أنيلا برضى خفي، مسرورةً بسير الأمور تمامًا كما أرادت.
التعليقات لهذا الفصل " 32"