ظل يوليان يتحدث بنبرةٍ مهذبة ووديّة كعادته، غير أن فيريك، الذي كان يواجهه مباشرةً، كان الوحيد الذي شعر بالأشواك الخفية خلف كلماته.
فصرّ فيريك أسنانه غيظًا وهو يحاول كبح انفعاله.
“عدد المحتاجين للمساعدة كثير، ولا يمكننا تضييع المتطوعين سدى. من الواضح أن العمل على شكل ثنائياتٍ أكثر كفاءةً من أن يتحرك الأربعة معًا، أليس كذلك؟”
“……أربعة؟ ما الذي تعنيه بأربعة؟”
لكن هذا لم يكن سوى بداية المتاعب؛ فما كان ينتظره كان أسوأ بكثير، وقد أدرك فيريك ذلك بعد لحظاتٍ قليلة، عندما انبثق ضوءٌ ساطع أمام ناظريه، أشبه بشفقٍ مبهِر.
“صاحب السمو ولي العهد~!”
خرج صوتٌ أنثوي رنانٌ من بين الخيام، ومعه ظهرت امرأةٌ بملابس نظيفة تفوق الآخرين نقاءً، وبشرة براقة، وشعرٌ مموج مصففٌ بعنايةٍ يلمع مع كل حركة.
كانت تلك القديسة أنيلا.
“كم أنا سعيدةٌ لقدومكَ! كنتُ بانتظاركَ!”
تجاهلت تعبير فيريك المتحجر تمامًا، وأسرعت إلى الإمساك بيده دون تردد.
ورغم أن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد، إلا أن محيطها بدا وكأنه يغمره النور بوجودها.
“……لم آتِ لأراكِ.”
قال فيريك ذلك ببرود وسحب يده منها فورًا.
‘ما بال هذه المرأة تلمس الناس بلا استئذان كلما رأتهم؟’
كان هناك شيءٌ في مسافة تعاملها مع الآخرين يثير أعصابه دومًا.
“لم أسمع أنكِ ستشاركين في بعثة الإغاثة.”
“أوه، وهل يُعقل أن أبقى مكتوفة اليدين أمام هذه المأساة؟ واجبي كقديسة أن أخلّص الجميع بنوري المقدّس!”
أجابت أنيلا بثقةٍ وزهو، وهي تعلم جيدًا أن مثل هذه الظروف تجعلها تتألق أكثر.
عندها ألقى فيريك عليها نظرةً فاحصة من رأسها حتى قدميها.
فابتسمت أنيلا مبتهجةً وهي تظن أنه يتأملها بإعجاب، لكن الحقيقة أن نظره كان منصبًا على نظافة ملابسها.
“غريب، تبدين نظيفةً أكثر من اللازم. هل شاركتِ فعلاً في أي عمل ميداني؟”
“آه، ذاك لأنني……”
لكن فيريك لم يكن يقصدها شخصيًا، بل كان يلفت النظر إلى نظافة ثوبها المفرطة، وهو ما لا يتناسب مع بيئة الإغاثة المليئة بالغبار والدم.
وكان ذلك طبيعيًا؛ فحالما سمعت بخبر قدوم فيريك، تركت المرضى والمصابين خلفها وانشغلت بتزيين نفسها للقاءه.
عندما شعرت بوخز ملاحظته الدقيقة، لفّت خصلةً من شعرها بإصبعها وهي تبتسم بتصنّع.
“لقد وصلتُ للتو! كنتُ على وشك البدء بالمساعدة!”
كانت تكذب طبعًا. فما إن بلغها خبر قدومه عبر يوليان، حتى سارعت إلى مملكة موماترا، تنتظر بفارغ الصبر لحظة وصوله.
وكان فيريك يشك في صدقها؛ فتعبير وجهه الجامد لم يتغير قيد أنملة. لكن أنيلا تجاهلت ذلك تمامًا، وأمسكت بذراعه هذه المرة، تلتصق به بجرأة.
“ها أنتِ تلمسينني مجددًا من دون إذن. اتركي ذراعي. ولماذا بالضبط يجب أن أرافقكِ أنا؟”
بدأ صبر فيريك ينفذ تمامًا من تصرفاتها المتطفلة.
وقبل أن يتمكن من نزع ذراعها عنه تمامًا، تدخل يوليان بوجهٍ ودود يخفي خلفه ارتباكًا مقصودًا.
“نرجو تفهّم الأمر يا صاحب السمو، فهذه أفضل ترتيباتٍ استطعنا توفيرها.”
“ماذا تعني بذلك؟”
“مهما كانت خدمةً تطوعية، فمقام ولي العهد يستوجب معاملةً تليق به. لا يمكننا أن نضع أي شخص عادي إلى جواره، أليس كذلك؟”
كان منطقه يبدو معقولًا من منظور رئيس منظمة إغاثة. لكن الحقيقة أن دوافعه كانت أبعد ما تكون عن البراءة.
منذ أن بعث برسالةٍ إلى ليرييل يقترح فيها المشاركة في الإغاثة، بل وحتى اقتراحه على البلاط الملكي أن يشارك ولي العهد لتحسين صورته العامة — كان كل شيءٍ جزءًا من خطةٍ مُسبقة.
تابع يوليان حديثه بنبرةٍ مفعمةٍ بالاحترام الزائف، يمدح القديسة أنيلا ويُضفي الشرعية على كونها شريكة فيريك في المهمة.
“ولحسن الحظ، وافقت القديسة الموقرة — التي أوفدها المعبد مصادفة — على المشاركة في هذه البعثة، فطلبنا منها مرافقة سموكَ. نحن مدينون لها بالشكر الجزيل.”
“أوه، لا داعي للشكر يا يوليان. هذا واجبي كقديسة، بعد كل شيء.”
كل شيء كان يسير وفق نصّ مكتوبٍ سلفًا.
حتى ردّة فعل فيريك التالية كانوا قد تنبأوا بها مسبقًا.
“……وماذا إن رفضتُ؟ أظن أن العمل بمفردي سيكون أفضل بكثير.”
“معذرةً يا صاحب السمو، لكننا لا نستطيع تجاوز ذلك. لو انتشرت شائعاتٌ عن سوء المعاملة أو الإهمال في حقكَ، فقد يُسيء ذلك لسمعة منظمتنا.”
“لكن ليرييل خطيبتي. أتريدون مني أن أقف متفرجًا بينما تتجول برفقة رجلٍ غريبٍ وحدها؟”
“لأنها متطوّعةٌ في بعثة الإغاثة أيضًا، وكنتُ أظن أنكَ أتيتَ واضعاً ذلك في الحسبان، ولكن إن كانت الأولوية للعلاقات العاطفية الشخصية، فليس لنا إلا أن نذعن للأمر الواقع.”
كان كل شيءٍ مُعدٌّ سلفًا.
نظر فيريك إلى يوليان الذي أجابه دون أن يترك له ثغرةً واحدة، وشعر أن صبره وصل إلى أقصاه.
كانت راحة يده محفورةً بعلامات أظافره التي غرزها من شدة قبضته، وعيناه الحمراوان تحدّقان بيوليان بوحشيةٍ وكأنه ينظر إلى عدوّ لدود.
“لذلك، نرجو منكَ أن تنعم، بصحبة القديسة، بالعطف والرأفة ما استطعتَ. هيا، ليرييل، من هذا الاتجاه……”
“آه، أنا……”
قبل أن تكمل، كان يوليان قد أحاط خصرها بذراعه وساعدها على التقدّم أمام الجميع.
و أرادت ليرييل أن تقول شيئًا، لكن صوت أنيلا الحيوي طغى على كل ما سواه.
“آه، أنظروا! هناك مصاب! يجب أن أذهب لمعالجته فورًا! هيا بنا!”
ضغطت بقوةٍ على ذراعه التي تشابكت معها دون إذن، وسحبته للأمام بحماسة.
وفيريك، الذي لطالما كره أن يلمسه أحدٌ بلا استئذان، شعر باشمئزاز بالغ من ذلك التصرّف.
“قلتُ لكِ، اتركي يدي! ليرييل، لا تتحركي خطوةً واحدة من مكانكِ. سأُنهي هذا الآن.”
“هذا……”
“إنهاء ماذا يا صاحب السمو؟ ألم نتفق بالفعل؟”
“بالضبط! فمَن غيري يستطيع أن يحرس ولي العهد؟ اعتمد فقط على قوى هذه القديسة المباركة!”
ولم تكد تنهي جملتها حتى مرّت أنيلا بأناملها على ظاهر يده من جديد. حينها بلغ فيريك حدود احتماله.
لقد صبر مرارًا، لكنه لم يعد قادرًا على كبح نفسه. وبالتالي، ما سيفعله الآن لا يُعدّ إلا دفاعًا عن النفس.
“هاه……”
زفر أنفاسًا ثقيلة، ثم أمسك بذراعها وفكّ تشابكها بالقوة قبل أن يتراجع خطوةً إلى الوراء. وبقوة الاندفاع، هوَت أنيلا أرضًا لتسقط على وجهها مباشرة.
تناثرت خصلات شعرها اللامعة بلون الشفق على التراب، فاختلط بريقها الرمادي بالرماد الأسود العالق بالأرض.
أصبحت القديسة التي كانت تتبختر قبل لحظات محطّ أنظار الجميع، بعد سقوطها المضحك المريع.
‘……ما هذا؟’
بقيت أنيلا ممدةً على الأرض تحدّق في الفراغ، غير مستوعبة ما حدث.
‘هل رماني للتو أرضًا؟ أنا؟ رغم كل ما فعلته من أجله؟’
لم تجد تفسيرًا مقنعًا لذلك.
حتى إن لم يبدُ مهتمًا بها من قبل، إلا أن هذه المرة كانت أكثر جرأةً في تقرّبها.
نادراً ما كان الرجال يقاومونها، وإن فعلوا فليسوا سوى شواذٍ عن القاعدة، مثل يوليان مثلًا.
لم يسبق أن قابلت رجلًا كرهها لأنها ليست “المرأة الأخرى” التي يريدها. فهي القديسة أنيلا ميديا، المحبوبة من الجميع — أو هكذا كانت تظن.
فلماذا يستمر كل شيءٍ في الانحدار على هذا النحو؟
وهي غارقةٌ في أفكارها تلك، رفعت رأسها ببطء، لتقع عيناها على مقدّمة حذاءٍ جلدي أسود فاخر يقف أمامها.
رفعت نظرها تدريجيًا — إلى الدانتيل الأسود الذي يزيّن أطراف الفستان، ثم إلى الشريط الرمادي الواسع الذي يلفّ خصرها بإتقان، ثم إلى اللآلئ السوداء المتناثرة على الرداء ودبوس الفضة الأنيق على صدرها، قبل أن تصطدم ببريق شعرٍ بلونٍ فريد.
كان اللون أقرب إلى الأحمر، لكنه يعكس لمعةً برتقالية مدهشة جعلت ملامحها تبدو أكثر سحرًا في تباينها مع ثوبها الداكن.
أنفٌ مستقيم، شفاهٌ باردة الملمح، وعينان خضراوان عميقتان لا يُعرف قرارهما — مزيجٌ من الجمال والرهبة في آنٍ واحد.
حين رفعت رأسها تمامًا، التقت نظراتهما للمرة الأولى.
ليرييل تينيبريس. كانت تنظر إليها من الأعلا بعينين باردتين لا تخلو من الكبرياء.
التقت عين البطلة وعين “الشريرة” أخيرًا.
لقاءٌ حاول القدر تأجيله مرارًا، لكنه الآن قد تمّ — وعادت تروس الرواية المتوقفة إلى الدوران من جديد.
التعليقات لهذا الفصل " 30"