تمتمت ليرييل مذهولةً وهي تحدّق من نافذة العربة في المشهد البائس الممتد أمامها. وكلما اقتربت من مملكة موماترا، ازداد المشهد فداحةً ووضوحًا.
‘هذا أسوأ مما تخيّلت……’
كان الطريق في حالةٍ لا يمكن تصديق أن البشر يسيرون عليه. و كانت بقع الدم تلطّخ الأرض هنا وهناك، ومعظم المنازل تهدمت ولم يبقَ منها سوى الهياكل العظمية الخشبية.
إذا كان هذا حال أطراف المملكة، فكيف يكون الوضع في داخلها؟
ومع كون موماترا مملكةٌ صغيرة بالأساس، فلا شك أن الضرر كان أفظع.
وبينما كانت ليرييل تغلب ألمها من هول ما ترى، وقعت عيناها على رايةٍ بيضاء ترفرف في البعيد، وقد رُسمت عليها أجنحة.
كانت تلك علامةً على وجود مأوى مؤقتٍ أقامته إحدى الجمعيات الإغاثية.
في عالمٍ غمره السواد والدخان والرماد، كانت تلك الراية وحدها ترفرف ناصعةً لا تمسّها القذارة، كأنها تبعث الأمل في وسط الخراب.
ومع رؤيتها لذلك المشهد، استجمعت ليرييل عزمها من جديد.
‘صحيح……إن كنت أريد أن أُثبت أنني تغيّرت، فعليّ أن أُظهر ذلك بأفعالي.’
لم يكن في نيتها قط أن تتظاهر بالمساعدة ثم تعود أدراجها.
كانت تفعل هذا من أجل مستقبلها، ومن أجل هؤلاء الناس الذين يتوقون إلى أدنى بصيصٍ من العون.
أقسمت في قلبها أنها، هذه المرة، ستبذل قصارى جهدها لا كابنةٍ لعائلة تينيبريس، بل كمتطوّعةٍ حقيقية.
“لقد وصلنا إلى وجهتنا!”
بعد لحظات، توقّفت العربة أمام مخيّمٍ من الخيام البيضاء، حيث أقيم مركز الإغاثة المؤقت.
وما إن فُتح باب العربة حتى اندفع إلى الداخل هواءٌ خانق مشبعٌ برائحة الرماد. فلم تستطع ليرييل إلا أن تسعل بخفة، بينما بدا فيريك وكأنه معتادٌ على مثل هذا الهواء، إذ نزل بثباتٍ دون أن يتأثر.
فهو، بصفته وليّ العهد، زار دولًا عديدة من قبل وشهد مناظرَ أكثر قسوةً من هذه. وإن كانت هذه أول مرة يشارك فيها بعملٍ تطوّعيٍ فعلي.
كان الهدف الرسمي من مشاركته هو تحسين صورة العائلة المالكة، لذا لم يكن من المفترض أن يفعل أكثر من تشجيع المتطوعين ورفع معنويات الجنود.
لكنّه في قرارة نفسه فكّر،
‘إن كانت ليرييل تفعل هذا بنفسها، فليس لديّ عذرٌ يمنعني من فعل الشيء نفسه.’
ومن ثم، قرر أن يخوض العمل التطوّعي فعليًا، لا شكليًا.
وبينما كان يرى أحد المسؤولين يركض نحوهم وقد لاحظ عربة العائلة المالكة، بدأ فيريك يرفع كُمّيه مستعدًا للعمل.
لقد قال أنه سيراقب ليرييل، لذا لا يمكنه أن يبقى متفرّجًا فقط. فأسبوعٌ كامل ينتظرهما هنا، وقد عزم على ألا يكون أداؤه أقل من أدائها أبدًا.
لكن بينما كان يستعد للتحدث مع المشرف الإغاثي ليبلغه برغبته في المشاركة، سمع صوتًا ينادي من بعيد،
“أوه، لقد جئتِ، يا ليرييل!”
كان الصوت دافئًا مألوفًا، فانعقدت ملامح فيريك للحظة. و استدار ليرى شابًا بسيط المظهر بشعرٍ كالقشّ، يزيح ستارة إحدى الخيام ويخرج منها.
كان جبينه متعرّقًا، مما يدل على أنه كان يساعد الآخرين حتى وقتٍ قريب.
اقترب الشاب بخطواتٍ مفعمةٍ بالحيوية وابتسامةٍ مشرقة نحو ليرييل، لكنه تجمّد حين وقعت عيناه على فيريك وعربته الفاخرة.
رمش مرتين بعينيه الرماديتين في دهشةٍ حائرة.
“هاه……؟ سموك؟ هل جئتما معًا؟ لم أُبلّغ بأنكما ستركبان نفس العربة.”
“آه، ذاك لأن……”
تلعثمت ليرييل قليلًا، غير متأكدةٍ من مدى صدقها الذي يمكن أن تصرّح به.
هل يجب أن تقول الحقيقة، بأنها تسللت خلسةً من القصر و هربت في عربة وليّ العهد لتصل إلى هنا؟
لم يكن الأمر متعلقًا بكرامتها فحسب، بل بخطر أن تُثير قلق جمعية الإغاثة من اسم عائلة تينيبريس، فيعيدوها من حيث أتت.
‘لو كنتُ أعلم، لاتّفقت معه مسبقًا على قصةٍ واحدة على الأقل……’
وبينما كانت تنظر بخفة إلى فيريك طالبةً العون بعينيها، ردّ هو بصوتٍ ثابتٍ سبقها،
“أنا من عرضتُ أن نركب معًا. نحن خطيبان في النهاية، فسيبدو الأمر غريبًا إن جئنا كلٌّ في عربةٍ منفصلة.”
ثم وقف بخطوةٍ هادئة أمامها، مانعًا الشاب من الاقتراب أكثر. فاتّسعت عينا ليرييل بدهشةٍ خفيفة.
لم تطلب منه قول شيءٍ كهذا. فهل قاله بدافع المساعدة لأنه شعر بحيرتها؟
رمشت بسرعةٍ وهي تحدّق في ظهره العريض الذي ملأ المشهد أمامها، وشعورٌ بالارتباك يختلط فيه الامتنان سرى في داخلها.
“آه، فهمتُ الآن……”
في تلك اللحظة شعر فيريك بنظرات الشاب تتغير، فانعقد حاجباه تلقائيًا.
كانت نظرةً باردةً قصيرة، لكنها كافية ليشعر منها بوضوحٍ بالعداء نحوه.
فكاد أن يضحك ساخرًا من نفسه.
‘مهما كانت علاقتنا سيئة، فهي تبقى خطيبتي رسميًا، ومع ذلك لا يتردد هذا الفتى في النظر إليها بتلك الطريقة؟’
‘كما توقعت……يبدو أن لهذا الشاب المبتسم جانبًا مظلمًا لا يليق كثيرًا بمتطوعٍ خيّر.’
“سموك……؟”
تقدّم خطوةً نحوها، ثم مرّر ذراعه حول خصر ليرييل بهدوءٍ ليسحبها خلفه.
أما الشاب، يوليان، فلم يفعل شيئًا سوى أن ابتسم ابتسامةً لطيفة، وكأن شيئًا لم يحدث.
‘انظر إليه……كم يبدو حذرًا. حتى وإن كانا على وشك الانفصال، فهو لا يزال يريد أن يُظهر للجميع أنها ملكه الآن.’
‘سمعتُ أنهما على علاقة سيئة، ولا أفهم لماذا يتظاهر الآن بأنه حبيبها، لكن لديَ ما يبرر أخذي لليرييل معي.’
لم تكن هناك حاجةٌ لأن يجبرها على المجيء إلى جانبه، لأنها ستأتي بنفسها عاجلاً أم آجلاً.
سخر يوليان من فيريك في نفسه ثم فتح فمه،
“على كل حال، شكرًا لقدومكما. إذًا، ليرييل، تعالي من هذا الجانب. كشريكٍ في خدمة الإغاثة الميدانية، سأخبركٍ بما يجب فعله وكيفية القيام به.”
مدّ يده نحوها متظاهراً بلطف، ولم يكن في قوله ما يثير الريبة للوهلة الأولى. فقد كان بالفعل الشريك المكلّف بمرافقة ليرييل، بل إن ذلك التكليف تمّ بناءً على طلبها شخصيًا.
‘يحاول التقرب منها فور وصوله؟ كما توقعت، لا يفكر إلا في المكاسب دائماً.’
ولم تجد ليرييل ما يثير الغرابة أيضًا، فخرجت من وراء ظهر فيريك متجهةً نحو يوليان.
“إلى أين تظنين أنكِ ذاهبة؟”
“صـ……صاحب السمو؟”
لكن قبل أن تجيب، أبعد فيريك يد يوليان رافضًا اقتراحه نيابةً عنها.
نادت ليرييل اسمه في دهشة، لكنه اكتفى بالنظر إليها بنظراتٍ حادة آمراً إياها بالبقاء مكانها.
فشعرت ليرييل بالذهول؛ كيف أنه حين طلبت منه أن يسمح لها بركوب العربة معه بدا منزعجًا، والآن بعد الوصول، صار هو من لا يتركها تبتعد!
لم تستطع أن تفهم ما الذي يدور في رأسه.
‘أيمكن أنه يظن أنني متواطئةٌ مع يوليان؟!’
كان هذا التفسير الوحيد المعقول في نظرها. فقد بدا وجهه متجهّمًا منذ أن أخبرته أنها تلقت رسالةً من يوليان يعرض فيها المشاركة بخدمة الإغاثة الميدانية.
‘آه، ومن أين أبدأ في توضيح سوء الفهم هذا مجددًا؟! كل ما أردته هو أن أستفيد قليلًا من سمعة “الجناح الأبيض”، وربما أتعلم منه كيف يتعامل المرء عندما يُنبذ من عائلته!’
وبينما كانت ليرييل تفكر بحلّ ما، كان فيريك أكثر حذرًا من أي وقتٍ مضى، يحدّق في يوليان كذئبٍ متحفّز يدافع عن شيءٍ عزيز عليه.
“كيف تجرؤ على لمس امرأةٍ مخطوبة؟”
“لم يخطر ببالي أبدًا شيءٌ كهذا. كل ما في الأمر أنني وعدت ليرييل، أو بالأحرى، الآنسة، بأن أرافقها في عملها التطوعي، وأردتُ فقط الوفاء بوعدي.”
اهتزّت ابتسامة يوليان قليلًا من الألم الذي تركته صفعة فيريك على يده، لكنه ظل محتفظًا بقناع الهدوء.
وكان هذا تحديدًا ما يثير ضيق فيريك أكثر من أي شيء آخر — تلك الطريقة الهادئة في الكلام التي تجعله يبدو هو المتوتر والمتحامل، كانت تستفزه بشدة.
“ليرييل؟ ومن سمح لكَ بمناداتها باسمها مباشرة؟ إنها آنسة من عائلة تينيبريس، وخطيبتي الرسمية حاليًا. ألا تعرف كيف تُبدي الاحترام اللائق؟”
“إنكَ تسيء الظن بي يا صاحب السمو. مناداتي للآنسة باسمها، وعملي معها كشريك في الخدمة، كلاهما تم بموافقتها شخصيًا.”
“هل هذا صحيح يا ليرييل؟”
“نـ……نعم، هذا صحيح.”
ولأنها أكدت ذلك بنفسها، لم يجد فيريك مبررًا للإمساك بها أكثر، فأفلتها بتعبيرٍ متحفظ على وجهه.
عندها وقفت ليرييل بينهما بحذر، تراقب الجو المشحون بين الرجلين متمنيةً أن يكون ما تشعر به مجرد وهم.
غير أن القلق تسلل إليها، والعرق البارد بدأ يتصبب من جبينها بينما استمرت المواجهة بين الاثنين.
“إذاً، سأرافقكما أنا أيضًا. أظن أن لي الحق في ذلك.”
“كنتُ أتمنى لو أستطيع تلبية رغبتكَ، يا صاحب السمو، ولكن……”
“هل تنوي الرفض؟ أحقًا تجرؤ؟”
“الوضع لا يسمح، يا صاحب السمو. كما تر، بعينيكَ.”
_________________________
ما أذكر فيه تصنيف مهووس مافيه الا ان فيريك انجن 🤏🏻 بس ترا جنتله حتى وهو مايحبها بس ذي خطيبته عيب احد يلمسها 🙂↕️
التعليقات لهذا الفصل " 29"