بعد انتهاء المواجهة القصيرة مع مالكوم، أسرعت ليرييل نحو الزقاق خلف قصر الدوق، حيث كانت قد اتفقت على لقاء فيريك.
لحسن الحظ، لم تُكشف خطتها قبل انطلاقها لتفشل من البداية، لكنها لم تستطع تفادي التأخير عن الموعد المحدد.
‘آمل ألا يكون قد تركني ورحل قبلي فقط.’
وما إن استدارت عند المنعطف وهي تحمل في داخلها بعض القلق حتى……
“لقد تأخرتِ.”
رحّبت بها من داخل العربة عينان حمراوان بنظرةٍ باردة.
كانت نظراته تسري صعودًا وهبوطًا على هيئتها، وكأنها تقول ما هذا اللباس؟ بنبرة لا تخلو من البرود.
لكن رغم ذلك، كان هذا أهون مئة مرة من أسوأ ما كانت تتخيله.
تنفّست ليرييل الصعداء بارتياحٍ وهي تشكر حظها على أنه لم يتخلَّ عنها، محاوِلةً تهدئة أنفاسها المضطربة.
“أعتذر، كانت هناك بعض الظروف.”
ثم فتح السائق، الذي عرف هويتها، باب العربة لها بوجهٍ متجهم.
ما الذي يجعل الآنسة الشريرة من عائلة تينيبريس تركب عربةً واحدة مع ولي العهد في مثل هذا الفجر؟
كانت ملامحه تقول ذلك بوضوح، غير أن ليرييل لم تجد داعيًا للرد أو التبرير، فصعدت إلى العربة بهدوء.
و بعد أن عُلّق حقيبها الجلدية الصغيرة في الخلف، بدأت العربة بالتحرك مجددًا.
دقدق!
أخذت العجلات تدور بقوة وهي تسرع في طريقها. وبمرور الوقت بدأ ملمس الطريق يصبح أكثر خشونة.
وحين صار الطريق ترابيًا بالكامل، كانت العربة التي تقلّهما قد غادرت مملكة تريان تمامًا متجهةً نحو مملكة موماترا.
رفعت ليرييل نظرها إلى السماء الصافية التي لم تُلطّخها غيمةٌ واحدة وأغمضت عينيها قليلًا.
‘يا لها من أجواءٍ محرجة……’
بل في الحقيقة لم تكن تستمتع بالمنظر بقدر ما كانت تتهرب من النظر إلى الداخل.
مرّت عشر دقائق على انطلاق العربة، ومع ذلك لم يتبادل الاثنان أي كلمة. كان مشهدًا غريبًا بالنسبة لخطيبين، لكنه لم يكن مفاجئًا إذا اعتُبرا عدوين.
‘هل يكره حتى فكرة الحديث معي؟’
لكن، مهما كان الأمر، فهناك حدودٌ للصمت أيضًا.
ومع مرور عشرين دقيقة أخرى دون أن ينطق بكلمة واحدة، لم تستطع ليرييل التحمل أكثر.
أن تقضي ما تبقّى من الساعة القادمة في هذا الصمت بدا كابوسًا. و كانت تستعد لفتح حديث عابر لكسر الجمود.
“ذا……ذاك……”
كررررااااااك!!
من بعيد، دوّى صوت صراخٍ غريب مقشعرٍّ للبدن، فحلّ محل كلماتها المقطوعة.
ارتجفت ليرييل لا إراديًا عند سماعه، كان صدى الصوت يشقّ الغريزة الإنسانية كالسيف، صرخةٌ غير مألوفة تثير الاشمئزاز.
“ما كان ذلك……؟”
“يبدو أنكِ تسمعينه لأول مرة.”
عندها فقط فتح فيريك فمه بعد طول صمت، وببطءٍ ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ ساخرة وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة.
“تلك صرخة مخلوقٍ شيطاني. وبالنظر إلى وجهتنا، فليس غريبًا أن نسمع مثل هذا.”
“مخلوقٌ شيطاني……”
تبدّل وجه ليرييل إلى شيءٍ أكثر جدية.
لم يكن سبب اضطرابها الخوف نفسه، فلو كانت ليرييل الأصلية، النبيلة التي تربت في القصر، لارتعبت حقًا. أما الآن، فهي «هان جيور» التي سكنت جسدها، وكانت قد قرأت الرواية مسبقًا ورأت رسوم المخلوقات الشيطانية فيها.
لكن اضطرابها هذه المرة كان لسبب آخر.
‘هل كانت هذه هي الحلقة التي كاد فيها فيريك أن يموت لأول مرة؟’
بحسب ما تعرفه، فإن فيريك سيتعرض في هذه المهمة التطوعية لهجومٍ مفاجئ من مخلوقاتٍ شيطانية، وسيحاول التصدي لها وحده حتى يوشك على الموت.
وبالطبع، كونه البطل، فلن يُقتل بهذه البساطة، إذ ستظهر البطلة أنِيلا في اللحظة المناسبة لتنقذه، وهناك سيتأكدان من حبهما لبعضهما.
‘لكني لا أريد أن أرى أحدًا يُصاب أمامي مرة أخرى……’
ومع ذلك، تركُ الحادثة لتقع كما هي كان شعورًا لا تحتمله. ف اختلطت في صدرها مشاعر ثقيلة.
نظرت خلسةً إلى فيريك الجالس أمامها.
أن يتلطخ ذلك الشعر الأشقر الباهت حد اللمعان بالدماء، وأن تفقد تلك العينان القرمزيتان بريقهما شيئًا فشيئًا……
مجرد تخيّل المشهد جعل صدرها يضيق.
“هل تخافين؟”
“عذرًا؟”
“هاه، لا عجب. بالنسبة إلى آنسةٍ عاشت عمرها في قصر الدوق دون أن ترى قطرة دم، فسيبدو لها كل هذا فظيعًا بلا شك.”
ربما أساء تفسير ملامح وجهها، فنهض من مقعده وخطا خطوةً نحوها.
ورغم أن العربة تهتز بشدة على الطريق الوعر، إلا أنه لم يفقد توازنه لحظةً واحدة.
ثم مد ذراعه ووضع كفّه على الجدار خلف رأسها مباشرة، في حركةٍ توحي بأنه لن يسمح لها بالهرب من سؤاله.
“لقد رأيتُ مثل هذه المشاهد مرارًا أثناء سفري بين البلدان. هل رأيتِ يومًا أطفالًا يجلسون باكين وقد فقدوا والديهم على أرضٍ مضرجةٍ بالدماء؟ أو أشخاصًا يصرخون من الألم لأن جراحهم تعفّنت بسبب دماء المخلوقات الشيطانية السامة؟”
اخترق صوته المنخفض أذنها كطعنةٍ باردة، وكان يحمل من الكراهية ما يكفي ليجعلها تشعر وكأنها مهددةٌ من وحشٍ مفترس.
“مهما تخيّلتِ، فالحقيقة ستكون أفظع من ذلك بكثير. لذا أُحذّركِ، إن كنتِ تنوين العودة، فالآن هي فرصتكِ الوحيدة يا ليرييل.”
رمقها فيريك من الأعلى بنظرةٍ صامتة، كما لو كان يختبرها. و كل ردّة فعل تُبديها الآن ستكون معيارًا للحكم عليها.
وليرييل التي كانت تدرك هذا تمامًا، لم تتجنب نظراته، بل رفعت عينيها نحوه بثبات.
بطبيعة الحال، القول أنها لم تكن خائفة سيكون كذبًا. حتى وإن كانت تعرف مجريات القصة مسبقًا، فمشاهدة المأساة بعينيها أمرٌ آخر تمامًا.
لكنها كانت قد حسمت أمرها منذ البداية. وكما هو الحال دائمًا، كانت تنوي المشاركة في هذه المهمة بكل إخلاص.
لذلك كان جوابها محددًا سلفًا، فردّت دون أن ترمش أو تتردد،
“أشكركَ على قلقكَ، لكنني لن أعود.”
“……ومن قال أنني قَلِق؟”
زمّ فيريك حاجبيه بامتعاض، وكأن الكلمة نفسها كانت تثير غضبه.
أي مجنونٍ في الدنيا قد يقلق على امرأةٍ شريرة كانت سبب سقوطه؟
لم يكن في كلامه أي نيةٍ للشفقة. كل ما في الأمر أنه أراد فقط تهديدها، حتى لا تبدأ بالبكاء والرجاء بالعودة حين يخيفها ما ستراه هناك، فيتعب هو من أمرها لاحقًا.
لم يكن ذلك “قلقًا” مطلقًا.
لكن قبل أن يتمكن من الرد، سبقتْه ليرييل بالكلام. ولم يكن على وجهها أثرٌ لتلك الابتسامة المتغطرسة التي كانت تميزها في الماضي.
فمنذ أن بدأت الشائعات تنتشر بأنها تغيّرت وصارت طيبة، لم تعد تسخر من أحد.
“سمعت كثيرًا عن مدى خطورة وصعوبة مهام الإغاثة الميدانية. ومع ذلك، كان قراري بالمجيء إلى هنا قراري أنا وحدي.”
“…!…”
“ولأنني لا أريد أن أندم على قراري، فلن أعود أدراجي. ما دمتُ قد بدأت، فسأبذل قصارى جهدي لمساعدة كل من أستطيع مساعدته.”
كان صوتها حازمًا لا يتزعزع، لدرجة جعلت فيريك عاجزًا عن الرد.
كان في داخله ميلٌ لأن يسخر من كلماتها، أن يقول أنها كاذبة، وأن هذا كله مجرد ادّعاءٍ زائف سينكشف قريبًا.
و كان يريد أن يضحك منها قائلًا: كيف لامرأةٍ عاشت حياتها شريرةً أن تدّعي الآن أنها تساعد الناس؟
ربما لو فعل ذلك لاستعاد زمام الحوار، لكنه لم يستطع. فقد كان هو نفسه قد رأى بأمّ عينيه كيف أنها في كل مرة تشارك فيها بخدمةٍ تطوعية، تبذل أقصى جهدها بصدق.
“بما أنني جئتُ إلى هنا، فلن أكتفي بالتمثيل ثم أعود. سواءً كان تنظيفًا أو اللعب مع الأطفال أو أي عملٍ شاق، سأفعل كل ما يُطلب مني بإخلاص. وسأضع قلبي في كل ما أقوم به.”
“…….”
“وأنتَ أيضًا، لا فرق إن كنتَ وليّ العهد أو نبيلًا. ما دمتَ أتيتَ للمساعدة، فافعلها بصمتٍ بدلًا من الحكم على نوايا الآخرين.”
لم يحتج إلى التفكير طويلًا. فهو يتذكر ذلك اليوم قبل بضعة أسابيع فقط، حين خرجا معًا في عملٍ تطوعي داخل المعبد.
حينها حاول فيريك بشتى الطرق استفزازها وسبر نواياها، مستخدمًا كلماته كسلاحٍ للتهكم.
لكن كيف كانت ردة فعلها وقتها؟ لقد عملت بجدٍّ رغم كل شيء، حتى أنها قادت بنفسها مشروع العقد بين دار الأيتام و مخبز ريمينغتون.
كانت تلعب مع الأطفال حتى اتّسخت ملابسها الفاخرة بالرمل، دون أن تبدي ضيقًا.
و حتى لو كانت نيتها الحقيقية آنذاك أن تُطرد من عائلتها، فإن ما فعلته من خيرٍ كان صادقًا تمامًا.
ولا يزال فيريك يتذكر وجوه الأطفال الذين أكلوا الخبز الطري بفرحٍ غامر، وكيف لم يستطع أن ينكر صدق سعادتها بينهم.
“سنرى إذًا……إن كنتِ قادرةً على قول الشيء نفسه بعد أن نصل.”
تلك كانت كلماته الوحيدة قبل أن يسحب ذراعه ويتراجع بهدوء.
“أتمنى أن تفعل، لأنني سأثبت ذلك بأفعالي.”
ردّت ليرييل وهي تتابع بعينيها خطواته نحو مقعده المقابل. بينما بقي نظره عليها، وهي كذلك لم تتجنب عينيه.
من خلف نافذة العربة، التقت نظراتهما؛ خضراءٌ في مواجهة حمراءٍ متوهجة.
ساد الصمت في العربة من جديد، ولم ينطق أيٌّ منهما بكلمةٍ حتى لحظة دخولهم حدود مملكة موماترا.
كانا يجلسان في مواجهةٍ صامتة، وكلٌّ منهما غارقٌ في أفكاره، والعربة تهتز بهما على الطريق.
ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى ظهرت على الأفق خطوط الجبهة الأمامية لمملكة موماترا، وكان الدخان الأسود المتصاعد يلطّخ السماء الصافية بمشهدٍ ينذر بالشؤم.
______________________
احس واضحه ذا الحدث بيقلب الدور بين انيلا وليرييل 😂
وفيريك في الروايه الاصليه بدل يطيح لأنيلا بيطيح لليرييل فوق طيحته الي مايدري عنها 😘
التعليقات لهذا الفصل " 28"