“و سمعتُ أنكِ منحتِ لورلاي إجازةً حين مرض طفلها، حتى تتمكن من العودة إلى المنزل مبكرًا، وأنكِ أيضًا سامحتِ جاك حين كسر إحدى الصحون.”
“هل فعلتُ ذلك فعلًا؟”
“نعم. ووفقًا لما قالته إيليا، يا آنسة، أنتِ كذلك..…”
كان صوته أشبه بأمين مكتبةٍ يقرأ من كتابٍ يؤرّخ الوقائع.
وكلما أخذ يسرد واحدةً من “الأعمال الصالحة” التي قامت بها “ليرييل” في هذا القصر، كانت هي تستعيد شيئًا فشيئًا ما فعلته في الأيام الماضية.
بصراحة، لم يكن أيٌّ من تلك الأفعال عظيمًا. كانت جميعها من النوع الذي يقوم به أي شخصٍ عادي بدافع البديهة الإنسانية، لا أكثر.
لكن كونها صدرت في قلب بيت الدوق الشرير جعلها تبدو أكثر تفرّدًا وتأثيرًا.
“الجميع أثنوا عليكِ يا آنسة ليرييل. قالوا أنهم ممتنون لكِ. حتى وإن ظل الخوف منك في قلوبهم، إلا أنهم لم يستطيعوا إنكار ذلك.”
لكن ليرييل لم تكن تدرك أن تلك اللفتات الصغيرة، مهما بدت بسيطة، كانت بالنسبة لخدم هذا البيت شيئًا نادرًا وعظيمًا في آنٍ واحد.
توقّف مالكوم عن الكلام لحظة، وهو يرمقها بعينين جامدتين، غير أن نبرته القاسية خفّت قليلًا، كأن دفئًا خافتًا تسرّب إلى صوته.
“هذه أول مرة منذ عشرين عامًا لا يُطرَد فيها أيّ خادم خلال أسبوعين كاملين. امتلأ هذا القصر المتوتر دومًا بشيء من الحيوية والسكينة….وكيف أقولها..…”
“…….”
“لم يكن ذلك…..سيئًا.”
ساد الصمت برهةً، ولم يُسمع سوى صوت بومةٍ تنوح خارج النافذة.
سعل مالكوم بخفة لكسر جو الصمت، ثم استعاد نبرته المعتادة الجافة، لكن ليرييل لم تعد تراه مرعبًا كما في السابق.
“بالطبع، لا يعني هذا أنني أستطيع التغاضي عن جميع تصرفاتكِ يا آنسة. فبصفتي خادمًا لعائلة تينيبريس، يجب أن أضع إرادة السيد أنوين فوق كل شيء.”
لكن، رغم ما قاله، تابع سيره نحو الباب الخلفي وفتحه لها بنفسه.
صرير المفصلات تبعته نسمة هواء باردة، كشفت عن سماءٍ مرصّعةٍ بالنجوم.
“لذا، اعتبري أن أحدًا لم يمرّ بهذه الممرات الليلة. هل فهمتِ؟”
“مالكوم…….”
“أتمنى لكِ رحلةً آمنة يا آنسة.”
انحنى احترامًا، بكل وقار.
كانت تلك المرة الأولى التي تشعر فيها ليرييل أن فعلها الطيب قد عاد إليها بفعلٍ طيبٍ مماثل.
اختنق صوتها بشيءٍ من التأثر، لكنها لم تكن تملك وقتًا لتغرق في المشاعر الآن. فأمسكت بحقيبتها بإحكام، واستعادت تركيزها.
كانت هذه الفرصة التي منحها إياها مالكوم، ولا يمكنها إضاعتها بسبب التردد.
“شكرًا لكَ…..سأعود قريبًا!”
همست بخفةٍ وهي تخطو خارج الباب الخلفي. وسرعان ما ابتلعها ظلام الليل، كأن ستارًا أسود قد أسدل ليخفي أثرها.
و بقي مالكوم واقفًا للحظات، يحدّق في الجهة التي رحلت نحوها، قبل أن يغلق الباب بهدوء ويعود إلى الداخل.
لم يكن بطبعه رجلًا متساهلًا، لكن ما رأى من تغيّر ليرييل في الآونة الأخيرة بدا وكأنه أذاب بعضًا من صلابته الحديدية.
‘في مثل سني هذا…..أصبحت عاطفتي أضعف.’
تمتم لنفسه بجفاف، ثم بدأ جولته الليلية المعتادة.
كانت خطواته، كما هي دائمًا، ثابتةً وصلبة، غير أن قلبه كان مختلفًا هذه المرة، يضطرب داخله تموّجٌ صغير من المشاعر.
‘أن تقول الآنسة ليرييل “شكرًا”…..لم أسمع مثل هذا في عشرين عامًا الماضية.’
أحسّ بابتسامةٍ خفيفة ترتسم لا إراديًا على فمه الجاف الصارم.
‘ما هذا الإحساس؟ غريب…..ومزعجٌ قليلًا.’
لكن ما شعر به لم يكن إلا الرضا. ولم يُدرك أن هذا ما هو عليه إلا بعد زمنٍ طويل.
وبينما كان يمضي في الممر، كانت البذور التي زرعتها ليرييل في هذا القصر الآثم تبدأ لتوّها بالإنبات.
أنبتت براعم صغيرةً خضراء من الخير وسط ظلال الشرّ.
تابع مالكوم سيره، حتى وقف أمام بابٍ فخمٍ منقوش. و عاد وجهه الجامد إلى ملامحه المعتادة، وطرق الباب ثلاث مرات.
طَق، طَق، طَق— فامتلأ الممرّ فجأة بهيبةٍ ثقيلة.
و لم تمضِ لحظاتٌ حتى جاء صوتٌ من الداخل،
“ادخل.”
دخل مالكوم بهدوءٍ دون أن يصدر صوت المقبض.
و كان المكتب الذي يفترض أن يكون فارغًا، مشغولًا بشخصٍ يجلس خلف الطاولة. انعكس عليه ضوء القمر، فرسم على وجهه ظلًّا باردًا وغامقًا.
إنه سيد عائلة تينيبريس، والرجل الأقوى في مملكة تريان. كان الدوق، أنوين تينيبريس.
“إذاً، ماذا حدث بعد ذلك؟”
ألقى سؤالًا خاليًا من الشرح، كأنه يعرف كل شيء.
و انحنى مالكوم بأدبٍ واختار كلماته بعناية.
ما خرج من فمه لم يختلف كثيرًا عن تقاريره الدقيقة للأسبوع الماضي.
“خرجت الآنسة متجاهلةً أمر الحبس، واتجهت نحو الباب الخلفي حيث كانت العربة تنتظر.”
“……و شعار العربة؟”
“نعم. كان ختم مملكة تريان.”
أخبر أنوين بكل ما رآه دون أن يُغفل شيئًا، كأن لطفه السابق تجاه ليرييل كان نفاقًا مُدبَّرًا.
لكن مالكوم لم يكذب قط في هذا الشأن.
‘بالطبع، هذا لا يعني أنني أغض الطرف عن كل تصرفات الآنسة. أنا خادمٌ يخدم عائلة تينيبريس، وإرادة سيدي الحالي الدوق أنوين هي أولويتي القصوى.’
لم يكن سوى مخلصًا لدوره. دوره ككبير الخدم الذي يخدم أنوين تينيبريس.
“هكذا إذاً……”
و تبقت الخطوة التالية لأنوين وحده.
بدأ أنوين يمسح لحيته وهو يفكر بعد سماع التقرير كاملًا.
الخيارات أمامه كثيرة: يمكنه إرسال جنوده الخاصين لإعادة ابنته فورًا، أو تقديم احتجاجٍ رسمي للعائلة المالكة.
مهما كان أميرًا، فلا يحق له أخذ أميرة وفتاة منزل آخر في منتصف الليل.
و لو أراد، لأشعل صراعًا بين الملكية والنبلاء.
عائلة الشرير الأسوأ في تاريخ مملكة تريان. بالنسبة لسيد عائلة دوق تينيبريس، كان ذلك ممكنًا تمامًا.
“يا لها من خطوةٍ رائعة.”
لكن قراره اتخذ الاتجاه المعاكس تمامًا.
هل جنّ من خروج ابنته المتكرر؟ لا، عيناه لا تزالان مملوءتين بشرٍ هادئ وثابت.
لقد أُعجب فقط، إعجابًا عميقًا.
بمكيدة ابنته المثالية التي خدعت عيون العائلة كلها لأسر ولي العهد.
“بالفعل، أنتِ الابنة المتمردة الوحيدة في عائلة تينيبريس.”
ضغط صدره المتصاعد بالإعجاب وهو يتنهد.
كل الحوادث المربكة الأخيرة بدأت تتراص كقطع البازل. وكان يندم فقط على تفكيره الضيق الذي انشغل بابتلاع العائلة المالكة.
الجوهر وليس القشرة هو المهم.
“حتى لو ابتلعنا المملكة بأكملها، فإن لم نُسقط ولي العهد فيريك تريان، فكل شيءٍ بلا معنى.”
تذكر العينين الحمراوين اللتين لم تنكسرا حتى في حفل الخطوبة، فابتسم أنوين.
على عكس الملك الحالي السهل، فإن فيريك تريان ليس خصمًا هينًا على الإطلاق.
حتى لو وصل الأمر للزواج وابتلعنا العائلة المالكة، فإن لم ينهار فيريك، فلن نكون قد امتلكناها حقًا.
حكمه المذهل، ودهاؤه السياسي، وكاريزما فطرية…..كل ذلك قد يقلب الوضع الذي يبدو لصالحنا.
‘رجلٌ بهذا القدر من العظمة.’
اعترف أنوين بموهبة فيريك وإمكاناته وإرادته بصراحة.
“لكن أمام ابنتي ليرييل، لن يصمد.”
شعر أنوين بسعادةٍ تتصاعد من أعماقه عندما فكر أن هذا الحصن الحديدي سينهار قريبًا.
تهز ولي العهد بهجوم مفاجئ باللطف، ثم تتسلل إلى أعماق قلبه قبل أن يستفيق.
حتى لو كانت ابنته، هل يجوز أن تكون شريرةً لهذه الدرجة؟
لم يستطع أنوين التنفس من عمق شرها الذي لا قعر له.
بينما هو لم يعتمد سوى على المال والسلطة، تسعى ليرييل لإسقاط فيريك بقدرتها الذاتية فقط.
لا تهتم بنظرات المحيطين. و تعرف أن النتيجة ستُسكت الجميع.
يا لها من ثقةٍ في مكيدتها!
تنفس أنوين إعجابًا لا ينتهي ونظر خارج النافذة.
كان الظلام العميق يلف القصر، لكنه شعر أنه تافهٌ أمام ابنته. فلا يوجد في هذا العالم أكثر ظلمة وشرًا ورهبة من ابنته.
بذرة الشر التي زُرعت في المملكة بدأت تُشكّل برعمًا جميلًا سامًّا.
استند أنوين إلى كرسيه بارتياحٍ تام، مؤمنًا تمامًا. أن الزهرة ستتفتح، دون أن يخطر بباله لون تلك البتلات.
_____________________
والحين من يقوله انه فاهم غلط؟ 😭 فاهم غلط بقوه! الظاهر تصنيف سوء فهم للابو مب لفيريك😭
فيريك طلع واو حتى في عين انوين ؟ سلون عرفت انه البطل:
المهم الله يعين ليرييل عليهم😂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 27"