في وقتٍ متأخر من الليل، بعد أن خلد الجميع إلى النوم، وقد تجاوزت الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل.
‘يبدو أن الوقت قد حان لأتحرك.’
رفعت ليرييل رأسها قليلًا من تحت الغطاء وهي ما تزال في السرير، وألقت نظرةً حذرة حولها.
الآن، حيث لا يُحس بأي حركة، بدا أن الفرصة قد سنحت.
من المرجّح أن العربة التي استقلّها فيريك تنتظر خلف قصر الدوق الآن، وإن تأخرت أكثر فقد يرحل ويتركها خلفه.
و لمجرد أن هذا الاحتمال خطر في بالها، شعرت بالقلق يتسلل إلى صدرها.
بهدوء، تحرك جسدها من السرير، و لم تكن ترتدي ثياب النوم المريحة، بل فستانًا فاخرًا للخروج.
كانت تود لو ارتدت شيئًا أبسط وأسهل للحركة، لكن المشكلة أن خزانة ملابس ابنة الدوق الشرير لا تحتوي إلا على أثوابٍ داكنة اللون ومغرية الطابع، يغلب عليها اللون الأحمر الداكن والأسود.
لذلك، لم يكن أمامها سوى اختيار الفستان الأقل زخرفة بينها، وكان هذا أفضل ما يمكن.
‘لماذا تفضّل كل شريرة دائمًا الفساتين المليئة بالدانتيل والإغراء..…؟’
دفعت هذا التساؤل جانبًا، ثم خرجت كليًا من السرير وسحبت حقيبةً صغيرة كانت مخبأةً تحته.
كانت حقيبةً جلدية متوسطة الحجم تحتوي على ملابس تكفي لأسبوع وبعض الأغراض الضرورية التي قامت بتعبئتها خفية عن أعين الخدم خلال الأيام الثلاثة الماضية.
ثم انتعلت حذاءها، وغطّت شعرها اللامع بقطعة قماش لتخفي لونه المميز، وبذلك انتهت من تجهيز نفسها للرحيل.
نظرت إلى انعكاسها في المرآة الكبيرة، فرأت امرأةً نبيلة تبدو وكأنها في طريقها إلى لقاء سري في منتصف الليل. فسارعت بصرف نظرها عنها.
‘أنا لا أذهب لارتكاب أمرٍ سيئ. بل لفعل أمراً صائباً.’
كانت تكرر تلك الجملة لنفسها كما لو كانت تعويذة سحرية، حتى وصلت إلى مكتبها.
فتحت الدرج وأخرجت منه رسالة كانت قد كتبتها مسبقًا، ثم وضعتها بعناية في منتصف المكتب.
مهما كان، فإن اختفاء ابنة الدوق في ليلة واحدة سيثير ضجةً كبرى. ولذلك أعدّت هذه الرسالة لتفادي ذلك.
كانت قصيرة المحتوى، بضع جمل فقط تطلب فيها ألا يقلقوا لغيابها، لأنها ذاهبة في مهمة تطوعية خارجية لمدة أسبوع.
لكنها كانت تدرك تمامًا كيف سيتلقّى دوق و دوقة تينيبريس تلك الرسالة. ففي نظرهما، ستكون بمثابة إنذارٍ نهائي بإبادة عائلة تينيبريس.
ومع ذلك، لم تشعر ليرييل بأي تأنيب ضمير تجاه ما تفعله.
‘في النهاية، حتى لو سارت القصة كما هي، فإن عائلة تينيبريس ستفنى حتمًا.’
أي شخصٍ وُضع في مثل موقفها كان سيتصرف بالطريقة نفسها.
كم عدد الناس الذين يمكنهم البقاء مكتوفي الأيدي وهم يعرفون أن مصيرهم الموت مقطوعي الرأس لأنهم أغضبوا البطلة؟
بتنهيدةٍ خفيفة، خرجت بحذر من غرفتها.
سارت عبر الممر الخالي، ثم تجاوزت زاوية المطبخ المظلم، ومرّت أمام غرفة الخدم التي لا تزال تُسمع منها بعض الأصوات الخافتة، حتى وصلت إلى الباب الخلفي.
قلبها كان ينبض بعنف. و شعرت وكأنها ترتكب خطيئةً ما.
ثم مدّت يدها المرتجفة لتفتح مقبض الحديد وتدفع الباب نحو الخارج بكل ما تملك من قوة.
“الآنسة ليرييل، إلى أين أنتِ ذاهبة؟”
“!”
أوقفها صوتٌ هادئ من خلفها.
تجمدت في مكانها، ثم التفتت ببطء، وارتجفت عيناها عندما رأت رجلًا طويل القامة يحمل شمعدانًا مضيئًا، ينظر إليها بوجهٍ خالٍ من التعابير.
عرفته على الفور — يا إلهي، إنه رئيس الخدم “مالكوم”.
‘من بين الجميع…..لم يكن ينقصني إلا أن يُمسكني هذا بالذات!’
لو كانت إحدى الخادمات هي من رأتها، لكان بإمكانها رشوةَ إحداهن أو تهديدها لتصمت، لكن مالكوم لم يكن رجلًا يمكن التأثير عليه بتلك الحيل.
فهو رئيس الخدم الذي خدم في هذا الجحيم المسمّى بيت تينيبريس لأكثر من عشرين عامًا، مساعدًا الدوق أنوين.
وتلك المدة كانت كافية لتوضيح مدى صلابته وقسوته.
“نعم، كما تأمر.” كان ينفّذ أوامر أنوين الجامدة بلا تردد، ويستطيع كذلك تحمّل مزاج لوفرين العصبي والمتقلّب.
لم يتفوّه يومًا بكلمة “لا أستطيع”، وكان دائمًا يجد وسيلةً لتحقيق أي طلب وتهيئته أمام سيده دون تأخير.
بعبارةٍ أخرى، كان خادمًا مثاليًا أُعدّ خصيصًا لخدمة الأشرار.
في بيتٍ يتبدّل فيه عشرات الخدم كل شهر، كان مستوى خدم تينيبريس من الأعلى بين بيوت النبلاء، وذلك بفضل جهود مالكوم.
وكان هناك قانونٌ واحد فقط يلقّنه لمرؤوسيه:
‘تصرف الخادم هو انعكاسٌ لشرف سيده.’
ولقد كانت “ليرييل” تعرف جيدًا ما يحدث للخدم الذين يفشلون في الالتزام بذلك المبدأ.
حتى انعكاس لهب الشمعة على عينيه جعله يبدو أكثر رعبًا من المعتاد.
“أنا…..فقط كنت أريد أن أتمشّى قليلًا في الليل..…”
حاولت ليرييل اختلاق عذرٍ ما لتتمسك ببصيص أمل، لكنها لم تشعر ولو للحظة أن كلماتها قد تُجدي نفعًا.
“وأنتِ تحملين حقيبةً ضخمة هكذا؟”
“…….”
“لا تظنين حقًا أنني لم ألاحظ شيئًا، أليس كذلك يا آنسة؟ أنا أتلقى تقارير يومية من جميع الخدم عن كل جزءٍ في هذا القصر.”
وكما كان متوقعًا، لم يتزحزح مالكوم قيد أنملة، بل أخذ يضيق عليها الخناق متذرعًا بالحقائق.
طَق، طَق-
كان صوت حذائه الجلدي اللامع يرن في ممر الباب الخلفي. فتراجعت ليرييل خطوةً إلى الوراء بلا وعي، لكنها لم تكن تملك مكانًا تهرب إليه.
“في الأيام الماضية، لم تنامي جيدًا، كنتِ تحزمين الأمتعة وتعبثين بخزانتكِ…..وفي النهاية قررتِ الهرب من المنزل، أليس كذلك؟ أتنوين حقًا خرق أمر السيد بالحبس الانضباطي؟”
تراقص لهب الشمعة في يده، فرأت ظل ذراعه يمتد طويلًا على الجدار، وكأنه يتجه نحوها ليمسكها.
لم يكن هناك شكٌ في أنه ينوي انتزاع الحقيبة منها وإعادتها بالقوة إلى غرفتها. فانخفض رأس ليرييل يائسة.
‘يا إلهي…..كم كانت فرصةً ثمينة. هل عليّ أن أنهي كل شيءٍ قبل أن يبدأ؟’
امتلأ صدرها بالغيظ والظلم، لكن ذلك لم يكن ليعني شيئًا للطرف الآخر.
ثم— طَق، شعرت بيده تلمسها.
“اسمحي لي للحظة.”
“……؟”
لكن الرجل لم يحاول انتزاع الحقيبة منها، ولم يدفعها نحو الداخل كما توقعت.
“الوشاح على رأسكِ انزلق قليلًا، وكذلك الشريط…..لقد عقدتِه بالاتجاه الخاطئ. دعيني أصلحه لكِ، رجاءً ابقي ثابتة.”
كل ما فعله هو وضع الشمعدان جانبًا، ثم بدأ بإصلاح مظهرها بعناية.
ففتحت ليرييل فمها بذهول، ونسيت لوهلة أنها تسكن جسد “الشريرة الشهيرة”، عاجزةً عن إخفاء صدمتها.
للحظة، ظنت أنها ربما تحلم. و ربما لو رمشت الآن، فستجد نفسها تنظر إلى سقف غرفتها المعتاد.
لكن ما تراه كان حقيقيًا إلى حد يصعب تصديقه.
‘هل كان…..دائمًا هكذا؟’
حاولت بكل جهد أن تنبش في ذكريات ليرييل الأصلية، لكنها لم تجد أي موقفٍ يشبه هذا.
كل ما تتذكره هو صموده الصخري أمام كبرياءها وغطرستها منذ كانت صغيرة.
ومع ذلك، لم يتوقف مالكوم حتى أتمّ تعديل مظهرها بعناية، ثم تراجع بخطوةٍ هادئة إلى الوراء.
حينها فقط أدركت ليرييل كم كانت أفعالها السابقة مع الخدم فظيعة.
‘إذن…..هذا ما يشعر به الناس.’
أن تتبدّل “الشريرة” فجأة وتبدأ بالتصرف بلطف— ليس أمرًا يبعث على الشكر، بل على الخوف.
كل ذلك اللطف لا يبدو سوى تمهيدٍ شريرٍ لشيءٍ أسوأ قادم.
“لماذا…..لماذا تفعل هذا يا مالكوم؟ ألم تكن تنوي منعي؟”
لم تستطع كبح نفسها أكثر، فسألته بصراحة.
ولأول مرة، بدت على وجهه الجامد كآلةٍ بعضُ الملامح البشرية. فقد ارتجف جفنُه مرتين أو ثلاثًا قبل أن يتكلم أخيرًا.
لكن كلماته كانت أبعد ما يكون عمّا توقعت.
“أحضرتِ المرهم لـ‘سوزان’ حين جُرح إصبعها، أليس كذلك؟”
“…..ماذا؟ آه، نعم، فعلت.”
‘سوزان؟ ما علاقة هذا الآن؟ كنا نتحدث عنكَ أنتَ يا مالكوم!’
رغم استغرابها، بقيت تستمع بانتباه.
صمت قليلًا، ثم واصل كلامه، فيما جفونه المثقلة بالتجاعيد ترمش ببطء متكرر.
_______________________
واو تأثر؟ بالله ناديه جدي خل نشوف وجهه
بس وناسه ذاه الولي لابوها في صفها؟ خلاص مسألة وقت وقصرهم بين يدينها✨
التعليقات لهذا الفصل " 26"