ارتجف فيريك قليلاً، ثم أطلق سراح ذقنها بخشونةٍ كما لو أنه كان يتوقع ذلك الجواب.
ومع أنه كان يعلم مسبقًا ما ستقوله، إلا أن مرارةً غامضة اجتاحته.
لكن جواب ليرييل لم يتوقف عند هذا الحد. إذ أمسكت بيده التي كانت توشك أن تنسحب، ونظرت إليه بعينين مستقيمتين يملؤهما الإصرار.
“من الطبيعي أن يساعد المرء من يقع في مأزق، أليس كذلك؟ لذا لا أستطيع أن أطلب منكَ ذلك بشرطٍ كهذا.”
“….…”
“إن كان هناك ما تود أن تطلبه مني يومًا، فقل فقط يا سموك. سأساعدكَ بكل ما أستطيع.”
حتى لو كانت قد صفعت وجهه لما كان وقعُها عليه بهذه الصدمة.
فتجمّدت ملامح فيريك من الدهشة للحظة.
‘لو كانت ليرييل الطيبة حقًا، فهكذا يجب أن تتكلم، أليس كذلك؟’
لكن في الحقيقة كانت نواياها مختلفةً تمامًا، غير أن فيريك لم يكن ليعرف ذلك أبدًا.
‘إن طلب مني أمرًا سخيفًا على هذا النحو فسيكون الوضع محرجًا…..لكن لا، لا يمكن أن يفعلها. إنه يكرهني إلى هذا الحد.’
غارقةً في أفكارها، لم تدرك إلا متأخرةً أنها لا تزال ممسكةً بيده.
‘يا لي من حمقاء…..حتى وإن كنا مخطوبين، فأن يُمسك بكَ شخص تكرهه لا بد أن يثير اشمئزازكَ.’
أفلتت يده بسرعة وابتسمت بخجلٍ وهي تتحدّث بأسلوبٍ مرتبك،
“آه، لا أقصد أننا بحاجة للإمساك بالأيدي طبعًا! كنت أقصد المعنى المجازي فقط!”
ابتسمت وهي تشدّ زاوية شفتيها بنعومة، تراقب رد فعله بحذر.
أما فيريك، فاضطر لبذل جهدٍ كبير ليستعيد خيط الحوار الذي أفلت من بين يديه.
شعر وكأنه على وشك أن ينزلق إلى علاقةٍ بلا شروط، علاقةٍ يُساعد فيها ويُساعد دون مقابل.
وإن حدث ذلك، فسيكون…..
“مستحيل. إن أردتِ مساعدتي، فسيكون وفق هذا الشرط فقط.”
“لكن، لا حاجة لأن نجعل الأمر مشروطًا هكذا..…”
بل كان لا بد من جعله مشروطًا. فإلا تلاشت بقايا حذره القليل الذي بقي في داخله.
قطّب حاجبيه بقلق وأكمل بنبرة متوترة،
“ألستِ من لا تريدين الذهاب أصلاً؟ ليرييل، في رسالتكِ قلتِ أنني الشخص الوحيد الذي يمكنه مساعدتكِ، فهل وجدتِ غيري فجأة؟”
“حسناً، حسناً، فهمت. إن ساعدتني هذه المرة، فسألبّي لكَ طلبًا واحدًا في المستقبل.”
“هكذا يجب أن تتكلمي.”
لم يشعر بالارتياح إلا بعدما أنهى الحوار بشكلٍ رسمي على هيئة “صفقة”.
كان ينبغي أن يشعر بانتصارٍ بسيط، بعد أن حصل على الحق في طلب أي شيء من وريثة عائلة تينيبريس المتألقة، ليرييل تينيبريس.
“بل ليس واحدًا فقط، بل اثنين، أو حتى ثلاثة إن شئتَ!”
“…..يكفي.”
لماذا لا يشعر بأي متعة رغم ذلك؟ لم يعرف الجواب.
“على أي حال، بما أن الصفقة تمت، فسآخذكِ معي إلى بعثة التطوع. سأخبر الدوق بالأمر بنفسي.”
ولو حاول البحث في السبب لكان الأمر أسوأ، لذا أنهى الكلام ببرود، محاولًا قطع الحديث قبل أن يغادر.
“!”
فجأة، أمسكت ليرييل بطرف كمّه المتراجع وتمسكت به. فاتسعت عينا فيريك من الدهشة.
دقّات قلبه تسارعت بلا سبب. و ابتلع ريقه والتفت خلفه، فرأى وجهها المتألم وهي ترفع نظرها إليه.
كان هذا جانبًا لم يره منها من قبل.
‘هل هناك ما تود قوله بعد؟’
توقف نَفَسه لوهلة. لم يفهم لماذا تمسك به بهذا الشكل، ولمَ تنظر إليه بذلك الوجه.
كانت أصابعها المتشبثة بكمّه مشدودةً بقوة، وكأنها تتوسل إليه ألا يذهب.
“أرجوكَ…..لا تفعل هذا.”
كانت كلماتها التالية القاضية عليه تمامًا.
بصوتٍ لم يسمعه منها من قبل، وبملامح لم يرها قط، فاهتز جسده الصمت.
لقد كانا يكرهان مجرد وجود بعضهما في المكان نفسه. لكن الآن، بدت ليرييل وكأنها لا تستطيع العيش إن رحل فيريك عنها.
تلاقت عيناهما، الخضراء والحمراء، في الهواء.
ثم انفرجت شفتاها المرتعشتان، وهمست له بصوتٍ مبللٍ بالرجاء،
كانت تلك الكلمات الوحيدة التي لا يمكن إلا لفيريك أن يسمعها.
“إن علم والدي أنني أقحمتُ سموك في خروجي من القصر دون إذنه، فسأنتهي تمامًا!”
لكن ما خرج من فمها لم يكن سوى شكوى طفولية متهوّرة أقرب لتذمر فتاةٍ صغيرة.
“…..ماذا؟”
أجاب فيريك بصوتٍ واهنٍ لم يكن ليصدر منه في الأحوال العادية، وهو يحدق فيها بذهول.
و لم يفهم ما الذي كانت تقصده تمامًا.
“هل كل هذا بسبب المراقبة؟ حتى لو كان الأمر كذلك، فأنا خطيبكِ، ومن الطبيعي أن آخذكِ معي. بأي حقٍ يمنعنا الدوق من ذلك؟ لا داعي لكل هذا القلق.”
حاول أن يجد سببًا منطقيًا بقدر ما سمح له ذهنه المشوش، لكن ليرييل كانت لا تزال مضطربة، تتمتم بكلماتها بارتباك.
مشهدها هذا كان غريبًا جدًا عليه.
المرأة التي كانت دومًا متعجرفة كأفعىٍ سامة، تقف الآن كأرنبٍ مرتجف من الخوف—كان ذلك شعورًا جديدًا بالنسبة له.
“لكن، مع ذلك……”
غير أن ليرييل كانت تملك سببها الخاص.
‘إن أعلن هو بنفسه أمام والدي أنه سيأخذني معه، فسيظن والدي أننا أصبحنا مقربين!’
وذلك هو آخر ما تريده الآن.
فلو خطر ببال الدوق أن العلاقة بينهما تحسنت، فسيسرع في إتمام زواجهما، وسيصبح الحصار عليها أشدّ مما هو عليه الآن.
وعندها ستبتعد لحظة الانفصال أكثر فأكثر. ثم ستسير القصة كما تعرف تمامًا.
استيقاظ القديسة…..وسقوط الشريرة.
رأسٌ يُقطع. وجسدٌ يتدحرج.
“ما الذي يضايقكِ بالضبط؟”
لم يكن فيريك يعرف ما يدور في داخلها، فظل يضغط عليها بنفاذ صبر.
اضطرت ليرييل لأن تعصر عقلها لتجد عذرًا ما قد ينقذ الموقف، فأطلقت أول كذبةٍ بدت منطقية.
“إن فعلتَ ذلك، قد تتعرض للإحراج يا سموك!”
كان هذا هو الادعاء العبثي الذي خرج منها.
‘إحراج؟ أنا؟ ولماذا؟ حتى لو حدث، ما شأنكِ أنت بذلك؟’
كان وجه فيريك يقول كل هذا بوضوح، فبادرت ليرييل إلى تدارك الموقف مضيفةً بسرعة،
“فكّر في الأمر. إن علم الجميع أن سموك، الذي كان على عداءٍ معي، قرر فجأة أن يصطحبني معه في رحلةٍ إلى الخارج، ماذا سيقولون؟”
“.……”
“سيظنون بالتأكيد أن ولي العهد قد تعرّض للتهديد مجددًا، وسيشفقون عليكَ. والأسوأ أنكَ ستكون خارج البلاد، فلن تُمنح فرصةً للدفاع عن نفسكَ أمام تلك الشائعات.”
لكن هذه الحجة الارتجالية كانت مع ذلك أكثر من مقنعة.
راح فيريك يتخيل السيناريو الذي وصفته، فتجهمت ملامحه— فقد كان هذا افتراضًا معقولًا تمامًا.
“لا أريد أن أرى سموك يتعرض لمثل هذا الموقف المخجل.”
والأهم من ذلك، أن التعبير المتأني والقلق الصادق على وجهها كان له التأثير الأكبر في إقناعه.
“لذا أرجوكَ، لا تخبر والدي بالأمر. بهذه الطريقة، إن اكتشف لاحقًا، يمكنني الادعاء بأنني تسللت إلى عربة سموك دون إذنه.”
حاجبان منحنِيان بخفة، وشفتان عضّتهما توترًا، وعينان خضراوان يملؤهما القلق—كل هذه التفاصيل العاطفية بدت واقعيةً جدًا، لا يمكن أن تكون مفتعلة.
‘لقد وصلتُ إلى حافة فسخ الخطوبة! لا يمكنني أن أعود إلى نقطة البداية!’
بالطبع، مصدر قلقها لم يكن الشائعات التي قد تطال فيريك، بل مستقبلها الغامض هي نفسها.
لكن من المستحيل التمييز بين الاثنين من الخارج، ولهذا بدت مخاوفها صادقةً تمامًا.
‘هي، لا تريد أن أتعرض للإهانة..…؟’
نظر إليها فيريك من الأعلى وابتلع ريقه بصعوبة، بينما دوامةٌ من المشاعر الغريبة أخذت تضطرب في أعماقه.
‘ومتى بدأتِ تهتمين بموقفي أنتِ بالضبط؟’
قبل شهرٍ فقط، أجبرته على الخطوبة بالقوة، وجرّت سمعة العائلة المالكة في الوحل.
تغيّرٌ يصعب تصديقه، ومع ذلك كان مفهومًا إلى حدٍ ما—فمن ارتكب مثل تلك الفعلة لا بد أن يصبح أكثر حذرًا بعدها.
ما يسمّيه الناس عادةً “الندم”.
“كفى، توقفي عن حشر كلماتٍ لا تعنينها. هذا مقزّز لدرجة أنني لا أستطيع النظر إليكِ.”
“حقًا؟ شكرًا لتفهمكَ، سموك!”
‘هي نادمة على إيذائي؟ ليرييل تينيبريس؟’
لا يمكن لعقلٍ سليم أن يقبل مثل هذا الافتراض السخيف.
“أفهم ماذا؟”
بهذه الكلمات الحادة، أنهى فيريك الحديث بسرعةٍ وغادر المكان، معتبرًا أن قبول طلبها هو أفضل طريقةٍ لإنهائه.
شعر أنه لو استمر في الحديث معها أكثر، فسيصاب عقله بالجنون. بل ربما كان قد بدأ يفقده بالفعل.
“إذاً، أراكَ بعد ثلاثة أيام عند المساء، سموك.”
لكن تلك المشاعر الملتبسة لم تهدأ حتى وهو في طريق العودة داخل العربة.
ولأنها كانت في فترة المراقبة، لم تستطع ليرييل أن تودّعه أمام البوابة، فاكتفت بالتلويح له من نافذة الطابق الثالث.
ثم سقطت عيناه على يدها اليمنى—اليد التي كانت تمسك به منذ قليل.
كانت حرارتها مختلفةً عن حرارته، باردةً بعض الشيء، لكنها رغم ذلك كانت تنقل إليه دفئًا صادقًا.
قبض على يده بحذرٍ شديد، وقطّب حاجبيه.
دقّ، دقّ، دقّ.
في ضوء الشمس المتسلل إلى المساء، كان صوت نبض قلبه العنيف هو الصوت الوحيد الذي يملأ العربة المهتزّة.
__________________
ياخفييييييييييييف🤏🏻
شكله بيصدقها وهو توها تمثل لأن افكارها عكس حكيها مره😭 متناقضه وداهيه
ذي يصلح لها دور الشريرة بس متخفيه يعني اهم شي نفسها وبس 🙂↕️
التعليقات لهذا الفصل " 25"