في لحظة، ارتسم وجه شخصٍ ما في ذهنها، فرفعت ليرييل رأسها فجأة. وفي الوقت نفسه، مرت أحداث العمل الأصلي سريعًا في رأسها مجددًا.
كانت هناك أزهارٌ حمراء تفتحت طبقةً فوق طبقة بين ضلوع فيريك تريان.
كانت سوائل الوحش بمثابة سمٍّ فتاك للبشر. مهما حاولوا إيقاف النزيف، لم يتوقف، وفي النهاية نفذت الضمادات الكثيرة كلها.
في تلك اللحظة، أدرك فيريك نهايته. و لم يعد يشعر بشيء في أطراف أصابعه الشاحبة.
‘……من حسن الحظ أن الأمر انتهى بي وحدي.’
لكنه لم يندم. فلو لم يوقف الوحش بنفسه، لبلغ عدد الضحايا مئات، بل ربما آلافًا.
لذلك إن كان قد ضحّى بنفسه لينقذ كل تلك الأرواح، فليست صفقةً خاسرة. غير أنه لم يستطع إنكار بقاء القليل من الأسى في قلبه.
“…….”
في رؤيته التي بدأت تتلاشى، تذكّر فيريك تلك المرأة التي رآها ذات ليلة اكتمال قمر.
كانت على ضفة البحيرة، تمد له يدها وتدعوه للرقص بابتسامة نقية على شفتيها. و شعرها المتلألئ بلون الشفق كان يلمع فوق الماء مع كل خطوة تخطوها.
وعندما انعكست صورتُه في عينيها الشفافتين كزجاج السماء، شعر لأول مرة في حياته أن هذا العالم ربما لا يزال يحمل له مأوى.
‘كنت أود رؤيتها مرة أخيرة فقط……’
تحركت شفتاه الجافتان، لكن الكلمات لم تخرج، وأُغلقتا بصمت.
رمشت رموشه الطويلة بضع مرات قبل أن تستقر نهائيًا. وانفجر النحيب من حوله كالرعد.
السماء التي كانت تغصّ بالغيوم السوداء و امتلأت بالرمادي، فاختفى حتى ذلك الخيط الرفيع من ضوء الشمس الذي كان يتسلل بينها.
كانت لحظة يأسٍ حالك.
“يا صاحب السمو!!!”
حينها، دوّى صوت أحدهم من بعيد.
شقّت فتاةٌ حافية القدمين الزحام وهي تركض نحو تريان، ثم وضعت يدها على جراحه. فتألّق ضوءٌ براق بين أصابعها الصغيرة الرقيقة. بينما نظرت إليه أنيلا بعينين تفيض بالدموع.
لم تستطع تركه يرحل هكذا. فهي لم تقضِ معه حتى ليلةً واحدة بعد، ولن تسمح لكبريائها أن يضيع منها الرجل الذي وضعت عينها عليه.
حتى لو وقف في وجهها ملك الموت نفسه، فستجعله لها!
“آه، الجرح عميقٌ جدًا……!”
لكن لأن طاقته الحيوية كانت شبه منعدمة، لم تستطع قواها المقدسة التغلغل في الجرح بسهولة.
و لم يبقَ خيار سوى إدخال القوة المقدسة مباشرة إلى جسده من الداخل.
فجمعت طاقتها في شكل كرة مضيئة، ثم وضعتها في فمها وانحنت نحوه. و انسدلت خصلات شعرها الناعمة كستار حريري، لتغمرهما معًا.
وخيم سكونٌ تام كأن الزمن توقف. ثم التقت شفتاهما……
‘يكفي، لا أريد أن أتذكر أكثر……’
هزّت ليرييل رأسها، محاولةً طرد الصورة التالية من ذهنها وهي تراجع أحداث الرواية في تركيز.
كانت القصة ممتعةً عندما قرأتها كقارئة، لكن الآن، وقد صارت هي “الشريرة” و”الخطيبة الحالية”، شعرت بعدم ارتياحٍ غريب.
على أية حال، ما حدث بينهما بعد ذلك لا يهم. فالمهم أن فيريك شارك في حملة التطوع، هذه فقط.
‘صحيح، أنا متأكدة. فيريك شارك بالفعل في حملة التطوع!’
يُقال أن العائلة المالكة التي فقدت ثقة الناس أرادت استعادة سمعتها، فأجبرت فيريك شبه قسرًا على المشاركة.
لم تتذكر التفاصيل الدقيقة، لكنها كانت متيقنةً أنه سيشارك بعد ثلاثة أيام. ولذا كان عليها بأي وسيلة أن تنال تعاونه ليأخذها معه.
وقد كتبت ليرييل، بعد أن وجدت طريق نجاتها، رسالةً فورًا بعد جلوسها إلى مكتبها.
دفعت جانبًا رسالة يوليان التي كانت أمامها، و وضعت ورقةً جديدة في المنتصف، وبدأت تكتب كلمات الرجاء.
لم تكن بحاجة لعبارات المجاملة الرسمية. فقط رسالةٌ صادقة تعبّر عن أنه الوحيد القادر على مساعدتها.
[صاحب السمو فيريك، أنا بحاجةٍ ماسة إلى مساعدتكَ.
من أجل نفيي، ومن أجل فسخ خطوبتنا. ألن تساعدني؟ سمعتُ أنكَ ذاهبٌ إلى حملة التطوع، وأنا…]
***
[…وعليه، إن أخذتني معكَ، فأعتقد أننا سنصل إلى النهاية التي نرغب بها نحن الاثنان.
سأنتظر ردكَ بشوق.
من خطيبتكَ، ليرييل تينيبريس]
“….…”
“هل تسخرين مني؟”
في صباح اليوم التالي، الرسالة التي سهرت ليرييل طوال الليل على كتابتها طارت في الهواء ثم ارتطمت بالأرض بعد أن رماها فيريك غاضبًا وهو يقتحم غرفة الاستقبال.
من خلفه، عبر ضوء شمسٍ دافئ من زجاج النافذة وانعكس بهدوء. و تغريد الطيور القادم من مكان ما كان يدل إلى حدٍ ما على الوقت الحالي.
هكذا. في الصباح الباكر، هرع فيريك إلى منزل الدوق فور وصول الرسالة وطالب ليرييل بتفسير.
“حتى وإن كان هذا واجبًا استكشافيًا اضطراريًا، تطلبين مني أن آخذكِ معي؟ لماذا يجب أن أرتكب مثل هذا الفعل الفظيع؟”
لو كان لديها لسانٌ لكانت لتشرح الآن!
لم يستطع كبح نفسه فرفع صوته وضرب المكتب بقبضته. فصدرت دويّةٌ هزّت غرفة الجلوس.
لكن ليرييل ربّتت على فنجانها دون أن تبدو خائفةً على الإطلاق.
كان هيفال قد أيقظها وأعد لها الشاي، ومع ذلك بقي مذاقه رائعًا.
لقد حان الوقت للاعتراف. كان لدى هيفال موهبةٌ في تقديم الشاي.
“اهدأ، سموك. لم أكن لأطلب منكَ هذا لو لم يضطرّ الأمر. لكن والدي الليلة الماضية أمرني بألا أفكر حتى في الخروج من البيت طوال الشهر القادم.”
“……فماذا في ذلك؟”
“ما العمل؟ ليس أمامي سوى الخروج سرًا. لا يمكنني أن أفوت فرصة تطوعٍ استكشافي بسبب المراقبة.”
وضعت ليرييل فنجانها بصوت طقطقة وأزالت الابتسامة لتحدق بجديةٍ في فيريك.
“أرجوكَ. خذني معكَ. أعدكَ أنني لن أكون عبئًا. إذا نجحت في هذا فحتى والداي لن يستطيعوا تركي في هذا المقام كخليفة.”
حدّق فيريك فيها لبرهة دون أن ينطق.
تلك المرأة المتغطرسة التي لم تعرف إلا أن تأمر الناس، كانت تطلب بـ“رجاءً”.
كان من الصعب تصديق ذلك حتى بعد أن رأى خط اليد في الرسالة، لكن سماعها مباشرةً أمامه جعل الأمر أشبه بحلم.
أبناء عائلة تينيبريس لم يعتادوا على طلب النِعم من الآخرين. أو بالضبط، لم تكن الحاجة لذلك واردة.
فبدل أن يركعوا ويتوسلوا، كانوا يستخدمون نفوذهم وثرواتهم ليأمروا الآخرين فيكفيهم ذلك.
حتى في ذلك الحين،
“تزوّجني.”
“وإن رفضتُ؟”
“لا أظن أن ذلك ممكنًا. لتهدأ خواطر العامة، ستحتاجون لتعاوننا.”
“…….”
“إن وُجدَت طريقةٌ أخرى فربما. لكن أن تؤجل إجابتكَ من أجل كبريائكَ رغم أنكَ لا تملك شيئًا—هذا غير مستحبٍ قليلاً.”
وإن لم ينجح ذلك أيضًا؟ يصنعون المكيدة ثم يضغطون على نقاط الضعف لابتزازهم، وبهذه الطريقة نالوا كل ما أرادوا.
فلماذا تطلب بلطفٍ الآن؟ هل هذا منطقي؟
لم يستطع فيريك تقبّل هذا التغيير بسهولة. فارتسمت على شفتيه سخريةٌ جلية بعد صمتٍ طويل.
ثم فتح فمه وأجاب.
“حسنًا. سآخذكِ معي.”
“حقًا، هل أنتَ جاد……؟”
أشرقت ابتسامةٌ كبيرة على وجه ليرييل بعد الرد الإيجابي، رغم الجو المتوتّر.
لكن الابتسامة لم تدم طويلًا. فإذا بفيريك يقف فجأة ويمد يده ليمسك بذقنها.
“لكن هناك شرط.”
“……شرط؟”
“أنا أستجيب لطلبكِ، لذا في المرة القادمة ستكونين أنتِ من تستجيب لطلبي. أليس من الطبيعي أن أحتاج إلى شخصٍ واحد يقف إلى جانبي عندما أكون في محنة؟”
كما في يوم إلحاحها على الخطبة، ضغط بيده على ذقنها وحركه بزوايا ليعاين وجهها.
كانت لمسات صريحةً تكاد تعيد تمثيل ذلك اليوم عن قصد. بينما ارتفعت زاوية شفتيه بازدراء وأكمل كلامه.
“ما رأيكِ؟”
رغم هدوئه، كان الشرط صعب القبول بسهولة. ماذا لو طلب متحججاً بكلمة “طلب” شيئًا غير معقول؟
‘سواء رفضتِ أم وافقتِ، فسأكسب شيئًا.’
بالطبع كان قد وضع ذلك في الحسبان عندما نطق بهذه الكلمات.
ابتسم فيريك ابتسامة رضا وهو ينظر إلى ليرييل التي التقطت أنفاسها وهي تحدق فيه بعيونٍ واسعة.
أجل، هل تفهمين الآن؟ شعور من يتعرّض للابتزاز. فلتظهري حقيقتكِ الآن. كفى تمثيلاً لدور الطيبة.
و حينما كان يستعد ليرى ليرييل الحقيقية هذه المرة، جاء الرد.
“هذا……لا أستطيع قبوله.”
جاءت الإجابة كما توقّع.
___________________________
اظن انها نفّصت عيونها عشان وجهه قريب مب عشان شي ثاني 😂
المهم يضحك فيريك نفسه لو يفكر مره ثانيه وشهو مسوي بينقد نفسه😂
التعليقات لهذا الفصل " 24"