كان الكهنة في حالٍ من الارتباك الشديد، وكأن انهماكهم في تنظيف شظايا المزهرية المحطمة يُعدّ نوعًا من التكفير.
غير أنّ أنيلا، وهي تحدّق في رؤوسهم المنحنية، لم تشعر بأي امتنان، بل كانت غارقةً في أفكارٍ أخرى تمامًا.
‘عليّ أن أتحرى أكثر عن ليرييل تينيبريس.’
يبدو أن تلك المرأة هي العقبة الكبرى في طريقي.
إنها تتظاهر بالطيبة فقط لتجذب انتباه ولي العهد، ومع ذلك انطلت الخدعة عليه!
كم كان مؤسفًا أن يُسحر الأمير بذلك الوجه المخادع.
‘بصفتي قدّيسة، لا يمكنني أن أقف مكتوفة اليدين أمام هذا.’
فكرةٌ متغطرسة لامرأةٍ لم تتحمل مسؤوليةً واحدة في حياتها، لكنها مع ذلك آمنت بها دون تردد.
ولم يكن أحدٌ يجرؤ على ردعها، لأنها القدّيسة المحبوبة من الجميع — أنيلا ميديا.
‘انتظرني يا سموّ ولي العهد…..سأخلّصكَ من تلك الساحرة بنفسي.’
وهكذا بدأت من جديد الدوّامة التي حاولت ليرييل بكل جهدها أن تتفاداها.
وفي تلك اللحظة بالذات، كانت ليرييل في قصرها، تجهل تمامًا ما يُحاك من حولها، وتواجه فيريك ببرود،
“ما رأيكَ أن نلغي خطوبتنا؟”
***
خرج فيريك من دار الأيتام واتجه مباشرةً إلى قصر تينيبريس.
لم يُرسل طلبَ مقابلةٍ رسمي، فقد جاء من هناك دون وقتٍ للرسائل، ولم يرَ حاجةً إليها أصلًا.
‘ما دمنا خطيبين، فهل يُعقل أن أطلب الإذن لزيارتها؟ أليس هذا سخيفًا؟’
وبينما كان ينزل من العربة، وقعت عيناه على رجلٍ غريب يقف أمام القصر.
كان ذا شعرٍ باهتٍ بلون القش، توقف لحظةً عند البوابة، ثم أخذ يتفحّص المبنى من الأسفل إلى الأعلى بعينٍ فضولية.
الطابق الأول….الثاني…..ثم الثالث. عندها فقط بلع ريقه وحرّك شفتيه كأنه يتذوق شيئًا شهياً.
كانت عيناه تتجهان نحو نافذةٍ بعينها — نافذة غرفة ليرييل.
‘ما هذا؟ من هذا الرجل الكريه؟’
تصرفه وحده كان كفيلًا بأن يثير في نفس فيريك قشعريرةً من الاشمئزاز، فانعقد حاجباه بامتعاض.
لكن ما جاء بعد ذلك كان أسوأ. إذ مرّ ذلك الرجل بمحاذاته، وللحظةٍ رأى فيريك وجهه بوضوحٍ وتذكره فورًا.
إنه يوليان فيشر، ابنُ الكونت فيشر المطرود، ورئيسُ منظمة الإغاثة الشهيرة في المملكة “الجناح الأبيض”.
‘رجلٌ كهذا يدخل قصر الدوقية؟’
بدأت القطع المبعثرة من الصورة تتشابك أخيرًا. و ارتسم ظلّ قلقٍ في عيني ولي العهد.
ابنةُ الدوق التي ادّعت الطيبة، ورئيسُ منظمة الإغاثة “النبيل”.
أيمكن أن تكون تلك مصادفة؟
“…….”
لم يُمهل نفسه وقتًا للتفكير، بل أسرع داخل القصر.
رأى الخدم يتبادلون النظرات المرتبكة أمام زيارته المفاجئة.
كان يعلم أنه تجاوز حدود اللباقة، لكن ذلك لم يكن مهمًا الآن.
“أخبري الآنسة ليرييل أنني أريد التحدث إليها فورًا.”
قال ذلك بلهجةٍ قاطعةٍ تنمّ عن أنه لن يغادر حتى يراها بنفسه.
وكانت النتيجة…..هذه الجملة’
“ما رأيك أن نلغي خطوبتنا؟”
قالت ذلك ببرودٍ كأنها تسأله عن وجبة الغداء. فجفّ حلق فيريك من الدهشة، ثم ابتسم بسخريةٍ قصيرةٍ ما لبث أن أخفاها.
“هل هذا ما يقوله الطرف الذي أَجبر الآخر على الخطوبة؟”
بدت ليرييل مرتبكةً من نبرته الجافة.
‘هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟’
ولكي تكتم السؤال الذي كاد يفلت منها، رفعت فنجان الشاي وارتشفت رشفةً صغيرة. كان هذا ثاني كوبٍ تشربه اليوم.
ولدهشتها، بدا طعمه أفضل من السابق.
‘هل أصبح هيفال يجيد إعداد الشاي الآن؟’
لكنها سرعان ما انتبهت لنفسها.
‘هذا ليس وقت التفكير في الشاي يا ليرييل!’
حاولت أن تتمالك نفسها، ورفعت بصرها خلسةً من خلف الفنجان. و كان فيريك يرمقها بحدة، بحاجباه المرفوعان وعيناه تقدحان شررًا.
فبدأت يدها ترتجف وهي تمسك الفنجان — وقد كانت خائفةً حقًا.
‘كان يكرهني إلى هذا الحد، فظننتُ أنه سيقبل فورًا…..’
لكنها لم تتوقع رد فعلٍ كهذا.
تظاهرت بالهدوء لتكسب وقتًا، بينما كانت في ذهنها تقلب ذكريات صاحبة الجسد الأصلية، علّها تجد شيئًا فاتها.
***
قبل شهرٍ واحد — في صالون الاستقبال في قصر تريان الملكي.
“تزوّجني.”
قالت ليرييل تينيبريس ذلك بوجهٍ جامد.
للوهلة الأولى، بدا صوتها كأنه يحمل رجاءً، لكن لا أحد في القاعة فهمه كذلك. فقد كان الأمر واقعًا مفروضًا، لا طلبًا.
“….…”
كان فيريك يعلم ذلك أكثر من أيٍّ كان، لذلك نظر إليها ببرودٍ يخترق العظم.
لكنها لم تخفض عينيها، ولم تجد سببًا يجعلها تفعل. فهي صاحبة اليد العليا في هذه الصفقة، لا هو.
مهما صرخ أو هدّد، فلن تشعر بالخوف.
“وإن رفضتُ؟”
“لا أظن أنكَ تستطيع ذلك.”
رفعت ليرييل زاوية فمها بخفة، وكأنها لا تسمح حتى بمحاولة اختبار نواياها.
لقد بُذرت السموم بالفعل. ومصل الترياق كان بين يديها وحدها، ولتحصل عليه العائلة المالكة، كان عليهم تقديم ولي العهد قربانًا.
“أنتم بحاجة إلى تعاوننا لتهدئة غضب الشعب، أليس كذلك؟”
“…….”
“لو كانت هناك وسيلةٌ أخرى فلا بأس، أما أن تؤجل الإجابة المقررة فقط بدافع كرامتكَ، فذلك مشهدٌ مؤسف بعض الشيء.”
لم يكن فيريك من أصحاب الصبر. و نبرة ليرييل الساخرة كانت تُثير اشمئزازه.
أراد في تلك اللحظة أن يطيح بهذه الخطبة السخيفة ويغادر قاعة الاستقبال على الفور.
‘تباً……’
لكن كما قالت ليرييل، لم يكن بوسعه ذلك. فمنذ أن عجزت العائلة المالكة عن كبح استغلال النبلاء لرعاياهم في الوقت المناسب، انهارت ثقة الشعب تمامًا.
وكان السبب الرئيسي هو بطء تصرفات والده، الملك تسفارد تريان، في معالجة الأزمة. وقد حدث ذلك بينما كان فيريك بعيدًا عن المملكة.
“سنزيد الضرائب خمسة أضعاف.”
الحديث عن بداية الكارثة بات مثيرًا للسخرية، فكل الشرور كانت تبدأ دومًا من عائلة تينيبريس.
فقد رفعوا الضرائب المفروضة على سكان الأراضي خمسة أضعاف من دون أي سابق إنذار — رقمٌ لا يُصدق.
“يا إلهي، كيف سنعيش الآن؟!”
“ليس لدينا ما نأكله حتى الغد!”
ارتفعت صيحات الغضب بين العامة.
لكن عائلة تينيبريس لم يتراجعوا عن قرارهم. وبما أنهم من أعرق بيوت الدوقات في المملكة، سار بقية النبلاء على خطاهم ورفعوا الضرائب هم أيضًا.
وفي لحظات، انفلتت الأسعار من السيطرة وارتفعت بلا حدود.
“هل سمعت؟ ليس النبلاء من أمروا بزيادة الضرائب، بل العائلة المالكة نفسها!”
في تلك الفترة، انتشرت شائعةٌ غريبة بين الناس.
في البداية، لم يصدقها كثيرون، لكن خلال أسبوع فقط أصبح نصف سكان المقاطعات يؤمنون بها.
وكانت السنوات العجاف منذ تولي الملك تسفارد العرش سببًا كافيًا لتصديقها.
ولو أن القصر الملكي سارع حينها إلى إسكات تلك الشائعة، لكان الحال أفضل. لكن الملك كان مشغولًا بالتحقق من أنباء عن استعداد الإمبراطورية المجاورة للحرب.
“ارحلوا أيها المترفون الذين لا يشبعون بطونهم!”
“لم نعد نستطيع العيش!”
وفي النهاية، انتشرت الشائعة في كل أرجاء المملكة كالنار في الهشيم. وحين أدركت العائلة المالكة ما يجري، كان المتظاهرون قد احتشدوا أمام القصر بالفعل.
وتبين لاحقًا أن عائلة تينيبريس دعمت تلك المظاهرات سرًّا من الأموال التي جمعوها من الضرائب.
حينها فقط أدركت العائلة المالكة أنها وقعت في الفخ الذي نُصب لها.
كان مطلب دوقية تينيبريس واحدًا لا غير، أن يتحد أحد أفرادها بالعائلة الملكية لتنال بذلك شرعية التعامل مع امتيازات لم تستطع بلوغها من قبل.
أي بمعنى آخر، زواج ليرييل تينيبريس من فيريك تريان.
“هل الأمر صعبٌ عليكَ؟”
قالت ليرييل ذلك مبتسمة، وهي تطرح سؤالًا لا داعي له.
فكل هذا المخطط الشرير وُلد في عقلها هي. لا شك في أن المرأة التي أُجبر فيريك على الزواج منها كانت أشرّ شخص في تاريخ عائلة تينيبريس.
شعر فيريك أنه قادرٌ على فعل أي شيء لو استطاع فقط إزاحتها من أمامه.
“……الزواج الآن مستحيل، فالوضع في الشوارع لم يهدأ بعد، ولو أقامت العائلة الملكية حفلًا في مثل هذه الأوقات، فلن يسكت الشعب.”
لكن لم يكن أمامه سوى محاولة احتواء ما حدث. و لم يكن هناك طريقٌ للهروب.
“هممم، وماذا بعد؟”
“لن نجري زفافًا، بل نكتفي بخطوبة. حين تستقر الأسعار ويهدأ الشعب، يمكننا إتمام الزواج لاحقًا.”
كانت تلك أقصى محاولةٍ بائسة يمكنه بذلها.
ومجرد اضطراره للتفكير في “ماذا لو لم تنجح هذه الحيلة أيضًا” كان شعورًا مهينًا بحد ذاته.
“حسنًا، موافقة.”
قبلت ليرييل اقتراحه، لا من باب الرحمة، بل لأنها كانت تعلم أن الزواج الآن لن يجلب لها سوى اللعنات.
كانت نتيجةً محسوبة ببرود بالغ. فشد فيريك فكه بأسى، يبتلع مرارة الهزيمة المتدفقة في صدره.
وفجأة، نهضت ليرييل من مكانها وتقدمت نحوه. و أمسكت ذقنه بين إبهامها وسبّابتها وأدارت وجهه كما لو كانت تتفحص جوهرة جديدة في متجر فاخر.
“لكن، احرص على الاعتناء بوجهكَ جيدًا إلى ذلك الحين. لا أريد أن أفسد حفلة زفافي الوحيدة في حياتي.”
في تلك اللحظة، أدرك فيريك تمام الإدراك معنى أن “تنقطع خيوط العقل.”
__________________________
ياخي ليرييل القديمه تهبل 😂😂😂😭
الحاليه حلوه لأنها تصرع اهلها بس شسمه كلهم حلوات
المهم فيريك مايدري يلقاها من ابوه ولا ليرييل😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 17"