كان في ملامح والدي شيء من اللين، غير أنّ صوته ظلّ حازمًا وهو يقول:
“يسرّني أنكِ جادّة بشأن تجارة الإمدادات، ولكن… وليّ العهد أرسل أمرًا من البلاط الإمبراطوري بوقف الدعم الموجّه مؤقتًا لعائلة أوغست. علينا أن نطيع أوامر التاج، حتى وإن جهلنا السبب. لذا… ما رأيكِ أن ترافقيني في المرة القادمة، هاه؟.”
ربما شعر بالأسف لرفضه طلبي على الفور، فحاول أن يخفف وقع كلماته بنبرة أكثر رفقًا.
في الحقيقة، كنت أتوقّع تمامًا أن يقول ذلك.
فالبارون دوغلاس غراهام لطالما كان وفيًّا للإمبراطورية البريلانتيّة حدّ التشدّد، وحتى لو وضعنا ولاءه جانبًا، ما كان له أن يتجاهل أمرًا يصدر من وليّ العهد آرثر دي فابيان، المسؤول عن السياسة الدبلوماسية مع مملكة الوحوش “مويراي”.
لكنني كنت أعلم أنّ البطلة، القدّيسة المنتظرة، ستظهر قريبًا. وإن التقت بوليّ العهد في هذا الوقت بالذات، فسيبدأ مسار الرواية الأصلي دون أن تتاح لي فرصة التدخّل في مجرياتها.
ولذا، حتى لو نهاني وليّ العهد، أو الإمبراطور نفسه، فلا بدّ لي من لقاء دوق أوغست. فحياتي تتوقّف على ذلك، وسأتجاوز أيّ ‘حبكة روائية’ تقف في طريقي.
قلت بهدوء وأنا أنظر إلى والدي:
“أتعلم يا أبي أنّ وضع الإمدادات لدى الدوق ليس على ما يُرام الآن؟.”
“ومن أين لك هذه المعلومة؟ لا تقولي إنك بلغتِ حدّ التحقيق في الأمر!.”
وكيف لا أعرف؟ … لقد كُتب ذلك بوضوح في الرواية نفسها.
“نعم.”
نظر إليّ البارون متفاجئًا، ثم تبادل النظرات مع البارونة، قبل أن يعود بنظره إليّ وقد غيّر تعابير وجهه إلى الجديّة.
فواجهتُه بنظرة ثابتة وقلت:
“هل تخشى إلى هذا الحدّ من انتقام البلاط الإمبراطوري؟.”
منذ تأسيس الإمبراطورية، منح الإمبراطور لقب الدوق لعائلة أوغست القوية، وأسند إليها حكم الإقليم الحدودي الملاصق لمملكة الوحوش مويراي.
وقد كان الهدف من ذلك مراقبة العائلة ومنع تضخّم نفوذها، إلا أنّ النتيجة جاءت عكسية، إذ حظيت أسرة أوغست بحبّ الشعب وإجلاله، أكثر من الأسرة الإمبراطورية ذاتها.
ومنذ ذلك الحين، ظلّت العلاقة بين الجانبين علاقة تعاونٍ دقيقٍ تخالطه منافسة خفيّة.
وفي خضمّ هذا التوازن، كان والدي البارون دوغلاس غراهام مخلصًا للعرش إلى درجة التعصّب.
“طاعة وليّ العهد أمر مهمّ، بلا شك، ولكن إن لم نمدّ يد العون للدوق الآن، فماذا سيحدث؟ مهما بلغت مهارة الدوق كسيدٍ للسيف، فإن لم تصل المؤن في وقتها، فسيخسر الحرب، أليس كذلك؟ وماذا سيؤول إليه حال مقاطعتنا بينز حينها، يا أبي؟.”
“يوريا…”
“صحيح أنّها منطقة ريفية، لكنها تدفع ضرائب هائلة للإمبراطورية. وإن أصابها الدمار، فستتأثر مالية الإمبراطورية بأكملها، أليس كذلك؟.”
“هذا… صحيح…”
“وإذا مات الجميع، فلا فائدة من كل ذلك، أليس كذلك؟.”
بالطبع، كنت أعلم أنّ ذلك لن يحدث. فالرواية تضمن فوز زافيار أوغست في النهاية. لكن والدي، الذي يجهل كل ذلك، بدت عليه علامات الاضطراب.
فقلت بنبرة حازمة ولطيفة في آنٍ واحد:
“سأعقد اتفاقًا لمدة شهر واحد فقط. وسأثبت لك أنني أجيد التجارة حقًّا. سأدفع التكاليف بنفسي، ولن أطلب دعمًا من أحد. فقط هذه المرة، يا أبي.”
“همم… همم… ولكن لم نوقّع أيّ عقد مع الدوق من قبل، هذه المرّة…”
ابتسمت بثقة وقلت:
“الدوق لن يستطيع الرفض.”
رفعت رأسي ونظرت إليه بنظرة متوسّلة ممزوجة بالبراءة، فارتخت حاجباه الكثّان شيئًا فشيئًا بعد أن كانا مشدودين.
رائع، لم يبقَ سوى القليل وسأقنعه!.
لكن تمثيل البراءة لم يكن سهلًا أبدًا، فقد كانت الرعشة تسري في داخلي من شدّة التكلّف.
وفجأة، جاءني صوت النجدة من جانبي.
قالت البارونة ناومي، والدتي، بابتسامة وادعة ولكنها حاسمة:
“دوغ، إنّ كلام يوريا منطقي تمامًا. يمكنك أن تتذرّع بالضرائب أمام البلاط الإمبراطوري، ولن يُؤخذ الأمر عليك. ما رأيك أن تمنحها شهرًا واحدًا فقط؟ دَعْها تذهب، فالفتاة تطلب ذلك بإخلاص شديد.”
تحوّل نظر والدي منّي إلى أمي. كانت نظراتهما صامتة لكنها حاسمة. ثم رفعت أمي يدها وأخرجت من بين شعرها ربطة مزينة بخنجر صغير، وجمعت شعرها الطويل بإحكام.
وفجأة تبدّل الجوّ من حولها، واندفعت منها هيبة قوية جعلت وجه والدي يشتدّ توترًا. ثم قال أخيرًا بعد أن بلع ريقه:
“ما دمتِ أنتِ تقولين ذلك… فلا بأس إذًا، يمكنها الذهاب.”
تجمّدتُ من المفاجأة، وقد تغيّر الموقف فجأة دون أن أفهم كيف.
نظرتُ إلى أمي بدهشة، فبادلتني ابتسامة عريضة بعينيها الخضراوين، وهمست بصوتٍ لا يسمعه سواي:
“أمّك تؤازركِ، يا ابنتي، فاحرصي على النجاح مع الدوق!.”
‘هاه؟ أمي، ليس هذا ما أقصده إطلاقًا!.’
لكنّي لم أستطع قول شيء سوى أن أبتسم بتوتر.
وأخيرًا قال والدي بصوتٍ خافت:
“خذي معكِ مجموعة من المرتزقة للحراسة في الطريق، ولا تقلقي بشأن البلاط، افعلي كما قلتِ.”
‘نجحت! الحمد لله!.’
“نعم، شكرًا لك يا أبي!.”
“رحلة موفّقة، يا ابنتي.”
فالتفتُّ إلى أمي قائلةً ببهجة:
“وداعًا يا أمّاه.”
“لتعودي بأمان، يا صغيرتي.”
لقد نجحت فعلًا!.
صعدت إلى غرفتي وأنا أكاد أطير من الفرح، وفتحت الخزنة الصغيرة في غرفة الملابس. كانت مكدّسة بقطع المجوهرات، فضلًا عن حسابي البنكي الذي يفيض بما يُسمّى ‘مصروفًا شخصيًّا’، وإن كان بالمليارات!.
فككت أحد أكياس الجواهر ونثرتها على منضدة الزينة، فتناثرت حباتها بلمعانٍ بديع وصوتٍ موسيقيٍّ أخّاذ.
آه… ما أروع هذا الصوت! لا يجوز أن أستمتع به وحدي.
مددت يدي إلى الجرس الفضي وناديْت الخادمة بحماس. دخلت مايا خلال لحظات رغم أنها لم تكن في انتظار النداء.
“هل استدعيتِني يا آنستي؟.”
“هيّا بنا إلى متجر الملابس، لنبحث عن ثياب مناسبة.”
—
بعد وقت قصير، وقف المصمم الرئيس في متجر رويال أمامي وهو يمسح دموعه بمنديل وردي قائلاً:
“يا آنسة غراهام، لقد صببتُ روحي كلّها في هذا العمل. هذه أفضل قطعة صنعتها في حياتي.”
نظرتُ إلى المرآة الكبيرة أمامي وقلت بإعجاب صادق:
“رائع! هذا تمامًا المقاس الذي أردته.”
كان الزيّ أسودَ من الرأس إلى القدمين، تتوسّطه شارة أنيقة تشبه أثر جناحٍ يخترق الريح.
“أريد من هذا التصميم كلّ الألوان المتاحة.”
اتّسعت عينا المصمم بدهشة وقال:
“كـ… كلّ الألوان؟.”
“نعم، بالطبع. أعجبني كثيرًا.”
تنفّس المصمم بارتياح وهو يتمتم متأثرًا:
“اه… أخيرًا أعجبكِ بعد القطعة العاشرة…”
ربما كنت قاسية عليه قليلًا، إذ لم يبدُ الزيّ في البداية كما تخيّلته، رياضةً وأناقةً في آنٍ واحد. فليس في هذا العالم شيء اسمه ‘ملابس رياضية نسائية’ سوى ثياب الفروسية ذات التنانير الطويلة، فاضطررت إلى طلب هذا التصميم خصيصًا.
ابتسمت له بلطف وقلت:
“لقد أتعبتك، لكنك أبدعت. وسأعهد إليك بتصميم جميع أثواب الربيع والصيف هذا العام.”
تهلّل وجهه وقال متملّقًا وقد لمح مكسبه القادم.
“يا لها من ذائقة متقدّمة! إنّها لنعمة أن أعمل تحت إشرافكِ يا آنستي!.”
في لحظة، انتصب المصمم كمن استيقظ من غيبوبة، وأشار بأدبٍ صارم إلى الفتيات الثلاث نحو الباب.
“انتهى العمل لهذا اليوم. أرجوكنّ، اخرجنّ الآن.”
“ما هذا التصرف؟!.”
لكن الباب أُغلق بإحكام خلفهنّ، لتنتهي المواجهة بانتصارٍ هادئ.
—
وفي مكانٍ بعيد عن ضوضاء المدينة، كان المشهد مختلفًا تمامًا.
رائحة الموت تملأ الهواء… دماء، جثث متحلّلة، ودخان معارك لا ينطفئ.
وعلى طرف جرفٍ حادّ كالسيف، وقف رجلٌ أسود الشعر، تنعكس عليه أشعة الشمس الآفلة فيتوشّح خصلُه بلمعة فضية باهتة.
كان زافيار أوغست، صاحب العينين الزرقاوين المخضبتين ببريقٍ بارد، معتادًا على مراقبة ساحات القتال من أعاليها.
قطّب حاجبيه وهو يتأمل سلسلة جبال بيرن الممتدة بين إمبراطورية بريلانت ومملكة الوحوش مويراي. وكان يرى بوضوح معسكر الأعداء خلف النهر.
أربعة أشهر مرّت منذ اندلاع الحرب.
ورغم أن قوات مويراي تراجعت كثيرًا أمام جيش البشر، فإنها لم تُبدِ أيّ نيةٍ للاستسلام. كان حدّه الحديدي على الحدود صامدًا، غير أن جيشه بدأ ينهك من المعارك المتكرّرة.
تمتم زافيار وهو يضيق عينيه:
“تسك… هل سيواصلون القتال حتى آخر رمق؟.”
التفت حين سمع صوتًا مألوفًا يناديه من الخلف.
“سيدي الدوق، أأنت هنا؟.”
فالتفت نحو الصوت، فإذا به مساعده الوفيّ، ريكستون شو، يحمل في ملامحه قلقًا خفيفًا.
قال ريكستون بصوتٍ متردد:
“ورد تقرير من الكشّافة، يا سيدي. هناك عشرون عربة تتقدّم نحونا، وتحمل شعار عائلة غراهام.”
رفع زافيار حاجبيه بدهشة.
“بارون غراهام من بينز؟.”
“كلا، يا سيدي. بعد التحقق، يبدو أن مَن تقود القافلة هي الآنسة يوريا غراهام، ابنة البارون.”
تجمّدت ملامح الدوق الوسيم لوهلة، ثم تمتم بغير تصديق:
التعليقات لهذا الفصل " 5"