4
في اليوم التالي، وبعد أن نمت حتى وقت متأخر، نزلتُ إلى قاعة الطعام مع اقتراب موعد الغداء. كان البارون والبارونة غراهام قد سبَقاني إلى المائدة.
استقبلاني بابتساماتٍ مشرقة كالأزهار، كما لو كنتُ أغلى ما في الدنيا.
كان دوغلاس غراهام، ذو العينين الزرقاوين بلون السماء تمامًا كعيني يوريا، أول من حيّاني بصوتٍ مفعم بالبهجة:
“يوريا، يا ابنتي، تعالي واجلسي هنا!.”
يبدو أن مزاجه في أحسن حال، لا شكّ أن جوزيف كتب له تقريرًا جيدًا عن ‘تحسّن سلوك ابنته’.
أما البارونة ناومي غراهام، فكانت تجلس مقابلي، وابتسامتها تنضح دفئًا وأناقة.
“هيا يا عزيزتي، اقتربي.”
‘يا لقلبي المسكين!.’
البارونة بشعرها الأشقر الداكن وعينيها الخضراوين تركت في نفسي أثرًا عميقًا. مظهرها أنيق وشخصيتها دافئة ومنعشة في آنٍ واحد. قلبي لم يحتمل لأنها تشبه ممثلتي المفضلة إلى حدٍ مدهش. جلستُ وأنا أختلس إليها النظرات خفية، أحاول ألّا يُكشف أمري.
إنها مدهشة في كل مرة أراها فيها.
في الحقيقة، أمي في هذا العالم، البارونة ناومي غراهام، تشبه الممثلة سكارليت جوهانسون! بل تبدو كأنها تستطيع أن ترتدي بذلة سوداء ضيقة وتبدأ بإطلاق النار في أي لحظة.
أنا حقًا من أشدّ معجبيها!.
تمنيت لو أستطيع أن أناديها بـ’أختي’.
مجرد التفكير بأن تلك السيدة الساحرة هي أمي يجعلني أذوب خجلًا وسعادة.
آه! كم أحب أختي الرائعة!.
أختي، أختي، أختي!.
حسنًا، سأناديها بذلك في سري فقط.
وبينما كنتُ أستغرق في إعجابي الخجول بها، التمعت عينا البارونة الخضراوان وهما تتأملانني بحنان.
كانت نظرتها دافئة، مليئة بالمحبة، تختلف تمامًا عن نظرات زوجة أبي السابقة في كوريا.
“كُلي جيدًا، يا عزيزتي.”
“نـ… نعم، يا أخـ… أمّاه.”
كدتُ أن أناديها ‘أختي’ لولا أن تداركت نفسي في اللحظة الأخيرة.
في تلك الأثناء، دخلت الخادمات يحملن صواني الطعام، وبدأن يضعن الأطباق الجديدة على المائدة.
‘أمّاه، كنتُ سآكل كثيرًا على أي حال!.’
فمع هذا الكم من الأطباق التي تليق بفندقٍ من فئة الخمس نجوم، كيف لي أن أكتفي بالقليل؟.
خبز أبيض طري تفوح منه رائحة الزبدة، وحساء كريمي ينزلق في الحلق بسلاسة، وقطع لحم مطهية برفق تتبّلها رشة فلفل تحرّك الشهية، ثم يختم الطبقُ دجاجًا مطهوًا حتى يذوب على اللسان.
على الرغم من أنني أردت أن أتناول طعامي برقيٍّ وهدوء، إلا أن ملعقتي كانت تتحرك بلا توقف بين الطبق وفمي.
كان البارون والبارونة يراقباني بعينين يفيض منهما الحنان والفخر.
قال البارون ضاحكًا:
“جميل أن نرى يوريا تأكل بهذا النهم هذه الأيام، هاها!.”
وأضافت البارونة وهي تبتسم بلطف:
“كنا نقلق عندما كانت ترفض الطعام، وتقول إنها تريد أن تخسر وزنها لتتزوج الدوق، وتجوع نفسها حتى كادت تنهار… الحمد لله أنكِ بخير الآن.”
ثم قالا معًا، كما لو اتفقا مسبقًا:
“يوريا، لن تكرري ذلك أبدًا، أليس كذلك؟.”
“بالطبع لا يا أبي وأمي، لمَ كنتُ أفعل ذلك أصلًا؟.”
أجبت بابتسامة بريئة تشبه ابتسامة يوريا الأصلية. ثم وضعت آخر قطعة لحم في فمي بمرح.
كانت يوريا، الابنة الوحيدة التي أُنجبت متأخرًا، قد أضربت عن الطعام أسبوعًا كاملًا مطالبة بالزواج من الدوق زافيار، حتى أغمي عليها.
ومنذ تلك اللحظة، وُجدتُ أنا في جسدها.
كانت تبلغ التاسعة عشرة بحسب تقويم إمبراطورية بريلانت، لكنها كانت في غاية الطيش.
لم تهتم إلا بالتسوق والمجوهرات، وأهملت دراستها، تصرّ على أن يُنفّذ كل ما تريد.
عرفها الجميع في إقليم بينز، حيث يحكم والدها البارون دوغلاس، وذاع صيتها في العاصمة بوصفها ‘الشريرة الصغيرة’.
كانت قصيرة القامة وجميلة الوجه، لكن طبعها الحادّ أكسبها ذلك اللقب.
ولأنني الآن أكثر هدوءًا واتزانًا منها، فقد رأى الجميع فيّ تحسنًا كبيرًا حتى في أبسط الأمور.
يا له من نعيم! حياةٌ يُكافئك فيها الناس على مجرد الأكل والتصرّف بلطف!.
لا حاجة بعد اليوم لأعمالٍ مؤقتة أو سياقة ليلية مرهقة…
وقبل كل شيء، وجود والدين محبين وحنونين جعل من هذا العالم جنّة حقيقية بالنسبة لي.
لكن البارون قاطع سعادتي بسؤاله المفاجئ:
“لكن، يوريا، كيف أفسدتِ لقاء الزواج بتلك الطريقة؟.”
“كح! كح!.”
اختنقت بقطعة من لحم العجل الذي قُدّم للتو.
سألتني أمي بنظرة عتاب موجهة لأبي:
“هل أنتِ بخير؟. عزيزي، لمَ تثير هذا الموضوع وهي تأكل بهذا الشغف؟.”
“آه… آسف، يوريا، هل أنتِ بخير؟.”
“نـ… نعم، أنا بخير تمامًا.”
“يا للعجب، لم تغضب هذه المرة!.”
تدمعت عينا البارون الكبيرتين من التأثر. كان حقًا أبًا عطوفًا ورجلًا طيب القلب.
كانا يثقان تمامًا أن ابنتهما، رغم طبعها العاصف، ستتغير يومًا ما. حتى بعد ما حدث في لقاء الزواج، جلسا إلى جواري ككلبين ذهبيين وديعين، ينتظران كلماتي بصبر ومحبة.
لم يكن هناك وجه مقارنة بينهما وبين والديّ في العالم الآخر، لا في الطيبة ولا في الغنى.
الفرق بينهما شاسع إلى حدٍّ لا يُقاس.
ما زلتُ أذكر حين كنتُ في المدرسة المتوسطة، وطلبت من زوجة أبي في كوريا القليل من المال، فانهالت عليّ ضربًا بمعلاق الحذاء، وصراخها الحادّ ما زال يطنّ في أذني.
بعد أن عشت في قاع المجتمع، في كوريا المليئة بوحوش الرأسمالية، جائعةً للمال ولحبّ الأهل، كان هذا العالم فرصة جديدة للحياة.
لم أُمنح قوى سحرية ولا قدرات خارقة كما يحدث في الروايات، لكني حظيتُ بما هو أثمن: ثروة لا تُنفق في عمرٍ كامل، وأبٍ يملك أكثر منها.
حين رأيت رصيدي لأول مرة، وقد تجاوز مئات المليارات، اتخذت قراري.
‘نعم، سأعيش هنا… وسأموت هنا.’
من الآن فصاعدًا، هذا هو وطني، وهذه المدينة هي مسقط رأسي، وهذان هما والداي. سأعيش مرتاحة، وآكل جيدًا، وألهو، وأشيخ بسلام حتى يُواريني التراب في هذه الأرض.
حقًا، لا نعمة تضاهي نعمة الأبوين!.
لقد منحني الله فرصة لأعيش مكرَّمة ومرفَّهة، وعليّ أن أتمسك بها جيدًا.
مسحتُ فمي بمنديلٍ أبيض، ثم نظرت إلى والديّ الجالسين أمامي بشَعرهما الأشقر المائل للذهبي.
“لديّ أمر أودّ إخباركما به.”
ما إن سمع صوتي حتى أشار أبي إلى الخدم كي يغادروا القاعة، فخلا المكان من سوانا نحن الثلاثة.
نظر إليّ البارون بوجهٍ جادّ وقال:
“سأسمع منكِ ما حدث في لقاء الزواج لاحقًا، لكن أخبريني الآن، ما الذي تريدينه؟.”
تنفست بعمق ثم قلت بثقة:
“أريد أن أتعلّم التجارة.”
“ماذا؟!.”
اتّسعت أعين والديّ من الدهشة.
“أأنتِ جادّة؟.”
“نعم. ما قلتماه سابقًا صحيح، فأنا الوريثة الوحيدة لدم عائلة غراهام، وعليّ أن أبدأ التعلم.”
فتح أبي عينيه على اتساعهما حتى كادتا تبرزان من الدهشة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة.
“في الواقع، لقد أدهشني تقرير جوزيف هذا الصباح! نظّمتِ سجلات المحاسبة المزدوجة بإتقان، بل واستعنتِ بساحر ماء أيضًا؟.”
“نعم، هذا صحيح.”
“لم أدرك من قبل أنكِ تمتلكين مثل هذه الكفاءة!.”
“بل كنتُ طائشة فحسب. أظن أنني أفقتُ بعد أن فقدتُ الوعي.”
تلألأت عينا الرجل الخمسيني بالعطف، وبدا التأثر واضحًا على أمي أيضًا.
لكن ما أردت قوله لم يكن سوى البداية. قبضتُ كفّي بإصرار وقلت:
“لكن، بدلًا من مجرد التعلم، أريد أن أنقل بنفسي المؤن العسكرية إلى جبال بيرن، حيث اندلعت الحرب.”
ارتجفت كتفا البارونة من الصدمة، وحدّق البارون بي مذهولًا وقال متلعثمًا:
“لـ… لا تتحدثي بهذه السخافات! يمكنكِ إرسال المؤن دون أن تذهبي بنفسكِ، فلماذا تذهب فتاة إلى ساحة المعركة؟.”
“صحيح، يوريا، الأمر في غاية الخطورة هناك!.”
‘ومن لا يعلم ذلك؟! أنا نفسي لا أرغب بالذهاب.’
لكن، لكي ينجح مخططي، كان عليّ أن أذهب بنفسي، وبموافقة والديّ تحديدًا.
وضعتُ أمامهما ظرفًا كبيرًا من الأوراق رتّبته بعناية، حتى شكّل كومة صغيرة فوق المائدة. كانت هذه خلاصة خبرتي الطويلة في الأعمال المكتبية والوظائف الجزئية، وقد صنّفتُ فيها البضائع التجارية بدقة.
“ستفهمان قصدي إن قرأتما تقرير جوزيف وهذه المستندات. لم أطرح الأمر عبثًا، بل لأني أريد فعلًا أن أعمل في مجال التجارة.”
تبادل والداي النظرات ثم بدآ يقلبان الأوراق بتركيز.
قلت متابِعة:
“صحيح أنّ ما قاله أبي منطقي، فربما لا تكون هناك مشكلة إن اكتفينا بإرسال المؤن. لكن… هل يكفي أن نرسل البضائع من دون أن نعرف ما يحتاجه الجنود حقًا؟ أريد أن أرى الوضع بنفسي، وأتأكد من احتياجاتهم على أرض الواقع.”
رفع أبي نظره عن الأوراق وقطّب حاجبيه قائلًا بصوتٍ متردد:
“ألا تفعلين ذلك لأنك لم تتمكني من نسيان الدوق أوغست؟.”
ارتجفت يدي قليلًا. كانت دوافعنا مختلفة، لكن الهدف واحد، لذا لم يكن جوابه بعيدًا تمامًا عن الحقيقة.
كان البارون دوغلاس يريد تزويج ابنته خلال العام، فالقانون الإمبراطوري يشترط الزواج لوراثة اللقب والأرض. وربما شعر بالأسف على ابنته التي كادت تموت جوعًا لأنها لم تستطع نسيان زافيار.
لكن لو تركتُ الأمور تسير كما يشاء وتزوجت؟.
فسنموت جميعًا على يد الدوق خلال عام، نحن وسكان إقليم بينز الذين سيجرفهم لهيب الحرب.
لذلك تظاهرتُ بالغباء يوم اللقاء، لأُفسد الخطوبة بحجة الدوق، تمامًا كما فعلت يوريا من قبل.
لم أستطع الردّ فورًا، فتدخلت أمي بلطف:
“والدكِ قلق عليكِ، يا عزيزتي، فتفهّمي موقفه.”
لا بدّ أنهما يظنان أنني لا أزال متعلّقة بحبي القديم.
توقّعت توبيخًا، لكن كلماتها الرقيقة كانت أدفأ مما احتملت، فغرست في قلبي وخزًا مؤلمًا من الامتنان.
ومع ذلك، إن أردت البقاء حيّة، فعليّ أن أفعل ما يجب فعله.
نظرت إلى والديّ بعزم وقلت بهدوء:
“صحيح، لم أنسَ الدوق تمامًا.”
ارتجف كتفا أبي من وقع الجملة، ربما شعر بالحزن على حماقة ابنته.
“لكنني أفرّق بين الأمور الخاصة والعامة، يا أبي. لن أذهب لأجل الدوق، بل لأرى وضع كتيبته العسكرية وأتحقق من احتياجاتها.”
وفقًا لأحداث القصة الأصلية، لم تكن هناك فرصة أنسب من هذه لتنفيذ خطتي. كانت هذه اللحظة المثالية لخلق سببٍ يجعلهم يقبلون طلبي دون تردد.
نظرت إليهما بعينين واثقتين وقلت أخيرًا:
“لذا… أرجوكما، اسمحا لي بالذهاب.”
Chapters
Comments
- 4 - أريد الذهاب إلى الدوق منذ يومين
- 3 - الأسبَق يحظى بالأفضل منذ يومين
- 2 - سأغيّر هذه الحكاية البائسة. منذ يومين
- 1 - لا بأس أن أكون سيّدة تافهة. 2025-10-04
التعليقات لهذا الفصل " 4"